للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عودة إلى المعرفة

(٢)

محمد بن حامد الأحمري

لا تقدم المدارس - التي في بلاد المسلمين - للطالب ثروة ثقافية كافية تُعَرِّفه

بنفسه وبالحياة وبالناس من حوله، وإذا كان الطالب من ذوي الرغبة في الفهم

والوعي يجب عليه أن يترصد المعرفة خارج المدرسة، ولهذا السبب يعجز عدد

كبير عن التماس سبيل المعرفة، ويضل حيث يتلقاهم عالم نصراني واسع الاهتمام

بنشر أفكاره وسلوكه، كما يتلقاهم عالم الأحزاب المتناحرة التي يعطي كل حزب

منها ثقافة خاصة به سرية أو علنية، وربما كانت سخيفة أو ذات أهمية وخطر.

لذلك يفرض هذا المجهود الفردي المضني الذي يعانيه الطالب حتى يتعلم -

لأن المدارس لا تقدم له شيئاً من ذلك - والتخبط في وضع المناهج التعليمية هو

الذي أوجد التعليم المتناقض، والمجتمع المتباين، والولاءات المتعارضة مما لا

يعانيه غيرنا في العالم.

إن مدارس المسلمين - في أغلب الأحوال - لا تستطيع صياغة فكر الطالب

لأنها لا تعرف ماذا تريد به ومنه، وحتى لو كانت تعرف، فإن غيرها قد يجبرها

على سلوك طريق غير الطريق التي تريدها هي لأنها قامت على أسس شكلية ربما

كانت كردة فعل ضد الذين يتهمون الشعب بالافتقار إلى المدارس أو الجامعات، لذا

كان قيامها كإثبات شكلي أحياناً الغاية منه وجود المدارس لا فاعليتها وتربيتها، ولا

ليكون لها دور في تنوير المجتمع وهدايته وترقيته، وتخلصه من غابة النصارى

المفترسة وذلك بتقديم المؤسسات الإسلامية الهادفة..

اللغة:

لا تقدم المدارس للطالب آلة معرفية قوية. فآلة المعرفة هي اللغة، وتكاد

تكون معرفة اللغة العربية مشكلة جماعية، بينما نجد الأساتذة الأجانب يجيدون

لغاتهم إجادة تامة، وينقرون فيما لا يخطر على بال في أعماق اللغة " لغتهم "،

وهذا ما ذكره لي أحد الطلاب الذين يدرسون مرحلة الدكتوراة في جامعة أوربية.

وذكر أنه وزملاءه لا يعرفون لغتهم الأم مثلهم مثل الباحثين حتى بالعربية في البلدان

العربية من الذين يعانون من هذه المشكلة التي لا يحلها الأستاذ المشرف ولكن لا بد

من خبير آخر لحلها.

لقد أصبحت وسيلة المعرفة عائقاً عن التعلم والتعليم بسبب تجاهلها من قبلنا

ولأسباب ضغوط أخرى منها اللغات التي تزاحم الأصل إذ يتهجىّ الطالب أول

كلماتها، ثم لا يعرف بعد ذلك عنها شيئاً، ويشعر نفسه أنه عرف لغتين، أو تفتخر

المدرسة وتدعي أنها علمت تلاميذها عدداً من اللغات في الوقت الذي لم يتعلموا من

اللغتين شيئاً مذكوراً، ومن ضعفت وسيلته عسر عليه بلوغ غايته.

تخضع العملية التعليمية - في العالم الإسلامي - لجهات عديدة متباينة في

أهدافها ومصالحها تتنافى أحياناً مع مصالح المسلمين وغاياتهم، فالذين يضعون

البرامج التعليمية لا بد لهم من مراعاة «اليونيسكو» وقوانينها، ولا بد لهم من

مراعاة دول الغلبة والقوة، ولا بد لهم من مراعاة الأقليات والجيران، بعدوا أم

قربوا، ولكل أمة وهيئة شروطها على مدارسنا تقتضيها القوانين النصرانية التي

يسمونها عالمية.

وتخيلوا كيف يمكن لهذا التعليم أن يصوغ للطالب هوية ولغة ودين ومكانة بعد

أن اشترط الجميع عليه إرضاءهم.

إن الذي يرضع الولاء والبراء مع لبن الطفولة، ويقرر ما يفيده حين يكون

صاحب قراره، دون الانصياع لأعداء ورث عداوتهم ووعاها عن قناعة، وعاداهم

عن مصلحة وضرورة شرعية وعقلية، ذلك هو الذي يمكن أن يكون عنصر بناء

وريادة، لا عنصر تقليد وتبعية مهينة.

روافد المعرفة:

التعليم عملية مبدئية تحتاج لاستقرار بعض المبادئ الثابتة لدى الفرد، وهي

صراع بين الجهل والمعرفة، وليس لأحد الحق أن يحول الطالب إلى مادة مستهلكة

تنفق عمرها في صراعات أنواع الجهل والغموض والبلادة بلا نهاية، فالذي يريد

أن يشارك في صراع الحضارات وبناء المدنيات والأمجاد، والذي له دين ورسالة،

يجب أن يبدأ ببناء هذه الأولويات من المراحل الأولى، ومع مرور الزمن يمكننا أن

نجد رجالاً ينفعون ويضرون، فمدة حضانة المعرفة عشرون سنة يغتنم خلالها

المعلم والمتعلم زمنه، وزمن حضانة الأخلاق أربعون عاماً تنتج دربة الخُلُق بعد

التخلق أربعين عاماً. ولا يقاوم انهيار التعليم إلا بإثارة الحوافز لدى الأمة وإشعارها

بأخطار الآخرين ومنافستهم.

لقد شهدت ندوة أقيمت في بريطانيا، وكان الحديث فيها عن العملية التعليمية

وضعفها عندهم، واقتراح سبل المعالجة للشباب الذي فقد هويته ومكانة وطنه

وضعف انتماؤه وكانوا يركزون على غياب الانتماء الحضاري، وينددون بهجمة

كلمة العالمية التافهة التي جعلت البريطاني لا يحترم بلاده، ولا يعمل ولا يجدُّ ولا

يدرس، وكانت اقتراحات عديدة منها ضرورة الدخول في حروب تذكي الحمية

والولاء، وتعيد القوة والغيرة، وتفتح الأسواق، وتنمي الجيش والجدَّ في الحياة.

أما نحن فنرى - مقابل هذه الدعوات - بعض السذج في العالم الإسلامي

يطالبون المسلمين بالتخلي عن المواجهة كلية، وإلغاء كلمة الجهاد، واللحاق بالعالم

النصراني المسالم حتى لكأنهم يعيشون في كوكب آخر ليس فيه الصومال والبوسنة

وفلسطين وغيرها، وغيرها كثير جداً. ينسون دفع الله الناس بعضهم ببعض

وأهمية جندية المسلم وإعداده للغزو حماية للحمى، أما الأمر بالغزو فذلك ما لا

يطيقه الخانعون، ولا يطيقون الحديث عن استعادة كرامتهم، من خلال بناء مناهج

التعليم بناء إسلامياَ كريماً، ولا أقول: عدوانياً، ولكن بناءً يتخلص من عقدة

العدمية.

إن للإنسان المسلم روافد ثقافية عديدة يجب إحياءها كالمسجد الذي فقد دوره

الثقافي عندنا، بينما استمر دور الكنيسة عند النصارى، ودور الإعلام الثقافي

عندهم، يقابله إعلام الدعاية الفجة في بلدان العالم الإسلامي التي تدعو للجهل لا

للمعرفة.

القراءة:

لقد ضعفت إثارة الرغبة في المعرفة والفهم في مدارسنا، فالكتاب المدرسي

الذي يجب أن يكون بداية لكتب أخرى، ولسلسلة من الكتب والمعارف، واتساع

دائرة المدروس، وإثارة الرغبة الدائمة لدى الطالب والمدرس في معرفة بقية

جوانب المواضيع الدراسية لأن قراءة كل صفحة هي إضاءة لجانب مجهول،

وزيادة للقوة، فالعلم قوة، والمعلومات المتناثرة في عهد الدراسة لا بد أن يحولها

الطالب بعد فترة إلى علم، وإلا فسيبقى المدرس والطالب على هامش المعرفة، ولا

عمق لهم ولا مدخل إليه، جموع جاهلة تدعي المعرفة وتجهلها، والحكمة تغترف

من رفوف الكتب، وتأبى أن تمنح نفسها للعاجزين والكسالى، وذوي الملل

والاستغناء بالشهادة أو المغرورين بالرأي الفاسد.

حرية التعليم:

لا بد للمعرفة من حرية تصان، ولا يمكن أن يصون الجاهلون الحرية، ولا

أن يعرفوا سبيل الحصول عليها، وكلما ضاق طريق الاختيار أمام الفرد ضاق

إمكان تأثره أو استفادته من نفسه ومن الآخرين، فتنوع المعرفة وعمقها وتناول

مجالات عديدة من مجالاتها تجعل الإنسان عارفاً بحقِه، عارفاً بطريق الحصول

عليه، وأن تعسر طريق لم يكن كلاً عن ابتداع طريق آخر مدركاً لإمكان وجود

بدائل صحيحة أخرى. وليس المقصود هنا حرية إنشاء المدارس الإنجليزية

والفرنسية والصينية فذلك تعليم هدّام، يمزق المجتمع وينشئ ولاءات داخله

وتتصادم ثقافاته في عقل الطفل.

المعرفة الشرعية:

المعرفة الشرعية هي أس المعارف وهي التي تصون كل المعارف، وتهذبها

لذا يجب أن تكون مهيمنة عليها ليس فقط كمادة مدروسة، ولكن اعتمادها توجهاً،

ومساراً يجمع شمل التعليم، ويقلل الخلاف، ويوحد الأمة، ويخفف الصراعات

داخلها. وغياب المعرفة الشرعية عند المسلمين، غياب لذاتهم ولتاريخهم ولهويتهم، وهو محو للشخصية، ولذلك يوجد المجتمع ثقافته البديلة أثناء غياب المعرفة

الشرعية لتكون بديلاً عن المعرفة الشرعية، ويتصرف حسب ثقافة اجتهادية

متنوعة بديلة فيها الحق والباطل مؤذنة بالشذوذ والخرافة، وتفتح باب الثقافات

الأخرى ويدخل المجتمع في دوامة لا نهاية لها.

يدعي البعض: أن غيرنا كالنصارى مثلاً ليس لديهم تعليم ديني، ولا احترام

لدين، فهذه مغالطة فلديهم مدارس دينية، وبرامج دينية، ومحطات تلفاز عديدة

دينية، وجامعات دينية، وبعضها يميزون فيها البنين عن البنات إلى حد كبير

ويطردون من يخالف منهج جامعاتهم، أو يصرح بالإلحاد، وليس ثبوت حرية

الإلحاد في جامعات أو مكان يلزم منه حرية الإلحاد في كل مكان أو كل جامعة "

وليس هذا موطن شرح ذلك " [*] . ودارسوا الحضارات من كل الشعوب، وفي

كل العصور يرون أن الحضارة لا تقوم إلا على دين يجمع ويدفع للعمل، ولم يشذ

عن ذلك سوى الشيوعية، وكانت شاذة في بدايتها وفي نهايتها. ولا يزعم أحد أنها

كانت حضارة، بل مشهد قسوة من مشاهد الانحراف والتشوه الفكري الألماني،

وشذوذ اليهود سرعان ما ثبت فشله، فإلى متى لا نركب مركب الحق ونسلك طريقه؟ كيف نرقى بالسلوك الشاذ بين الأمم بلا دين ولا هوية؟ ونجهد لطمس ديننا كل

يوم وطمس معالمه بأنظمة تعليمية غريبة ومعادية، ولا تكفي لمعرفة الشرعية التي

تدرس على مستوى ضيق بل وندرة في بعض البلدان، وبعضها الآخر يحاربها،

فإنها تدرس بشكل نظري جاف وبلغة لا تكاد تُفْهَمُ، ونسي رجال المناهج أن يجعلوا

من العملية التعليمية الشرعية أسلوباً عملياً ولو في نطاق ضيق حسب المسموح به،

ولك أن تقارن بين شيخ صادق يدرس الفقه بالمصطلحات العباسية كالرطل العراقي، ولا يكاد يحدده لتلاميذه، وبين الإمام أبي داود الذي نزل بئر بُضاعة يقيسها

بعمامته حتى يعرف ويعرِّف بمقدار الماء النجس والطاهر. ونحتاج تحديث

المصطلحات الشرعية من خلال نشر معرفتها أو استخدام بدائل فيما يصح أن يكون

له بدائل معاصرة أو أصبحت له بدائل أو " مُسَمَّيات " في زماننا ما دام ذلك لا

يوجب حرجاً شرعياً، ومن المكاييل والمقاييس والموازين تنقل بالتحديث

والمعاصرة إلى غيرها، حتى لا يجد الطالب نفسه يتعلم رموزاً غريبة عنه. وأهم

من ذلك إنزال الفقه إلى حياتنا اليومية.

القدوة:

لا يسوق الطالب للعمل الصحيح سوى المثال الرائع بدءاً بأمثلة مدروسة في

التاريخ مثل تراجم الرجال التي تُربى لديه نزعةَ السّمو والاتباع للأبطال، وتزيد

معارفه في جوانب الحياة الإسلامية العامة، وتبعده عن أمثلة التفاهة وأقزام المجتمع، وتجنبه السلوك الضعيف والقدرة الماجنة الهزيلة التي حذرنا منها، ويكون

استبدال ذلك ببدائل جادة وأمثلة من تاريخنا الإسلامي العامر بسير ذوي الشجاعة

والعلم والكرم والحلم والجهاد، وليس في مقالات قصيرة مبتسرة وإنما في حملة

ثقافية واسعة تشمل شتى جوانب المعرفة.

إن من يجهد لإقامة أمة وتعليمها لا يمكن أن يراعي كل الأمم، ولا أن

يستشير كل مفكريها، وليس هناك شيء اسمه مناهج عالمية، أو ثقافة عالمية، أو

تربية عالمية ولكن لكل قوم مناهجهم، وثقافتهم وغاياتهم، وتربيتهم والذي يقره قوم

يرفضه آخرون، ولكن هناك وسائل قد تكون عالمية ويبقى المحتوى التربوي

والهدف أمر يصنعه العالم الإسلامي لنفسه إن كانت له قدرة على أن يفكر لنفسه في

هذا الأمر.


(*) في مذكرات الفيلسوف الأميركي المعاصر مورتيمر إدلر، ذكر العديد من الحوادث منها: أنه درس في الكلية الجامعية بنيويورك وكان البنين مفصولين عن البنات، وذكر أن زميلاً طرد من الجامعة في جامعة كولومبيا الشهيرة في نيويورك؛ لأنه كتب شعراً فُهم منه الإلحاد وفي أميركا جامعات خاصة للبنات كالتي في مدينة دمنتون شمالي ولاية تكساس.