للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

آفات في طريق الدعوة

عبد الرحمن دمشقية

الدعوة إلى الله ميدان رحب سلك فيه الداعون إلى الله أساليب متنوعة بهدف

تبليغ الحق والنصح للأمة أفراداً وجماعات، والدعاة الصالحون المستنون بمنهج

أهل السنة والجماعة يعملون بكل جهد واجتهاد للاقتداء بسنة الرسول الأعظم -

صلى الله عليه وسلم - وبصحابته ومن تبعهم بإحسان. إلا أن هذا الميدان الهام قد

يدخله وينتسب إليه نفر ليسوا على المستوى المطلوب علماً وتربية وسلوكاً، وقد

ينزلقون في خضم دعوتهم إلى أخطاء وملاحظات قد تنعكس سلباً على هدف الدعوة

السامي. والكاتب يبين لنا بعض الآفات على طريق الدعوة للحذر منها وعدم

الوقوع فيها لتكون دعوة الداعي الحق على نور من الله ووفقاً لسنة رسوله - صلى

الله عليه وسلم -.

- البيان -

الآفة الأولى:

الشرك وقلة الإخلاص وابتغاء الدنيا بعمل الآخرة: عن أبي سعيد بن فضالة

قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جمع الله الأولين

والآخرين ليوم القيامة - ليوم لا ريب فيه - ناد منادً: من كان أشرك في عمله لله

أحداً فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» [١] . وقال:

«بشِّر هذه الأمة بالتيسير والسناء والرفعة بالدين والتمكين في البلاد والنصر فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب» [٢] . وقال:

«إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فقالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله -عز وجل- إذا جزى الناس بأعمالهم: ... اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم

جزاء» [٣] .

الآفة الثانية:

كتم العلم والتكاسل والتباطؤ عن نشره: فإن مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدِّث

به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه. كما قال ذلك رسول الله [٤] . وقد أخذ

الله الميثاق على الذين أوتوا العلم أن يبينوا ولا يكتموا [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ] [آل عمران ١٨٧] . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كتم علماً

لجم يوم القيامة بلجام من نار» ، وفي رواية: (ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا ...

أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار) [٥] .

الآفة الثالثة:

مخالفة العلم للعمل، وذلك بأن يعظ الناس بخير لا يبالي هو العمل به قال

تعالى: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] [البقرة ٤٤] . وقال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم -: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق

أقتابه [٦] فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فتجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان! ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه» [٧] .

وقال: (مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار،

قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون) [٨] .

وجاء في رواية: «ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به» [٩] . وفي رواية

يخالفونه بالنهار وينامون عنه بالليل.

وأخبر أن مما يسأل عنه العبد يوم القيامة «عن علمه ماذا عمل به» [١٠] ...

وضرب مثلاً لمن يعلم النار وينسى نفسه قائلاً: «مثل الذي يعلم الناس الخير

وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» وفي رواية: «كمثل

الفتيلة، تضيء على الناس، وتحرق نفسها» [١١] . فهذا العلم الذي يتصف به

العالِمٌ، عِلمٌ ضار بصاحبه غير نافع له هو حجة عليه. وقد كان رسول الله -

صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من علم لا ينفع [١٢] .

الآفة الرابعة:

الادعاء والمباهاة بالعلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يظهر

قوم يقرأون القرآن يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال

لأصحابه: هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أولئكم منكم

من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار» [١٣] .

الآفة الخامسة:

طلب العلم للمجادلة وغلبة الناس: حيث يظهر المجادل وكأنه ينتصر للحق،

وإنما يريد إثبات ذكائه وقوة لسانه، إن هذا في الحقيقة يريد العزة لنفسه لا لربه.

لقد كان الشافعي -رضي الله عنه- يقول: «ما جادلني خصم إلا وتمنيت أن يظهر

الله الحق على لسانه» .

الآفة السادسة:

التعصب لأقوال الائمة والعلماء، ومحاولة تبرير أخطائهم. ولم أر شيئاً

يحجر العقول مثل التعصب لعالم أو لمذهب، لأن التعصب منهج بعيد عن منهج

الإسلام لا يفسح المجال للعقل ليكون مرناً يفحص الأشياء.

أين الطريق:

إن الذي فرض هذه الغاية لم ينس أن يعلمنا الوسيلة لتحقيق هذه الغاية، قال

تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ

أَحْسَنُ] ، [ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] .

إن الدعوة يجب أن تقترن بالخلق الحسن، ولين الجانب، والتأمل والتريث.

وإن خلت من هذه العوامل فقد تنفع المدعو، وقد تضر به إذ تدفعه دعوة الحق -

بالأسلوب الباطل - إلى الإصرار على الخطأ. فإن الناس معادن ويختلفون في ردة

الفعل. لذا كان قدوتنا في ذلك الخُلُق العظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الذي وصفه الله تعالى بقوله: [وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم ٥] ، وقد قال هو

عن نفسه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [١٤] .

وإذا كان التحلي بالخلق الحسن واجباً على الناس جميعاً فهو على الداعية

أوجب وأحرى. وكذلك قصة الإعرابي الذي بال في المسجد فراه الصحابة وهموا

بضربه، فزجرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرهم أن يهريقوا فوق

بوله سَجْلاً [١٥] من ماء، ثم قال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» .

فما كان من الأعرابي إلا أن قال: «اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً

أبداً» . لقد رأى من النبي - صلى الله عليه وسلم - من حسن الخلق ومن السماحة واللين ما لم ير من غيره.


(١) رواه الترمذي في التفسير، والحاكم ٤/٣٢٩، وقال صحيح ووافقه الذهبي.
(٢) رواه أحمد في المسند ٥/١٣٤، والحاكم ٤/٣١١، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(٣) رواه أحمد في السند ٥/٤٢٨ بإسناد جيد.
(٤) رواه الطبراني بإسناد ضعيف غير أن له شاهداً من حديث ابن عمر الذي رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (١/١٢٢) فالحديث بذلك حسن الإسناد قاله الألباني (صحيح الترغيب والترهيب رقم ١١٧) .
(٥) رواه ابو داود والترمذي وحسنهّ وصححه الألباني الترغيب رقم (١١٦) .
(٦) أي تخرج أمعاؤه من داخل بطنه.
(٧) متفق عليه.
(٨) رواه البيهقي وابن حبان وصححه الألباني في الترغيب رقم (١٢١) .
(٩) رواه البيهقي وابن أبي الدنيا بإسناد صحيح، صحيح الترغيب للألباني رقم (١٢١) .
(١٠) رواه الترمذي، والمنذري وصححه الألباني في الترغيب رقم (١٢٣) .
(١١) رواه الترمذي، والطبراني في الكبير وقال المنذري " إسناده حسن " وصححه الألباني في الترغيب رقم (١٢٦) .
(١٢) رواه مسلم رقم (٢٧٢٢) .
(١٣) رواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن، (صحيح الترغيب ١٣١) .
(١٤) رواه أحمد ٢/٣٨١ والبراز كما في المجمع وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
(١٥) سَجْلاً: أي دلواً.