للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رسالة عدائية ضد المسلمين فى أوربا]

د. أحمد إبراهيم خضر

وجهت الفتيات المسلمات الثلاث - اللاتي تمسكن بحُجبهن في المدارس

الفرنسية وأرغمن وزير التربية الفرنسي على الإقرار بحقهن في ذلك - صدمتين

قاسيتين للعقلية الغربية. كان الغربيون مطمئنين إلى أن أبناء المسلمين الذين

يعيشون بين ظهرانيهم ويتعرضون لقيم الحياة الغربية في المدرسة وعبر رسائل

الإعلام في طريقهم إلى الانصهار الكامل مع المجتمع الغربي والذوبان فيه. كانوا

يعرفون أن انحسار سلطة الآباء على أبنائهم سوف يؤدي إما إلى تعريض الأسرة

المسلمة في بلاد الغرب لمواقف اجتماعية قابلة للانفجار - يترتب عليها ردود فعل

عنيفة - أو أن تعيش هذه الأسرة في حالة صراع مع المجتمع ككل. كانوا مطمئنين

إلى أن ظروف الحياة الغربية سوف تخرب أخلاق الشباب المسلم وتفصلهم عن

عائلاتهم، وأن تعرض هذا الشباب للخمر والتدخين والأطعمة المحرمة،

والإغراءات العديدة المتوفرة في المدن الغربية سيبعد هذا الشباب حتماً عن دينه.

كانوا مطمئنين كذلك إلى شدة تأثير أعلى درجات العلمانية في المدارس الغربية على

الشباب المسلم، فجاءت واقعة الفتيات الثلاث في قلب المدارس الفرنسية صدمة

شديدة أيقظتهم مما اطمأنوا وركنوا إليه طويلاً.

أما الصدمة الثانية للعقلية الغربية فكانت استسلام وزير التربية الفرنسي أمام

إصرار الفتيات على التمسك بحجبهن. فهِم الغربيون هذا الاستسلام بأن المسلمين قد

نجحوا في فرض مصطلحاتهم الخاصة على المجتمع الأوربي، وأن الوزير

الفرنسي قد سمح - بموقفه هذا - بخرق القيم الغربية. كانوا يأملون أن يجبر

الوزير الفرنسي هؤلاء الفتيات على خلع الحجاب لأن القيم الانضباطية الإسلامية

التي يفرضها الإسلام على معتنقيه ليست ذات قيمة - في نظرهم - للبلاد كلها ومن

ثَم فإنهم يرون: أن على المسلمين المقيمين بينهم أن لا يخضعوا لهذه القيم، وأن

عليهم أن يتركوا أنفسهم لوسائلهم الخاصة وليس لما يفرضه عليهم الإسلام من التزام

وانضباط.

دفعت هاتان الصدمتان الشديدتان (أنتوني هارتلي) رئيس تحرير مجلة

(Encounter) [١] إلى تدقيق النظر في أوضاع المسلمين في أوربا وتوجيه رسالة

تحذيرية للحكومات الغربية صريحة أحياناً، وضمنية أحياناً أخرى، مما سماه

بالتوسع والبعث الإسلامي في أوربا والأخطار الناجمة عن وجود الأعداد المتزايدة

من المهاجرين المسلمين في الدول الأوربية. وجد (هارتلي) أن عدد المسلمين في

بريطانيا يقدر بمليون ونصف، وفي فرنسا من ٢. ٥-٣ ملايين، وفي ألمانيا

هناك ما لا يقل عن ١. ٩ مليون مسلم، غالبيتهم من الأتراك بالإضافة إلى مائة

وثلاثين ألف عربي، ومائة ألف من مسلمي البوسنة. وفي إيطاليا ما يقرب من ١٠٧ مليون يدخل معظمهم إليها بتأشيرة سياحية ثم يبقون هناك. وفي بلجيكا مائتي

ألف مهاجر من تركيا وشمال إفريقية، أما في هولنده فهناك ٢٨٥ ألف مسلم من

المغرب وتركيا وسورينام. وجد (هارتلي) أنه على الرغم من أن غالبية العمالة

المسلمة في بريطانيا عمالة غير ماهرة فإن نسبة عالية من هذه العمالة تشغل وظائف

مهنية. ووجد (هارتلي) أيضاً أن في فرنسا وحدها ما يقارب من ألف مسجد وزاوية

صلاة تقام فيها شعائر الإسلام، وستمائة في بريطانيا يتلقى فيها الأطفال المسلمون

تعاليم القرآن وتعتبر مراكز تجمعات للمسلمين. وصلة المسلمين بوطنهم الأم لم

تنقطع، وما يحدث في هذا الوطن من حركات إسلامية وبعث إسلامي يتردد صداه

بين هؤلاء المهاجرين إلى العالم الأوربي.

أزعجت هذه الحقائق (هارتلي) لكن الذي أفزعه هو أن هؤلاء المهاجرين قد

نجحوا في إدخال المعتقدات والأعراف الإسلامية إلى المجتمعات الصناعية الغربية،

وخشي أن تتخلى هذه المجتمعات عن قيمها وأعرافها، وأن تخضع للقيم والمعايير

الإسلامية، لهذا فقد نظر إلى: واقعة الفتيات المسلمات الثلاث على أنها سابقة

خطيرة تنذر بإمكان حدوث ذلك؛ لهذا وجه (هارتلي) رسالته التحذيرية - المحشوة

بالعداء للإسلام والمسلمين - إلى الحكومات الغربية متضمنة ما يلي:

أولاً: محاولة إقناع الحكومات الغربية بأن المهاجرين المسلمين قد يتسببون

في مشاكل مستقبلية بين الدول الأوربية واستدل في محاولته هذه باحتجاج فرنسا

على بون بسبب تشجيع الألمان لهجرة العمالة التركية الزائدة.

ثانياً: محاولة إقناع الحكومات الغربية بأن مطالب المسلمين كثيرة ومتعددة

ويصعب الوفاء بها وأنها تسير ضد إيقاع وحركة الإنتاج الصناعي الحديث وضد

نمط الحياة الغربية. يقول (هارتلي) : (وعلى امتداد أوربا يطلب المسلمون أماكن

للصلاة في مواقع العمل وفي السكن العمالي والعقارات السكنية، ويطلبون إمدادهم

بالأطعمة الحلال - الموصوفة في القرآن - في المقاصف والمدارس، ويطلبون

أوقاتاً للاحتفال بأعيادهم (عيد الفطر وعيد الأضحى) ، ويطلبون الحق في الذهاب

إلى المسجد يوم الجمعة. ليس من السهل الوفاء بالعديد من هذه المتطلبات. حيث

يستلزم الصيام في رمضان الامتناع عن الطعام والشراب من الفجر وحتى الغروب

لمدة شهر كامل. ومن شأن هذا الأمر تقليل القدوة الفيزيقية للعمال الذين يقومون

بأعمال يدوية. والتغيب عن العمل خلال اليوم من أجل الصلاة أمر لا يتسق

بسهولة مع إيقاع الإنتاج الصناعي الحديث والدفن الإسلامي يتطلب وضع الجثة

على جانبها متجهة إلى مكة وهذا أمر يصعب تحقيقه في مقابر حضرية مزدحمة،

ومن قائمة مطالب المسلمين في بريطانيا: أن ترتدي بناتهم الزي الإسلامي، وأن

ينفصل الطلاب عن الطالبات في حصص الرياضة وتعليم السباحة، وإمداد

المدارس بالأطعمة الحلال، وتوفير غرف للصلاة، والسماح بفرص لزيارة

المساجد في المناسبات والأعياد الإسلامية حتى يحصل الأطفال على تعاليم قرآنية.

هناك حالة من عدم الرضا العميق بين المسلمين عن تعليم الجنس في المدارس

وخاصة ما يرتبط بالجنسية المثلية، وقد قُدمت اعتراضات مشابهة لذلك إلى مديري

المدارس الفرنسية.

إن المجتمعات الأوربية قد تجد من الصعب عليها مقاومة مطالب المسلمين،

وهناك مواقف قد حدثت بالفعل وتخلت فيها المجتمعات الصناعية عن معاييرها

الاجتماعية السائدة، وانقادت لعادات الإسلام، وهي تجري مخالفة لقيمها ومعتقداتها.

ثالثاً: تحذير الحكومات الغربية من الآثار البعيدة المدى للدور المتنامي الذي

يمكن أن يلعبه المسلمون في الحياة السياسية الغربية خاصة بعد حصولهم على

جنسيات البلاد الأوربية، وحق التصويت في الانتخابات المحلية والعامة. وبناءً

عليه يرى (هارتلي) : أن ذلك سوف يمكّنهم من تحقيق مطالبهم وأهدافهم وخاصة

مع تصويت باقي المسلمين إلى جانب هذه المطالب.

استشهد (هارتلي) هنا بالخطاب الذي أرسله الاتحاد الإسلامي في فرنسا

لمديري المدارس والذي طالب فيه بوضع حد للاختلاط في الفصول المدرسية.

رابعاً: تحذير الحكومات الغربية من تزايد نفوذ الحكومات الإسلامية عليها

استناداً إلى وجود الأقليات الإسلامية فيها، ومن تسرب الحركات الإسلامية إلى

أوربا بسبب جو الحرية السائد في الغرب.

خامساً: تنبيه الحكومات الغربية إلى أنها مهما استجابت لمطالب المسلمين

فإنهم سيظلون منفصلين متميزين غير منسجمين مع المجتمع الأوربي، ولن يكون

ولاؤهم لهذا المجتمع مطلقاً.

سادساً: تحذير الحكومات الأوربية من خطورة الرضوخ لمطالب المسلمين،

وخاصة ما يتعلق منها بوضع المرأة، واعتبار ذلك تهديداً لقيم المجتمع الغربي

وبذراً للتعصب فيه مع التنديد الضمني المتكرر بموقف الوزير الفرنسي من الفتيات

المسلمات الثلاث المشار إليهن، واستغلال تلك الواقعة لإظهار صعوبة تعامل هذه

الحكومات مع المسلمين الملتزمين بعقيدتهم.

سابعاً: تحذير الحكومات الغربية من الدور الذي تلعبه المساجد في أوربا،

ومن تنامي هذا الدور وتأثيره على الحياة السياسية في الغرب، ولفت انتباه هذه

الحكومات إلى خطورة الخطب الدينية التي تُلقى في هذه المساجد، والدعوة إلى

ضرورة فرض الرقابة عليها.

ثامناً: لفت انتباه الحكومات الأوربية إلى النهضة الملحوظة في قطاع التعليم

الإسلامي في أوربا، وفي المدارس الإسلامية الخاصة بالذات، وما يمكن أن تسببه

هذه النهضة من مشاكل لهذه الحكومات تتعلق بالمعونات الحكومية، وخرق لقيم

المجتمع، والتأثير على تكامله خاصة مع نجاح قادة المسلمين في تطويع البناء

الإداري القائم وتوجيهه لصالح وخدمة معتقداتهم.

تاسعاً: تذكير الحكومات الغربية بآثار قضية (سلمان رشدي) على بريطانيا،

وتنبيه هذه الحكومات إلى أن القضية لا تخص بريطانيا وحدها بل إن جميع البلدان

الأوربية سوف تعاني من المشاكل الناجمة عن وجود أقليات مسلمة فيها، وأن الحل

الذي أمام هذه الحكومات هو إجبار المسلمين على الخضوع للقانون شاؤوا أم أبوا

بغض النظر عن أمر المساس بعقيدتهم مع التأكيد على عدم إعطاء وضع خاص

للإسلام يجعله فوق النقد بحيث يفرض نفسه على المجتمع الغربي.

عاشراً: التشديد على ضرورة مواجهة النهوض والتوسع الإسلامي في أوربا، وقطع الطريق أمام الحكومات الغربية - التي استعمرت وأذلت العالم الإسلامي

مدة طويلة - في التفكير في التسامح مع المسلمين في دولها وفقاً لنفس المبدأ الذي

تتعامل به مع اليهود (وهو التكفير عن ذنب ما يُعرف باضطهاد اليهود) .

لو ضممنا هذه الرسالة العدائية (لأنتوني هارتلي) إلى ما يجري للمسلمين في

البوسنة والهرسك كمحاولة لاستئصال الوجود الإسلامي من قلب أوربا لأدركنا معنى

قوله - عز وجل -: [وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: ٢١٧] ، إنه - كما يقول الشهيد (سيد قطب) - (تقرير صادق من العليم

الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر وعلى فتنة المسلمين عن دينهم

بوصفهم الهدف الثابت المستقر لأعدائهم، وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء

الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل، لأن وجود الإسلام في الأرض هو

بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم، وهو من القوة والمتانة بحيث يخشاه كل مبطل

ويرهبه كل باغٍ ويكرهه كل مفسد.. ومن ثم يترصدون لأهله ليفتنوهم عنه

ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة ذلك لأنهم لا يأمنون على باطلهم

وبغيهم وفسادهم في الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين وتتبع منهجه وتعيش

بنظامه، وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ولكن الهدف يظل

ثابتاً: أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم

سلاح انتضوا غيره، وكلما كانت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها، والخبر

الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى

الخطر ويدعوها إلى الصبر على الكيد والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة

الدنيا والآخرة والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر) .


(١) Anthony Hartley,Europe`s Muslims,The National Interest,Winter١٩٩٠/٩١,pp ٥٧-٦٦.