للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لمن المطرقة بعد الصومال؟]

محمد الشيخ عثمان

مضت سنتان ونصف أو أكثر على الإطاحة بمحمد سياد بري (٢١ / ١/ ١٩٩١ م) وما زالت أحوال الصومال ومصيرها غير معروفة حتى الآن، وخاصة ب عد الأحداث الأخيرة في مقديشو والتي وقعت بين قوات الأمم المتحدة بقيادة أميركا، وبين أنصار الجنرال محمد فارح عيديد، وأدت إلى خسائر في الأرواح والممتلكات بعد قصف الطائرات الأميركية الأماكن التابعة لعيديد. وقد سبق أن كتبتُ في (البيان) [*] عن أسباب التدخل الأميركي وموقف المسلمين تجاه أحداث هذا البلد.

وبما أن الأوضاع تغيرت سريعاً وجُلّ من يكتبون في هذه الأحداث لا ينطلقون من

رؤية إسلامية واضحة اضطررت إلى كتابة هذا المقال لبيان وجه الحق في هذه

القضية إن شاء الله.

١- إن جميع الجبهات السياسية-العسكرية في الصومال قبلية ولها طابع

علماني، وقادتها - بدون استثناء - لا يمثلون الشعب، وهم بحمد الله معروفون في

الداخل، ولا يوجد أدنى فرق بين الجنرال محمد فارح عيديد، والعقيد عبد الله

يوسف، والجنرال محمد سعيد حرس " مورغان "، وعلي مهدي محمد والعقيد أحمد

عمر جيس، وغيرهم. وقد شارك الجميع بشكل أو بآخر في مأساة هذا الشعب

المنكوب سواء في الحروب القبلية، أو بالمشاركة في البرنامج السياسي المتمثل

بدعوة أميركا للتدخل في الصومال لإكمال التبعية لكلينتون وبطرس غالي، وكل

أعداء الإسلام والمسلمين.

٢- إن قوات التدخل الأميركي في الصومال سواء أعملت تحت اسمها أو

تحت مظلة الأمم المتحدة لم تطبق ما ادّعته أميركا في القرار ٧٨٤ بتاريخ ٩/١٢/

١٩٩٢م والذي أوحى أنها تتدخل لإعادة الرجاء لهذا الشعب، وحماية قوافل الإغاثة

التي كانت تتعرض للنهب والسطو من قبل العصابات التابعة للجبهات القبلية، وإنما

كان هذا التدخل يمثل أموراً أخرى، على رأسها تكوين حكومة علمانية موالية بعد

إيجاد الأرضية لها، ومحاولة التخلص مما يسمونه (الأصولية) المتنامية في المنطقة، إلى غير ذلك من الأهداف. ودليل ذلك سلسلة الأحداث ابتداء بنزول المارينز

الأميركيين على شواطئ مقديشو يوم ٩/١٢/١٩٩٢م وما تبعها من قوات فرنسية

وبلجيكية وذلك فيما عُرف بـ: (UNITAF) (United Task Force) . وفور

نزول تلك القوات بدأت - كعادتها - تُحسّن صورتها بالقيام بأعمال إنسانية، وفعلاً

قامت القوات بإيصال مواد غذائية لمقديشو وبيدوا وبارديرا وكسمايوا وغير ذلك من

المدن التي كان يموت فيها يومياً مئات الأطفال والعجزة. وخلال تلك الفترة رحب

الشعب بتلك القوات اعتقاداً منه أن تدخلها إنساني، ولإيجاد حل سياسي لإنقاذ البلاد

مما تتعرض له من قتال ونهب واغتصاب واعتداءات أخرى. ولا غرابة في

ترحيب الشعب بهذه القوات وخاصة بعد ما خاب أمله في الدول الإسلامية.

كان المسؤول الأول سياسياً عن قوات الـ (UNITAF) روبرت أو كلي وهو

سفير سابق لأميركا في الصومال، والجنرال جنسون قائد القوات الأميركية في هذه

العمليات. وبدأت أميركا المرحلة الثانية من مهماتها بعد تمهيد الأرضية لها بارتداء

ثوب الأمم المتحدة معلنة انتهاء دور قواتها في الصومال، لذا فقد أصدر بطرس

غالي القرار رقم ٨١٤ بتاريخ ٢٦/٣/١٩٩٣م بدعوة قوات متعددة الجنسيات إلى

الصومال للقيام بمهام خارج مهمة حماية الإغاثة، مثل إعادة الأمن إلى البلاد،

ونزع السلاح من المسلحين، وجمع الأطراف المتنازعة إلى مائدة المفاوضات.

وذلك إثر مؤتمر أديس أبابا الثاني والذي اتفقت الجهات المتحاربة فيه على إيقاف

الحرب وتكوين مجلس انتقالي للبلاد، وخلال تلك الفترة وهي فترة (١ UNISOM) حاول مندوب الأمم المتحدة السيد محمد سحنون محاولات جادة لحل أزمة البلاد وجمع شمل الشعب من خلال التقريب بين الجبهات إلا أن جميع جهوده باءت بالفشل وذلك بسبب العراقيل التي وضعت أمامه من قبل أميركا وبطرس غالي مما أدى لاستقالة سحنون من مهمته، ولم يكن تنازل أميركا للأمم المتحدة إلا أمراً صورياً حيث عينت الأدميرال الأميركي " جونثان هاو ": (Jonothan Howe) قائداً لقوات الأمم المتحدة وعينت العقيد " ستوك ولل " (Stockwell) وهو أميركي مسؤولاً أمنياً لهذه القوات. ولما انتدبت الأمم المتحدة " عصمت كتاني " وهو ديبلوماسي عراقي لمتابعة قضية الصومال فوجئ بأن القوات المزعومة ليس لها أي صلاحيات، وأن أمور البلاد تدار من قبل السياسة الخارجية الأميركية مما أدى إلى استقالته فوراً متعللاً بأسباب صحية. وخلال فترة ما يعرف بـ (UNISOM١) خدعت أميركا رؤساء الجبهات القبلية بوعود فارغة، وذلك من خلال مؤتمر أديس أبابا الثاني. وقد وافقت جميع الجبهات على ما أملت عليها أميركا من نقاط كتعديل دستور البلاد وحذف فقرات منه، وإضافة أشياء أخرى. وأصرّ " روبرت أو كلي " حذف عبارة " الإسلام هو الدستور الوحيد للبلاد " وتغييرها بـ: " الإسلام أحد ... مصادر دستور البلاد ". ومن الغريب جداً أن أميركا طلبت أن يكون ثلث أعضاء المجلس الانتقالي المكون من ٧٥ عضواً، من النساء، كما أضافت فقرة وهي: (حرية الأديان وحماية حقوق الأقليات) . ويعنون بالأقليات فئة من الصوماليين النصارى أمثال محمد سعيد سمنتر مدرس في إحدى جامعات أميركا وأحمد حيلي الذي عينه علي مهدي في منصب نائب وزير الخارجية بمؤتمر جيبوتي المنعقد في شهر ٦ و ٧ عام ١٩٩١م.

هذا الدور الأميركي خلق شكوكاً لدى رؤساء الجبهات القبلية وبالأحرى

العساكر منهم مما أدى إلى لقاء عاجل بين الجنرال عيديد والعقيد عبد الله يوسف في

مقديشو في نهاية شهر أيار (مايو) ١٩٩٣م مما فتح مواجهة مسلحة بين عيديد

وقوات الأمم المتحدة أو القوات الأميركية بعد مقتل ٢٣ من القوات الباكستانية داخل

مقديشو. وتعد هذه المرحلة الثالثة والخطيرة، وهي مرحلة استعمال القوة وضرب

أي شخص أو مجموعة تقوم بعمل عدائي ضد قوات الأمم المتحدة وهذا تحت القرار

رقم ٨٣٧ بتاريخ ٧/٦/١٩٩٣م.

بعد صدور هذا القرار بدأت القوات الأميركية بضرب مناطق مهمة في جنوب

العاصمة كانت تحت سيطرة عيديد مما أدى إلى خسائر في الأرواح والممتلكات،

وإرغام الجنرال على الاختفاء ولا زال مصيره مجهولاً [**] . وراحت قوات

الجيش الأميركي تتصرف بطريقة عشوائية كما حصل في بداية شهر تموز (يوليو)

من قصف الجيش الأميركي اجتماعاً لأنصار عيديد مما أدى إلى مقتل ٧٣ صومالياً، وجرح أكثر من مائة وذلك كله بحجة أن الجنرال فارح عيديد كان في الاجتماع.

بيد أن الأمر ليس ملاحقة عيديد وإلاّ فقد ذكر أحد الجنرالات الإيطاليين أن قواته

كان بإمكانها مرتين القبض على عيديد إلا أن " جوناثان هاو " القائد الأميركي رفض

القيام بذلك حتى لا تنتهي المسرحية.

إن أميركا من خلال دورها الجديد في الصومال مستخدمة مظلة الأمم المتحدة

أصبح واضحاً أن هدفها الأول والأخير هو تدمير ما تبقى من هذا البلد المنكوب،

وملاحقة العناصر التي ترفض سياستها، فعلى من الدور الآن يا ترى، وعلى من

ستنزل المطرقة بعد الصومال.


(*) العدد ٥٩، الصادر في رجب ١٤١٣ هـ، ص ٧٠.
(**) " قال الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي أنه بات ضرورياً تصفيه زعيم التحالف الوطني الجنرال محمد فارح حسن عيديد جسدياً من جهة أخرى، سأل مراسل صحيفة (ربيببلكا) اليومية الإيطالية بطرس غالي - في نيويررك - عما إذا كان ضرورياً تصفية الجنرال عيديد جسدياً، فأجاب ب (نعم) في الحديث الذي نشرته الصحيفة في روما " يوم السبت ١٧/٧/١٩٩٣م/٢٧ محرم
١٤١٤هـ ".