للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

«عواطفنا.. ليست لنا مطايا!!»

خالد بن صالح السيف

إن تأسيس رؤيتنا على بنية عاطفية ظاهرة تناولنا بها جملة من قضايا الأمة

المصيرية! ! ويبدو أننا لم نفق بعد من سكر العاطفة! ونتاج هذا البناء العاطفي

المكرّس بائن في الهزائم المتلاحقة والخسران المضطرد لمدخرات الأمة - الإنسان

على رأس قائمتها - وما زالت قوافلنا يتقدمها حُداة العاطفة أنفسهم بأصواتهم الشجية

وكأننا نسعى بجهد لاهث لأن نصدّق فينا هذا النعت بأننا: (ظاهرة صوتية

فحسب) ! ! ويبدو- ثانية -أن من يُناصبنا العداء هو- الآخر - يمارس باقتدار إذكاء أُوار عاطفتنا بصورة عكسية يظفر هو كنتيجة لها بإبلنا فيمتطي بعضاً ويدخر بعضاً! ! ونحن لا نصدق خبراً فنروح من حينها نوسعه سباً وتدور جولة ثانية تعود ف يها إليه الإبل والسبُّ لنا ثمن بخس! !

إن مجاوزة الحد في عواطفنا مكمن ضعف أُتينا من خلاله، كما أن الغلو في

العقل مكمن خلل سقطنا من خلاله سابقاً - والتوزير الرافضي والاعتزالي شأنه ليس

بسر في العصر العباسي - والشاطبي [١] يعتبر إلغاء هذا المفهوم قاعدة حيث يقول: ... (لا يجعل العقل حاكماً بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل ...

الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم - وهو الشرع -، ويؤخر ما حقها التأخير -

وهو العقل -، لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكماً على الكامل لأنه خلاف المعقول

والمنقول بل ضد القضية، وهو الموافق للأدلة فلا معدل عنه، لذلك قيل: اجعل

الشرع في يمينك والعقل في يسارك تنبيها على تقديم الشرع على العقل) ..

ونحن بإزاء هذه الظاهرة العاطفية المؤججة نتساءل: هل ثمة وسطية يُثَبَّتُ

فيها طيش العاطفة - بِقِيَم العقل - مناط التكليف وموطن التكريم لتجيء من بعد

النصوص - قرآن وسنة - مهيمنة عليهما في ابتغاء رؤية مؤصلة لا تغيرها

المستجدات بقدر ما تستوعب هي المستجد فتوجهه وفق مُرادات النصوص المتكئة

على فهوم السلف الصالح.

ف (مدار الأمر كله على العقل فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على

أقوى دليل. وثمرة العقل فهم الخطاب وتلمح المقصود من الأمر. ومن فهم

المقصود وعمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق) [٢] ، فهل نعي نحن

لنتجاوز البناء على العاطفة الأرضية الهشة، مستأنسين بمواطن ابن الجوزي،

ومنضبطين بقواعد الشاطبي - رحمهما الله تعالى - فحيثيات الاستخلاف والتمكين

ليست معادلات عاطفية تعالج إشكالاتها (الجماهيرية) بأرقام منْبَتّة فلا هي لظهورها

أبقت ولا هي لأرضها قطعت! !

بل الاستخلاف والتمكين (وعد حق) ممن لا يخلفه - سبحانه - بيد أنه لمن

تتوافر فيه الأهلية بصفاتها المشروطة [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ

الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن

كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] [النور ٥٥] ، فالتمكين من لدن الله متحقق لا

محالة إبان الاستواء على الشرط وامتثال واقع النص لا مجرد حفظه وبح الصوت

به..

إن أبجديات النصر والغلبة ليست أمان نُشكّل بها مربعات ضعفنا وهواننا على

الأمم؛ وليست تأريخاً نستجره - حاضراً - لندغدغ به مشاعرنا ونُحذِّر به جيلاً يُبَحُّ

هو الآخر صوته بإنشاد أفعال الماضي: (كنّا.. وكانوا ... كانت لنا.. وآبائي

وأجدادي واسألوا عنا! !) الخ.. منظومة الماضي المجيد الذي مضى برجالاته

صناع تاريخنا الذين نحفل به إلى حد استشرافه ثانية واقعاً نحياه - بإذن الله - إنما

النصر والغلبة.. وعد.. كسابقه مشروط: [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ

أَقْدَامَكُمْ] [محمد ٧] ، ولن يكون شيء من ذلك بلا قرح يمس الجيل.. ولن يكون

بلا ابتلاء ومجاهدة ومصابرة ومن قبل التمحيص: [ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا

ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ

الصَّابِرِينَ] [آل عمران ١٤١-١٤٢] . هكذا يجيء النصر وتجيء الغلبة مع جيل

النصر وحده ذي الصياغة الفردية على منهج المدرسة النبوية.. لا غير..

وأجدني أخيراً مضطراً إلى أن أجعلك تشاركنا مخاض تجربة شيخنا الأستاذ

محمد قطب وهو - أثابه الله - لم يأل جهداً من أمد بعيد وهو يقرر أنه: (برغم كل

عواطف الجماهير، وكل حماستهم التي يبدونها حين يذكر الإسلام فهي حماسة

عاطفية لا تقيم بناءً حقيقياً.. ولا حركة حقيقية.. إنما تحتاج القاعدة إلى الإنشاء

من جديد.. فرداً فرداً حتى يكتمل بناء متماسك كبناء الجماعة الأولى على يد

الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إلا يكن في الدرجة فعلى نفس المنهج، الذي

هو مجال الأسوة في رسول الله -صلى عليه وسلم- وفي الجماعة التي رباها ليقوم

عليها البناء) [٣] .

ويؤكد مرة أخرى على أن المعركة بين الإسلام وأعدائه ليست معركة سريعة

خاطفة بل معركة طويلة شاقة قد تستغرق عدة أجيال: (فينبغي للقاعدة التي تنشأ

للقيام بهذا العبء الضخم أن تربى لتكون طويلة النفس، شديدة الصبر، عميقة

الإيمان بالله، عميقة التوكل عليه، مستعدة لما يتطلبه أمرها من المعاناة وقادرة على

أن تبذل من نفسها: من جهدها ومالها ودمها وفكرها، ما يحتاج إليه إزالة الغربة

التي ألمت بالإسلام اليوم، واستنقاذ) الغثاء (من دوامة السيل واستنباته مرة أخرى

راسياً في الأرض عميق الجذور..) [٤] .

لست أدري.. بعد أن تشكلنا إلى حد، عاطفياً - ولم نفلح - أتصعب معاودة

الصياغة مرة أخرى ضمن ضوابط ما ذكرنا سلفاً؟

الإجابة.. تملكها أنت.. وهو.. وهي وهم.. وأنتم ونحن.. في إطار عمليٍّ

فاعل منشَؤُهُ استقامة الرؤية:

* قال الحسن البصري: (ما استودع الله أحداً عقلاً إلا استنقذه يوماً ما) [٥] .

* قال أبو حفص الكبير الشأن: (من لم يزن أحواله وأفعاله بالكتاب والسنة ولم

يَتَّهِم خواطره فلا تعدوه في ديوان الرجال) [٦] .


(١) الاعتصام للشاطبي ٢/٣٢٧.
(٢) صيد الخاطر ٢١١، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي الحنبلي.
(٣) الصحوة الإسلامية، ١٦٥-١٦٦.
(٤) الصحوة الإسلامية، ص١٦٦.
(٥) أدب الدين والدنيا، ص ٢، للماوردي.
(٦) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ١/ ١٠٠، لابن قيم الجوزية.