للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

إسلامية الأدب.. لماذا وكيف؟

د. عبد الرحمن صالح العشماوي

الشبهة الخامسة:

يثير بعض معارضي مصطلح (الأدب الإسلامي) شبهة (البدعة) في هذا المصطلح، فيقولون: إنه بدعة معاصرة، لم يقل بها أحد من سلف هذه الأمة، فهل نحن أحرص على الإسلام من أولئك؟ ؟ ونجيب على هذه الشبهة بما يلي:

أولاً: لا ينطبق على مصطلح (الأدب الإسلامي) معنى (البدعة) المذمومة

التي تأتي مخالفة لما شرع الله، كما لا ينطبق عليه معنى (البدعة) على عمومه؛

لأنه - كما ذكرنا في حلقة ماضية - يقوم على تصور، وهذا التصور موجود منذ

نزول القرآن على النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - ومنذ أن كان للرسول -

صلى الله عليه وسلم- ولسلف هذه الأمة - رضي الله عنهم - موقفهم الواضح القائم

على ذلك التصور الإسلامي للأدب ودوره في حياة الأمة، وتنحصر الجدة في الأدب

الإسلامي في تسمية المصطلح نفسه بناءً على منهجية مستمدة-من القرآن والسنة،

وسنبين هذا فيما بعد - إن شاء الله -.

ثانياً: ليس صحيحاً ما يقوله أصحاب هذه الشبهة من أن السلف لم يشيروا

إلى إسلامية الأدب، بل إنهم أكدوا ذلك في مواقف كثيرة، وأشاروا إلى ضرورة

مراعاة تعاليم الإسلام في الأدب فلم يقروا لشاعر أو أديب الخروج عن تلك التعاليم،

ولم يضعوا مصطلحاً بهذا الإسم لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى وضع مصطلح إسلامي

في ظل خلافة وجهتها العامة إسلامية، ولها مواقفها الواضحة من أصحاب الأدب

المنحرف، تأديباً وإنكاراً.

ثالثاً: لم يكن الانحراف الأدبي في عصور الإسلام الأولى منظَّراً، أي أنه لم

يكن قائماً على (أيديولوجية) لها فلسفتها ونظامها القائم الذي تدعمه السلطات،

وإنما كان ذلك الانحراف - غالباً - شخصياً ينبثق من انحراف شخصي لأحد

الأدباء ثم يكون له أتباعه ومقلدوه، وكانت الدولة الإسلامية ترفض ذلك الانحراف

ملاحقة له - وإن لان موقفها منه أحياناً - ولذلك لم يكن الناس بحاجة إلى وضع

نظرية أو مصطلح للأدب الإسلامي، لمواجهة نظرية معارضة، وإنما كان دورهم

مقتصراً على نقد ذلك الانحراف ورفضه وييان سوئه للناس.

أما الانحراف الفكري والأدبي في العصور المتأخرة فهو انحراف قائم على

منهج، له أسسه وتصوراته وله رواده ودعاته، بل وله دوله التي تتبناه وتسعى إلى

دعمه ونشره [١] ، وقد وُضعت له النظريات والمناهج، وكتبت عنه الدراسات

المنهجية والبحوث الأكاديمية؛ فكان لزاماً على المسلمين الملتزمين أن يكون لهم

منهجهم المستقل ونظريتهم الأدبية الإسلامية القائمة على التصور الإسلامي، لأن

هذه المنهجية هي التي تستطيع مواجهة الانحراف الأدبي (الممنهج) في عصرنا

هذا، فكان مصطلح الأدب الإسلامي الذي قام على تصور إسلامي كما أشرنا من

قبل.

إن البدعة تكون مذمومة مرفوضة عندما تأتي مخالفة لمنهج الإسلام الصحيح

خارجة عن إطاره الذي رسمه القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح ومواقفهم، فهي

بهذا المفهوم مرفوضة حتى لو كان فيها زيادة في الطاعة يتوهم أصحابها أنها تقربهم

إلى الله أكثر مما ثبت عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أليس هو القائل في

شأن من يتنزه عن بعض ما كان يفعله: «ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء

أترخص فيها، والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده» .

والبدعة بهذا المعنى المرفوض بعيدة كل البعد عن مصطلح الأدب الإسلامي؛

لأنه يقوم على رؤية إسلامية مؤيدة بالكتاب والسنة ومواقف السلف الصالح في شأن

الأدب.

إن هذا المصطلح من باب التجديد في أسلوب المواجهة بما يتلاءم مع حجم

القضية المعاصرة، ولولا هذه النظريات والمدارس القائمة على مناهج منحرفة

مدعومة باتجاهات رسمية عالمية، لما احتجنا في هذا العصر إلى مصطلحات ... (الفكر الإسلامي) و (الاقتصاد الإسلامي) و (الإعلام الإسلامي) و (الأدب

الإسلامي) ، إذن فإن القضية قائمة على مبدأ الإعداد لمواجهة الانحراف والفساد،

لا بأقوال ارتجالية، وأفكار مبتدعة كما يظن من يطلقون هذه الشبهة. ولكن بناءً

على الرؤية الإسلامية المنبثقة من ديننا العظيم.

فإذا كان - مثلاً - الشاعر الحداثي هو: (الذي يخوض معركة التحرر من

القوالب السلفية التي تحاول - بدورها - أن تشله وتعزله عن حركة التاريخ، وعن

التغيير، وتبقيه في عقم الثبات - هذه القوالب السلفية في الفكر والحياة معاً تتحول

إلى دعائم مشتركة، تشارك بشكل أو آخر في الحيلولة دون تحقيق التحرر

الكامل) [٢] .

أقول إذا كان ذلك هو الشاعر الحداثي - كما صوَّره منظر مذهب (الحداثة) ...

العربي المرتد أدونيس - فإن الأدب الإسلامي يرسم صورة أخرى مشرقة ناصعة

للشاعر الإسلامي، فهو الشاعر الذي يتخذ من التصور الإسلامي قاعدة انطلاقه

ويبدع لنا أدباً رائعاً قائماً على عظمة الثبات على المبدأ وليس على الثورية

والانحراف.

وإذا كان الشاعر - عند منظري الحداثة - هو (الذي لا ينطلق من فكرة

واضحة محددة، بل من حالة لا يعرفها هو نفسه معرفة دقيقة، ذلك أنه لا يخضع

في تجربته للموضوع أو الفكرة أو الأيديولوجية أو العقل أو المنطق) [٣] .

فإن الشاعر - عند منظري الأدب الإسلامي - هو الذي ينطلق من فكرة

واضحة ومن حالة يعرفها، ومن رؤية إسلامية صافية يبدع من خلالها أدباً مؤثراً

يرقى بالأمة ولا يهبط بها [٤] .

إن (مليار) مسلم يعيشون في هذا العالم النكد بأمسّ الحاجة إلى أدب يرقى

بنفوسهم وعقولهم، ويصد عنهم هجمات الانحراف والضياع التي تشنها نظريات

الأدب المنحرف في هذا العصر [٥] .

لقد حرص الرسول - عليه الصلاة والسلام - منذ نزول الوحي عليه على

رسم طريق الكلمة الطيبة، والكلمة الخبيثة، ولقد قال عن الشاعر المنحرف:

«لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً» ، وقال عن الشعر الإسلامي الصافي: «إن من الشعر لحكمة» ، وكانت عائشة - رضي الله عنها - تستدل في كلامها بالشعر الجيد السامي، وأوصت بتلقينه للناشئة، وبذلك أوصى معاوية - رضي الله عنه - وثبت عنهم جميعاً رفضهم للشعر المنحرف ومعاقبتهم للشعراء المنحرفين في أحاديث كثيرة وأخبار صحيحة ليس هذا مكان سردها، أفبعد ذلك يدعي مُدَّعٍ أن مصطلح (الأدب الإسلامي) بدعة لم يقل بها السلف؟ !


(١) راجع ما كتبه الأستاذ جمال سلطان في كتابه القيِّم (أدب الردة - قصة الشعر العربي الحديث) : تحت عنوان: تيارات مشبوهة، ص١٢٣ وما بعدها.
(٢) انظر: زمن الشعر لأدونيس، ص٥٧.
(٣) انظر: مقدمة للشعر العربي لأدونيس ص٣٢، وانظر كذلك الكتاب القيِّم بعنوان: (أسلوب جديد في حرب الإسلام) للشيخ جمعان بن عايض الزهراني، ص٣٣ وما بعدها.
(٤) انظر: الإسلامية والمذاهب الأدبية للدكتور نجيب الكيلاني، ص٢٠ وما بعدها.
(٥) انظر: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد للدكتور عبد الرحمن الباشا، المقدمة.