للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

نوافذ الوجع في ديوان

(صراع مع النفس) [*]

بقلم: محمد شلاّل الحناحنة

كيف نحدد الحزن على خارطة المشاعر.. كيف نرنو لسروة الروح ودمنا ... يتصفد حاراً في العروق؟! كيف نهز تفاحة الشعر لنقترب من الأرض، ونؤاخيها ... بدلاً من أن نؤطِّر الصراع معها؟! لِمَ ننزف هذا الشجى فجأة لنقطف وردة؟ أو ...

نؤلب أبجدية النفس لمزيد من صفاء الفكر؟ !

هذا ما فاح عليَّ أثناء قراءتي لديوان (صراع مع النفس) لشاعرنا الدكتور ...

عبد الرحمن صالح العشماوي. هذا الديوان يجعلك تلوّح من بعيد لأزهار الأسئلة،

تنتفض كطائر جريح أمام حسرة الفجائع، إنه الألم المترع بالآهات والعذاب وهو

بعد ذلك غصة تمتطي القلب:

وتلك بعض نفسي ...

في فرحتي وبؤسي ...

تدق من ألحانها ...

لحزنها بجرسِ ...

كتبتها (قصائداً) ...

لتستريح نفسي ...

هذا الحزن الصافي الذي ينشده عبد الرحمن العشماوي لا يرتطم بعبثية

الموقف، ولا يندحر أمام (مازوخية) ، مَرَضية في تعذيب الذات كما تحطمت ...

نفسيات كثير من الشعراء التائهين الضالين بين لُجج الفكر المنحرف المستهلَك،

وهو بعد ذلك لا يروم في حزنه عبر ضبابية تنصهر على مذابح السريالية.

إنه يستدرك التساؤل المرير عن سر صراعه وألمه:

لكنني بشريعتي أحيا على درب اليقين ...

أنا عاشق للقمة الشمَّاء للحبل المتين ...

لكتابي السامي ويكفيني به شرفاً ودينِ ...

أليست هذه الأوبة، أوبة الواثقين المتمسكين بحبل الله المتين، أليس هذا

العشق عشقاً لليقين، عشقاً للمعاني الخالدة، والقيم الإسلامية المثلى.

حقاً، ما كان هذا صراعاً بقدر ما هو مشاعر إسلامية تتوثب، كأن أحلاماً

جميلة واثقة تترعرع، وحنيناً متوقداً لشرفات الفضيلة، وعزماً يؤوب إلى الخلود:

نهوى شباباً شاعريَّ ... الحسِّ موفورَ الحنين

متوقد العزمات ... شرف وذا خلق ودين

ذا يعلو بدين الله في ... صف الرجال الخالدين

إنها الانطلاقة نحو عزيمة صادقة، تتدفق بالأحاسيس الواعدة شمماً وتشهد

لهذا الشمم غايات تفضي إلى غايات خصيبة:

ومشاعر الإيمان تسقي أرض أحلامي الخصيبة ...

فمضيت أدعو أمتي لترد أوطاننا السليبة ...

يا أمتي سِيري فكأس النصر دانية خصيبة ...

أما رموزه فهي شفيفة قريبة قرب الندى لشفاه الورود، وقرب الفكر الإسلامي

لفطرة الإنسان، فيها بساطة متميزة، ويقظة صادقة لجراح دفينة، فتلك شجرة لوز

مخضرة ندية العود، إلا أنه لا يلبث أن يعريها الظمأ والغياب عن ذبول ويباس:

أسقطت أغصانك الخضراء أحداث الدهور ...

وتوارى حسنك المحبوب في ظل العصور ...

لم تعودي بسمة الروض وهيفاء الغدير ...

أين أغصانك ذات الرقص في عز الجذور ...

هكذا استسلمت في يأس فأيقظت شعوري ...

وأسلت الدمعة الحسناء من جفنى الكسير ...

هكذا ذكرتني بالخالق الحي القدير ...

هكذا ينزّ الوجع عبر هذه المعادلة المرة، هذه المعادلة التي صاغها شاعرنا

متوجعاً ومستشرفاً رموزه المغرقة بالأنين، إنه وحدة المصير للكائنات الحية جميعاً

ولكن الإنسان بما منحه هذا الخالق المبدع من تكريم وتقدير هو المعني الأوحد بهذا

المصير، أما بقية المخلوقات فسخرها الرحمن بشكل أو بآخر لهذا الإنسان الذي

كرمه ونعمه! وإن كان الموت نهاية هذا الوجود الدنيوي، وهو مقدمة لما بعده من

حياة أخرى، فما بالنا نتكالب على الحياة الفانية ونعرض عن الحياة الخالدة، أو

ليس هذا ظلماً لأنفسنا، وهل بعد هذا الظلم من ظلم! !

وتمضي القصائد في اقتناص دهشتها من عصارة القلب، ناشرة حسرتها

ولواعجها المؤلمة، إلا أنها أخيراً تركن إلى مجد هذا الدين، وتأوي إلى عالم

الأسرار:

لا تسألي عن ضيق صدري ...

أنا مغرم بخلاص أسري ...

أفضي وايماني قريني ...

والهداية رأس أمري ...

أنا لست إلا مؤمناً ...

بالله في سري وجهري ...

نسمات من الإيمان يعزفها شاعرنا العشماوي، وذكريات حزينة رهيفة يرويها

بعطر دمه، فتتوهج الضلوع ببوح شفيف عبر قصائده، ويوشوش بخواطره الدافئة

أغصان القلوب، وهي تجدف لبث عبيرها الإيحائي من خلال صور شعرية مكثفة

ونابضة بالحياة، يرف مع رفيف طيور الأسى، ويشدد للشمس أوجاعه وآلامه

الحرّى:

فابسمي يا شمس للولهان ...

للقلب الكئيب ...

كل نجم سوف يغفو ...

بين أحضان المغيب ...


(*) صراع مع النفس للشاعر الدكتور عبد الرحمن صالح العشماوي.