للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملف السلام العربي / الإسرائيلي

حواشي على متن الاستسلام

د/ خالد الجابر

ويسأل السائل، ويلح في السؤال عن الموقف الصحيح الذي يجب أن يتخذه

المسلمون قاطبة، حول ما يُسمى بمباحثات السلام مع العدو اليهودي. وخاصة

حول الاتفاقية الأخيرة (غزة وأريحا أولاً) .

والجواب واضح بيّن - بحمد الله تعالى- لمن آتاه الله العلم، والبصيرة،

وستراه هنا في جملة من المسلَّمات والحقائق التالية.

المسلَّمة الأولى:

إن من لوازم التوحيد، ومقتضيات الشهادتين: الانقياد المطلق والاستسلام

التام لله رب العالمين، والشريعة التي أنزلها على عبده ورسوله محمد -صلى الله

عليه وسلم-[ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ

الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]

[الأحزاب: ٣٦] فلا يعارض أمر الله وأمر رسوله بعقل، أو قياس، أو

هوى، أو عواطف، أو غير ذلك، بل يحذر كل الحذر من مخالفة أمره [فَلْيَحْذَرِ

الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] .

ألا وإن من مستلزمات هذا الكلام أنه إذا عرضت للمسلم حادثة، أو مسألة،

أو نازلة، فإنه قبل أن يصدر حكمه فيها، لا بد أن يعرضها على كتاب الله وسنة

رسوله كما فهمهما علماء الأمة، وأئمة الدين، فاذا عرف حكم الله في المسألة سار

بموجبه.

ومن هنا تعلم ضعف الحال الذي آلت إليه الأمة لما أعرضت عن علمائها

وفقهائها في كثير من البلدان، فصاروا لا يُستفتون في الأمور العظيمة الجليلة، بل

لعلهم آخر من يعلم! فإذا تم الأمر طلب منهم أن يصدروا ما يثبت صحة ذلك القرار! فإن أبوا وأفتوا بخلاف ذلك، أهملت فتواهم وبُحث عن غيرهم! .

ومن هنا تعلم أيضاً ضعف كلام من يبيح ما حرم الله بسبب العنت والمشقة

والآلام، ويذكرك ببكاء الصبية وترمل النساء، وتشرد الناس، وهدم بيوتهم ونحو

ذلك مما تحركه العاطفة، وتبعثه المعاناة. وهذه الأمور كلها إن كان لها اعتبار عند

الله، فإن المفتي لن يلغي قيمتها، بل ستكون من معالم الفتوى، وإن لم يجعل

الشارع لها اعتباراً فلا وزن لما أهمله الشارع وألغاه.

وخلاصة هذه المسلَّمة أنه لابد من عرض أي حادثة وأي مسألة على الشرع

قبل البت فيها، فإذا تبين حكم الله وحكم رسوله وجب الانقياد والاتباع.

المسلَّمة الثانية:

لا اعتبار شرعي ولا قيمة ولا وزن لما يعقد وعقد وسيعقد من عهود واتفاقيات

مع اليهود لأمر ظاهر بيّن، روضت الأمة على نسيانه والغفلة عنه، بل واستغشاء

الثياب، وصم الآذان عن سماعه ألا وهو أن هؤلاء المتنفذين على مصالح الأمة،

والمبرمين لمثل هذه الاتفاقيات لا يمثلونها ولا يعبرون بلسانها، ولا يصدرون عن

رأيها، [بل إنا نذهب إلى ما هو أشق قبولاً عند الظباء المروضة- وقد قاله بعض

العلماء- من أنه لا كبير فرق بين أن يسوس المسلمين مرتد علماني مفسد، أو كافر

أصلي، والواقع يشهد بذلك] .

فلا داعي إذن للاكتراث بما يفعلونه ويقررونه، فالأمة إذا استفاقت واستعصت

على المروّضين، وتمنعت على التنويم المغناطيسي، فإنها لن تعدو أن تحرق هذه

الأوراق! .

ثم إن ثوابت الملة، ومقررات الشريعة لا يستطيع أن يسقطها أو يعدل فيها

العلماء والفقهاء، فضلاً عن الجهلة بأساسيات الدين وقواعده أو المعرضين عنها

بالكلية، الجاعلين إياها خلف ظهورهم، ومن هذا أنه لا يحق لهم أن يحددوا معالم

علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، وقد بين الله ورسوله حدودها ومعالمها،

واكتملت أركانها بتطبيق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، هذا هو الأصل،

فإن ضعف المسلمون عن حماية بيضة دينهم أن تكسر، وحوزة مملكتهم أن تقتحم

وكانوا أذل من ذلك، واستباحهم الكفار (فلأهل الحل والعقد) فيهم أن يمنعوا هذا ...

بما تبيحه الشريعة من صلح أو عقد، على أن يكون مضروباً إلى أجل. أما أن

تباع أرض المسلمين فلا! إذ الأرض لله، ولا يجوز بيع ما لا تملك!

[وخلاصة المسلَّمة الثانية أن ما يبرم الآن من عهود باطل شرعاً؛ لان من

أبرمه فاقد الأهلية، فلا يقبل منه ذلك، كما أنه لا يقبل منه أن يحدد العلاقات مع

الآخرين، فقد بينها الله ورسوله] .

المسلَّمة الثالثة:

إن مصيبتنا في فلسطين، على فداحتها وعظمها، وشدة هولها، ليست إلا

عرضاً واحداً من الأعراض الكثيرة: لمرض الأمة الكبير، وليست هي المرض

ذاته! .

فكما أن مصيبتنا في فلسطين عرض، فمصائبنا في أفغانستان، والبوسنة

وكشمير، والحبشة، والفلبين، والهند، وطاجكستان، والأندلس، كلها من

أعراض مرض الأمة الكبير.

وإن كانت هذه أعراضاً ظاهرة، يراها كل أحد، فلمرض الأمة أعراض

أخرى لا يراها إلا طبيب. وهذه الأمة أمامك: قد كثر فيها الخبث الدائر بين الكفر

والشرك والكبائر وعطلت الشريعة وارتفعت رايات العلمنة، وهبت رياح التغريب، وعم الفساد حتى صار الموحِّد سابحاً ضد التيار، ومع هذا فقد ضعف التقي

وتخاذل المؤمن، وتفرق الأخيار، وهذه الأمة أمامك: حمى مستباح وباب مخلوع،

وسور قصير مهدَّم. قد بثت العيون على أطرافها، لا ليحذروها لكن لينبئوها بمقدم

الأوامر العليا، من طرف الأرض الآخر! قد تعلمت فنَّ الترجمة، واستدانت لذلك

قلماً.

فآلت الأمة إلى نبوءة الصادق المصدوق: غثاء كغثاء السيل، وصدق فيها

وصف عدوها لها أنها الرجل المريض. فمن ثمَّ، فالأمة من ضعفها في ذهول ومن

ذلتها وهوانها في شرود، ومن الضغوط التي عليها، والبلايا التي فيها، في حالة

من اللاوعي. فما تصدره من قرار، أو ترسمه من خطة، إنما هي حيلة العاجز

ووسيلة الغريب المضطر. وحين تعود لوعيها، ويزول عنها ذهولها، ستزُمُّ

الشفتين عجباً، مما فعلته في «زمن التيه» .

[وخلاصة هذه المسلَّمة: أنه لا يصح أن تصرفنا الآلام والأعراض إلى

تسكينها وتهدئتها، ونهمل المرض الأصل، ومهما سكَّنا الآلام، والمرض لم يعالج

فلن ننتفع بشيء] .

المسلَّمة الرابعة:

أما وقد استبان لك ما مضى، إن شاء الله، فلك أن تسأل الآن وتلح في

السؤال، لا عن الاتفاقية، وتفاصيلها السياسية، فهذا آخر ما ينبغي أن تفكر فيه.

نعم: إننا نحتاج ولا شك لمعرفة التفاصيل والخفايا، لكنها تكون كحجج أهل المنطق، لا لنثبت بها الدين، إنما لنرد بها على أهل الباطل. ولك أن تسأل الآن، وتلح في السؤال عن علاج مرض الأمة الكبير، وكيف يكون؟ فإنك إن سألت هذا السؤال تكون قد خطوت خطوتك الأولى في الطريق الصحيح، الطريق إلى الأقصى. ألا فاعلم أيها المبارك غير مجهَّل: أن داء أمتنا منها، وأنها مصابة بداء نقص المناعة الذاتي، فصارت تتلف نفسها، وتتأبى على أطبائها، والله قد أنبأنا عن الداء، فقال تعالى [ومَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ] [النساء: ٧٩] قال عز وجل [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] ثم وصف لفا الدواء [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ] [محمد: ٧] ، وقال [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] [النور: ٥٤، ٥٥] .

إنه الطريق الذي سلكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الطريق الذي لا

يلقاه إلا الذين صبروا، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم.

ومن معالم هذا الطريق:

- صرف الجهود في تربية الجيل، وتزكيته، والسعي لرفع مستواه، بالدعوة

الدؤوبة، والمتابعة الدقيقة.

- ومنها نشر العلم الشرعي، المبني على الكتاب والسنة، وتعليمه الناس

وتقريبه لهم. ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي

المفسدين، ومقارعة الظالمين، وفضح كيد الخائنين.

ومنها الاستفادة من كل الخبرات، والعلوم العصرية، والحرص على تعلمها

واتقانها والتفوق فيها.

- ومنها التعاون بين فئات الدعاة إلى الله تعالى وتنسيق الجهود، وترتيب

القدرات، والاجتماع والتآلف.

- ومع هذا كله فلا بد من الصبر، فالصبر ثم الصبر وهذا هو الطريق الذي

لا يمر عبر البيت الأبيض ولا غيره فضلاً عن أن يبدأ منه، إنما قبلته البيت العتيق.

هذا هو الطريق.. إنه الطريق إلى الأقصى.