للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منتدى القراء

أهمية فقه سُنة الابتلاء

راشد حُسين آل عبد الكريم

إن معرفة الطريق الذي يسير فيه الإنسان لبلوغ هدفه أمر ضروري لمواصلة

سيره دون انقطاع أو فتور، لتجنب ما يمكن تجنبه من العوائق في هذا الطريق.

ومما لا شك فيه أن طريق الدعوة إلى الله طريق طويل وشاق؛ إذ إنه يبدأ منذ أن

يعقل الإنسان دوره ووظيفته في هذه الحياة، ولا ينتهي إلا إذا انتهت المسافة التي

حددها الله له في هذا السفر - وهي عمره - والتي لا يدري عنها المسافر شيئاً،

هذا إذا واصل في هذا الطريق، ولم يستطل المسافة أو يستصعب السير فيبحث عن

طرق أخرى يراها أقصر أو أسهل. وقد يكون فيها هلاكه المحقق!

السمة البارزة لهذا الطريق - كما يذكر الله (تعالى) في كتابه، وكما يذكر

رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكما يذكر التاريخ ويؤيده الواقع أيضاً - أنه

طريق ابتلاء وامتحان، طريق محفوف بالمكاره، يشتد الابتلاء فيه - بشتى صوره

- ويكبر كلما أوغل السائر فيه وهو مُصر على التقدم.

وهذا التصور يفيدنا في أمور لعل من أهمها:

١- الاستعداد المناسب لطبيعة الطريق:

إن من يريد اجتياز هذه الطريق يحتاج إلى استعداد وتهيئة وتربية، تهيئة

نفسية تساعد على الاستمرار وعدم التوقف، وتهيئة علمية تساعد على ضبط المسار

وعدم الانحراف.

إن مَن يريد سفراً - وهو يعرف طبيعة الطريق - يلزمه أن يختار أسلوب

السفر المناسب، وطريق الدعوة، وحمْل هذا الدين قد ثبت بالشرع والواقع أنه شاق

تكثر فيه العوائق والمحن، فلا بد أن يوطن الإنسان نفسه على ما يُحتمَل أن يصيبه

في هذا الطريق، ويعد نفسه لذلك حتى إذا حدث شيء منه يكون قد أخذ استعداده

فلا يُفاجَأ بالأمر فينهار، أو يرتبك إذا لم يكن في حسبانه وتخطيطه احتمال وقوعه، ويقول الشيخ السعدي [١] في قوله - تعالى -: [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ]

[آل عمران: ١٨٦] : (.. ومنها (أي فوائد الإخبار بالابتلاء) أنه أخبرهم بذلك

لتتوطن أنفسهم على وقوع ذلك، والصبر عليه إذا وقع لأنهم قد استعدوا لوقوعه

فيهون عليهم حمله، وتخف عليهم مؤنته، ويلجؤون للصبر والتقوى) .

ففقه هذه السنة اللازمة للدعوة إلى الله بتدبير الآيات والأحاديث المخبرة عنها، وبدراسة سير السلف الصالح ممن ابتُلوا في سبيل الدعوة إلى الله - يدعو الحازم ...

إلى الاستعداد والتأهب وتوقع ما سيحصل في مستقبل دعوته.

٢- عدم الوقوع في الفتور الذي يصيب بعض الدعاة:

إن كثيراً من الشباب المتحمس يبدأ مجال الدعوة باندفاع ويسر لما يحققه من

نجاح نسبي في أول مشواره مع قلة ما يواجه المبتدئ - غالباً - من عقبات،

فيترسخ في ذهنه أن هذه الطريق كلها بهذه السهولة، قريبة النتائج. فإذا ما توغل

وحصل له أي نوع من أنواع الابتلاء بدأ يتململ ويتذمر، وينفذ صبره، ويتوقف

عن مواصلة الطريق، ثم يخبو حماسه أو ينطفئ تماماً، وما ذلك إلا لأنه لم يكن

مدركاً من الأصل طبيعة هذا الطريق، بل كان لديه تصور متفائل جداً، وغير

مستند على أدلة شرعية، أو حقائق واقعية مما جعله يفاجأ بالحقيقة التي لم يعدّ نفسه

لها منذ البداية، وقد تصل الحالة بمن كان مفرطاً في التفاؤل إلى التخلي عن مبدأ

الدعوة إلى الله ولو تدريجياً.

٣- عدم التسرع والاستعجال في تحصيل النتائج:

إن الداعي إلى الله إذا لم يعلم ويتيقن أن ما سيصيبه في طريق دعوته - من

عدم استجابة الناس على عجل أو عدم استجابتهم البتة، أو عدم ثباتهم على

الاستقامة أو عدم زوال المنكرات، بل أحياناً ازديادها أو غير ذلك - إنما هو من

الابتلاء والامتحان له، بل قد يدفعه جهله هذا إلى الظن أن هذه هي النتيجة النهائية

وأنه - والدعاة معه - قد خسروا فيتصرف تصرفات رعناء متسرعة من واقع

الضغط النفسي الذي يضايقه، ظاناً أنه بذلك يحقق نصراً للدعوة لم يستطع تحقيقه

بأسلوبه الأول الذي اعتمد على الرفق والتؤدة.

مثلاً: أن يسعى لتغيير بعض المنكرات الكبيرة الشائعة بالقوة التي يرى -

بفهمه القاصر - أن فيها مصلحة للدعوة، وهذا مما يسبب مشاكل كبيرة للدعوة التي

يحملها، والتي كان يمكن تفاديها لو علم أنه ليس مطالَباً بأن يهتدي الناس على يديه، بل واجبه هو دعوة الناس وتبليغهم دين الله، وهو إذا قام به على خير وجه فهو

نجاح بالنسبة له بغض النظر عن النتائج.

والداعي ليس مطالباً بتحقيق نصر الإسلام فهذا أمره إلى الله متى شاء أن

يحدث حدث، لكنه مطالب ببذل الجهد في هذا السبيل فحسب، والرسل والأنبياء

كانوا يخاطَبون بذلك [فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ] [الشورى: ٤٨] ، فالعجلة والتسرع في قطف ثمار الدعوة، وتحصيل نتائجها

كلها يتطلب أمراً أساسياً ألا وهو الصبر.


(١) تفسير السعدي، ص٤٦٨، ط١.