للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

مأساة البوسنة و (الحل الغربي)

رصاصة الرحمة

د. علي عبد الرحمن عواض

الإجماع الأوروبي الاميركي:

لمدة أشهر وأسابيع بقيت الولايات المتحدة تتلاعب بعواطف المسلمين وتدغدغ

مشاعرهم بالعزف على وتيرة التدخل العسكري لحماية (ضحايا الإجرام الصربي) ...

وتهدد برفع الحظر (حظر التسلح) عن البوسنة حتى يتمكن سكان البلد وجيشه من ...

حماية أنفسهم. ظلت أميركا تزيد من حدة وتيرة التدخل العسكري وضرب مواقع ...

الصرب.. حتى أوهمت المسلمين الذين لا حول لهم ولا قوة بأن الفرج اقترب، ...

وأن الضمير الإنساني لا بد وقد استيقظ حتى كتبت جريدة الاندبندنت في عنوانها

الرئيسي [١] : (أوين يستجدي الأميركيين ألا يطلقوا النار) .

لكن الأحداث الأخيرة نقلت لنا صورة أخرى فقد وافق الأميركيون أخيراً

(ورضخوا للإصرار الأوروبي) ووقعوا على خطة جديدة لحل مشكلة البوسنة ...

والهرسك راعت (مشاعر الأوروبيين) وأخذت بالاعتبار الموقف الروسي الموالي ...

للصرب. وقع على (مشروع العمل المشترك، كل من أميركا، روسيا، بريطانيا، فرنسا وإسبانيا. بينما وقفت ألمانيا (وهي السند الأصلي لكرواتيا) موقف الناقد ...

والمشكك فيما توزعت الدول الأخرى بين مؤيد ومشكك ومعارض. معظم

المعارضة جاءت من باكستان وفنزويلا.

والخطة الجديدة هي عملية تقزيم جديدة - إن لم نقل إنهاء فعلي - للدولة

البوسنوية ولوجود المسلمين في هذا البلد، فالمناطق الآمنة هي جيوب سكانية -

مدن وقرى محيطة بها - تقل مساحتها بكثير عن مساحة الأقاليم التي حددها

الوسيطان الدوليان - سايروس فانس واللورد دايفد أوين في تقسيمها للبوسنة إلى

عشر مناطق عرقية بين المسلمين والصرب والكروات.

طبعاً الخطة كان لها وقع الصاعقة على مسلمي البلاد حيث صرح رئيس

البلاد علي عزت بيكوفيتش أن الخطة هي (خيانة) لقضية البوسنة والهرسك ودعا

شعبه إلى (القتال) لأنه (على ما يبدو فإن الحل الأوحد لإثبات حقنا في الوجود

والأرض.. إننى أدعو شعبي وكل المحبين لهذا البلد أن يتوحدوا ويقاتلوا من أجل

إبقائه ومن أجل إثبات وجودهم) [٢] .

الصرب رحبوا بالخطة ورأوا فيها اعترافاً دولياً (بانتصاراتهم العسكرية) ...

ووصفوها (بالواقعية) مشيدين بالرئيس الأميركي على (مواقفه الحازمة) وبأنه ...

(سوف يكون رئيساً عظيماً لأنه لم يستمع إلى نصائح محبي الحروب ممن أرادوا أن

يقحموا الولايات المتحدة في فيتنام أخرى) [٣] ، كما جاء على لسان زعيم صرب

البوسنة رادوفان كاراداجيتش. الكروات بدورهم لم يعلنوا رفضاً أو قبولاً لأن الأمر

لا يرتبط بهم كثيراً ولكون هذه الجيوب (مناطق آمنة) في إطار صربي صرف.

تهدف الخطة إلى حماية (ستة مناطق) أعلنتها الاتفاقية (مناطق آمنة) . ولا تتعرض لمئات الآلاف من المسلمين تحت سيطرة القوات الصربية والكرواتية أو المشردين في أنحاء أخرى من العالم. كما تهدف الخطة لوضع مراقبين دوليين على الحدود بين صربيا والبوسنة وزيادة عدد الجنود العاملين ضمن قوات الأمم المتحدة لحماية (المدنيين الأبرياء) كذلك وافقت على استمرار الحظر الجوي على البوسنة و (التحرك بسرعة لتشكيل محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب والسعي إلى تنفيذ خطة السلام الدولية على مراحل) .

المناطق (الآمنة) التي وافقت عليها أوروبا وأميركا وأقرتها الأمم المتحدة لا ...

تمتلك من مقومات الاكتفاء الذاتي شيئاً. فالصرب الذين يحاصرونها من جميع

جوانبها يستطيعون خنقها متى شاؤوا وبهذا فهي مناطق آيلة للسقوط آجلاً أم عاجلاً

للصرب الذين أكملوا المرحلة الأولى من إقامة دولة صربيا الكبرى.

المعلقون السياسيون والإعلاميون وصفوا هذه المناطق بأنها: (ليست سوى

مخيمات واسعة للاجئين لا تمتلك من مقومات القوة الذاتية شيئاً وتعتمد كلياً على

العالم الخارجي لاستمرارية بقائها. لذا فإن سقوطها أمر حتمي) [٤] .

تقول مجلة الإيكونومست: إن هذه المناطق الستة (يمكن تسميتها بأي شيء إلا

بالآمنة، والمسلمون على ما يبدو بعيدون جداً عن الأمن في هذه المناطق فهي

محاصرة مخنوقة من الخارج ومزعزعة من الداخل اجتماعياً واقتصادياً ... على ما

يبدو أنه ليس هناك مستقبل للبوسنة (الحكومة البوسنية)) [٥] .

ومع أن هذه المنطقة أُعلنت رسمياً (مناطق آمنة) فإن القصف العنيف

والحصار والهجوم عليها مستمر - بل بعنف لم يُشهد من قبل - ويبدو أن الأمم ...

المتحدة نفذت لديها تعابير الاستنكار لذا لم يكن رد الفعل - بالمستوى - حتى كلامياً. ...

الرئيس الأميركي الذي ندد في ٢١ أيار/ مايو بفكرة المناطق الآمنة رافضاً أن

يورط الولايات المتحدة في قضية ينتج عنها إيرلندا شمالية أو قبرص أو لبنان

آخر [٦] .. عاد فصرح بعد يومين (٢٣/٥/١٩٩٣) وأشاد (بالحل العملي الأمثل ... الذي سيكون الخطوة الأولى والمرحلة لإحلال السلام في البوسنة. واعتبر أن هذه الخطوة هي لمصلحة الشعب الأميركي ذاته! !) (الغارديان ٢٤/٩٣٥) . ...

عملياً فالخطوة الأميركية-الأوروبية الجديدة هي إنهاء، وبشرعية دولية،

لوجود البوسنة والهرسك كدولة ذات سيادة تتمتع بحريتها واستقلالها وتحويلها إلى

مخيمات كبيرة للاجئين يجردون من سلاحهم ويحبسون فيها.

الحلول البديلة:

كانت هناك بعض المعارضة داخل الولايات المتحدة كتلك التي برزت من

الديموقراطيين والجمهوريين الذين صرحوا على لسان نائبهم في البرلمان بوب دول: ... (أن الخطة جاءت لتمحي من الوجود شيء اسمه دولة البوسنة والهرسك) . وقد ...

صرح النائب الديموقراطي دانيال باتريك مونيهام: (إننا بهذا نُشَّرع للقتل الجماعي

والمجازر.. لم يشهد النظام الدولي ذلاً وعوجاً أخلاقياً لهذا منذ العام ١٩٣٠) .

الدول الإسلامية - (بكل ما عُرف عنها في الفترة الأخيرة من حزم وشدة

وقرار) - عملت مع (الدول غير المنحازة) على إعداد مشروع قرار هدفه ...

(إطاحة استراتيجية الاحتواء للنزاع البوسنوي التي تبنتها الولايات المتحدة وروسيا

وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا في واشنطن في إطار ما يسمى برنامج العمل

المشترك) [٧] .

ويدعم مشروع القرار استعداد عدد من الدول الإسلامية مثل باكستان والمغرب

للمساهمة بقوات ضمن إطار قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك

وذلك لحماية المسلمين شرط (تمكين القوة الدولية من اتخاذ إجراءات لفرض التنفيذ، وشرط ربط حماية المناطق الآمنة في إطار زمني بتنفيذ خطة فانس أوين للسلام

لئلا يتكرس الأمر الواقع الذي أفرزته سياسة التطهير العرقي الصربية) [٨] . وقد ...

أصدرت منظمة المؤتمر الإسلامي بياناً دعت فيه إلى توسيع قوة الحماية الدولية

لتشمل قوات الدول الإسلامية وأعربت باكستان عن استعدادها لإرسال كتيبة من

حوالي ٤٠٠ جندي. ورحب الأوروبيون بالفكرة شرط انتقاء دول إسلامية مثل

مصر والمغرب والأردن وماليزيا وأندونيسيا وباكستان كرد على بلاغ الأمين العام

للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي أن (العجز بالميزانية والقوات يجعل الأمانة

العامة غير قادرة على تعزيز الحماية في المناطق الآمنة والذي يتطلب حوالي ١٠

آلاف جندي و٧٠٠ مليون دولار) ..

(ودبت النخوة) في أحد السفراء المسلمين في الأمم المتحدة فصرَّح إثر

الاجتماع: (إن حجة الأوروبيين - خاصة الفرنسيين والبريطانيين منهم - أن عدم

فرض التنفيذ في البوسنة - الهرسك هي الحرص على سلامة وأمن قواتهم العاملة

في إطار قوة الحماية الدولية وأمنها، لذا فإن ردنا هو أننا على استعداد لإرسال

قواتنا والمخاطرة بأرواح شبابنا في البوسنة (..) ونريد بذلك منع تكرار التذرع

بالحرص على سلامة شبابهم (..) فلقد طفح الكيل) [٩] ! !

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامةٍ يا مربع

مناطق آمنة أو خطة فانس - أوين:

الأوروبيون والاميركيون الذين وقعوا على وثيقة أو برنامج (العمل المشترك) ...

والذي شاعت تسميته (مشروع المناطق الآمنة) علقوا على النقد الذي وجه إليهم

بأن خطتهم هذه ليست خطة جديدة بل هي خطوة عملية أولى لتطبيق خطة فانس -

أوين التي وافقت عليها الأمم المتحدة.

وبما أن المسلمين في وضع (كلما أشرق عليهم يوم ترحموا على الذي قبله)

أخذوا يطالبوا بالالتزام الكامل بخطة السلام الأولى والتي وقع عليها رئيس الدولة

علي عزت بيكوفيتش، وكان الكروات قد وقعوا عليها مسبقاً ورفضها الصرب

رفضاً قاطعاً، بعد أن وقع عليها زعيم صرب البوسنة كارادجتش معلقاً توقيعه

بشرط قبول برلمان صرب -البوسنة للاتفاقية وقد أجري استفتاء شعبي للصرب في

البوسنة أظهر رفضاً كلياً للاتفاقية. فإذا كانت الاتفاقية تحرم المسلمين من معظم

حقوقهم وتعطي للصرب والكروات أكثر مما يستحقون فلماذا يرفضها الصرب.

طبعاً الجواب المبدئي هو أن الصرب الذين لا يواجهون - على المدى البعيد

أو القريب - بأية قوة توقفهم عند حدهم، يرون أنه لا داعي لأن تتوقف (انتصاراتهم) عند هذا الحد. بل يجب أن يستكملوا مخطط إقامة دولة صربيا

الكبرى طالما الظروف العسكرية والسياسية (والإسلامية) ملائمة لهذا المشروع.

عرف الصرب من أين (تؤكل الكتف) وكيف. فقد أعدوا إلى جانب القوة ...

العسكرية الطاحنة جواً (شرعياً) داخل مناطقهم وبلادهم لتقبل فكرة إنهاء الوجود

الإسلامي في هذا القطاع من (أوروبا المتحضرة) . فكارادجتش نفسه شاعر قومي

طالما أثار حماسة أهل بلاده بقصائده الوطنية المليئة بالحقد والنقمة على الإسلام

وأهله. وأصدرت كنائسهم ورجالات دينهم (الفتاوى) بقتل المسلمين وسبي نسائهم

وإبادة أطفالهم وتدمير ممتلكاتهم أو مصادرتها وطردهم منها إلى غير رجعة.

الكنيسة الشرقية التي لا زالت تعيش مشاعر هزائمها مع الأتراك المسلمين

وجدت الفرصة سانحة للثأر ولإعادة الكرة عليهم. لذا وجدنا أن ناقوس الحرب قد

دُقّ في مناطق (أرثوذكسية) أخرى ليلبي أبناؤها نداء الدين في اليونان ورومانيا

وروسيا.. حتى وصلت أعداد مرتزقة تلك المناطق عشرات الآلاف ممن جاءوا (ليحموا الكنيسة من الأصولية الإسلامية) .

وقد عرف الصرب أيضاً من أين تؤكل الكتف (سياسياً ودبلوماسياً) . فقد ...

شاركت وفودهم في المفاوضات من أمريكا إلى بريطانيا إلى.. جنيف باسطين

الغطاء على العمل العسكري الذي لم يتوقف يوماً واحداً داخل البوسنة-الهرسك.

هكذا يأتي أعداء الإسلام إلى طاولات المفاوضات ورأينا كيف أتاها المسلمون أو من

يمثلهم في البوسنة وغيرها.

(الحلفاء المخلصون) ؛ الكروات:

منذ اندلاع الشرارة الأولى للحرب الشاملة في البوسنة والناس تتداول أخبار

الحلف الكرواتي - المسلم في هذا البلد فحيناً يصفه بعض المراقبون بأنه حلف (صادق) وثابت لأن الكروات والمسلمين بحاجة إلى الوقوف في صف واحد أمام

جحافل الصرب القادمة من صربيا والجبل الأسود لتدعم كتائب صرب البوسنة

ومرتزقتها من روس ويونانيين، جاؤوا ليحموا الكنيسة الأرثوذكسية من (خطر

الأصولية الإسلامية) . وحيناً كان (المشككون) يرون أن الكروات يستغلون

المسلمين كوقود لمعركة يعرفون أن المسلمين لن يخرجوا منها إلا بخفي حنين

خاصة وأن (التجاوزات) التي كان يرتكبها عساكر الكروات كانت تزودهم بالأدلة

على صحة ادعاءاتهم، وبعد أن نشرت الصحف الألمانية خطة تودجمان -

ميلوسيفيتش [١٠] لتقسيم البوسنة وضمها إلى كرواتيا الكبرى وصربيا الكبرى

نشطت الزيارات وكثرت التصريحات لتؤكد أن لا صحة لهذا الادعاء وأن الكروات

متعهدين بوعودهم تجاه (رفاق السلاح) و (أصحاب الحق الشرعي) حكومة

البوسنة والهرسك.

وجاءت الحقائق والأحداث لتدفع بالأدلة وثيقة الخداع والنفاق الكرواتي وتبرز

حقدهم وتميط اللثام عن أنياب أبناء الكنيسة الكاثوليكية وحقيقة نواياهم تجاه هذه

الدولة الوليدة، فقد أبرز الكروات نواياهم علناً بعد العدوان الخفي المستمر والمتمثل

بحرمان جيش البوسنة من الإمدادات التي لا بد وأن تمر عبر الأراضي التي تسيطر

عليها القوات الكرواتية مباشرة بعد توقيع الرئيس البوسني علي عزت بيكوفيتش

على خطة السلام المقدمة من سايروس فانس واللورد أوين (وهو ما عرف بخطة

فانس -اوين) . وقبل التوقيع عليها أعطى الرئيس الكرواتي توجمان اليمين المغلظة

لرئيس البوسنة بأن جميع المساعدات على اختلاف أنواعها ستصل إلى قوات

الجيش البوسنوي بدون أي عراقيل فور توقيع الرئيس البوسنوي على الخطة.

وهذا ليس سراً فقد غطته وكالات الأنباء والصحافة الكرواتية قبل غيرها.

ولكن كعادتهم في حفظ العهود، قام أعداء الإسلام الكروات وبتوجيه من

رئيس الدولة الكرواتية بهجوم عسكري واسع شمل جميع المدن ذات الغالبية المسلمة

التي ضمها الوسيطان الدوليان إلى الجانب الكرواتي. وقد سبق الهجوم تحذير

وإنذار من القوات الكرواتية للجيش البوسني والمسلمين بأن (الجيش الكرواتي) ...

يجب أن يأخذ السيطرة على جميع المناطق الكرواتية. لذلك لا بد لجيش البوسنة أن

يذعن لأوامر قوات مجلس الدفاع الكرواتي، أو يسلم أسلحته أو يغادر فوراً الأقاليم

الكرواتية إلى الأقاليم المسلمة (كما جاء في المؤتمر الصحفي للناطق الرسمي

لمجلس الدفاع الكرواتي في ١٥/٤/١٩٩٣. علماً بأن الأقاليم المسلمة محتلة

بمعظمها من الصرب..

المدن والقرى التي يتحدث عنها الكروات هي مدن ذات غالبية إسلامية، وقد

ضمها الوسيطان إلى الأقاليم الكرواتية، ونظرة فاحصة في بعضها يوضح الأمر:


المدينة عدد السكان [١١] مسلمون: كروات: صرب: آخرون