للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

العالم العربي بين ناري

القومية والقطرية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم

بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فمنذ أشرقت شمس الإسلام على بطاح مكة المكرمة مؤذنة بظهور هذا الدين

الجديد، وصاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم-يعلنها مدوية في سمع الزمان مبيناً

عالمية رسالة الإسلام حيث يقول: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي «وعَدّ

منها (وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس كافة) » وأكد ذلك القرآن

الكريم بقوله تعالى: [وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً] ، وقوله: [وما

أرسلناك إلا رحمةً للعالمين] ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وقامت دولة الإسلام

بالمدينة وصدقت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم باتساع دولة الإسلام حينما

جاءه بعض الصحابة يشكون له أذى قريش فبين لهم أن الله سيتم هذا الأمر، (حتى

يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله) ، وفي رواية: (والذئب

على غنمه) رواه البخاري.

فلم يكن للمسلم منذ صدر الإسلام وعصوره المتتالية جنسية سوى عقيدة

التوحيد، لا يعرف جواز سفر، ولا بطاقة تعريف، سوى أنه مسلم يدين بالإسلام

حتى انتهى العالم الإسلامي في عصوره المتأخرة إلى الوقوع في أتون النعرات

القومية، التي كانت بضاعة مستوردة، أدت إلى نشوء النزعات الجاهلية التي جاء

الإسلام لوأدها وهدمها، لكنها عادت يوم ضعف الدين في النفوس، ولم يعد له

الحاكمية على الناس، منذ أن دعا القوميون العرب لنعرتهم القومية خلال

العشرينات، التي كانت ردة فعل للقومية الطورانية التركية، مما أدى إلى سقوط

جل الدول العربية تحت سيطرة الاستعمار الأجنبي.. وحينما قام المجاهدون

يدافعون عن حمى الإسلام ضد التسلط الأجنبي سُرقت ثمرات الجهاد فتحول في

أواخره من جهاد في سبيل الله إلى حركات وطنية استقلالية بمنطلقات علمانية

وقومية جاهلية، أطالت من عمر الاحتلال يوم اصطنع المحتلون نفراً من أولئك

القوم مكنوا لهم، فكانوا في عدائهم للإسلام ودعاته أعظم من الأجنبي يوم كان محتلاً

لديار الإسلام.

ومن العجيب أن يكون أكثر دعاة القومية العربية من النصارى ومن العجم ويا

ليتهم اعتزوا بأخلاق العروبة وآدابها التي هي أقرب ما تكون إلى الإسلام بل إن

الإسلام أقر الصالح منها مثل: الكرم، والوفاء، بالعهد، والحفاظ على الجوار

وحماية العرض، وكان مِنْ عرب الجاهلية مَنْ لا يقر الظلم والبغي؛ لذا قام نفر من

أعيانهم بحلف الفضول، ذلك الحلف الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم:

لقد شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به

في الإسلام لأجبت «، لكنهم داسوا تلك الخلال ولم يحترموها فضلاً عن أن

يطبقوها بوحي من إيمانهم بشريعة الإسلام، فجاؤوا بدساتير أجنبية مستوردة، لا

تقيم لشريعة الإسلام أي احترام، بعد أن نَحّاها المستعمر، فلم يبق منها سوى

أطلال تتمثل في بعض قوانين الأحوال الشخصية؛ وحينما انتقدت تلك النزعة

العلمانية قال بعضهم خداعاً أو جهلاً: (الإسلام تراث من تراث القومية العربية

ومحمد -صلى الله عليه وسلم-بطل من أبطالها) ، لقد كان التوجه القومي في البلاد

العربية مظهر انحطاط وانهزامية لأمتنا، إذ كانت ثماره المرة ما يلي:

١- خسران الحروب التي دخلها العرب في تلك الحقبة.

٢- تنحية شريعة الإسلام عن الحكم.

٣- اضطهاد الحركات الإسلامية ورموزها ما بين قتل وسجن وتشريد.

٤- لم تسلم دولة عربية مجاورة لأخرى من حروب ونزاعات على الحدود.

٥- تشجيع النزعات العنصرية في جل الدول العربية من الفرعونية

والآشورية والبربرية، ونشوء أحزاب علمانية تدعو لتلك التوجهات الشعوبية

المشبوهة.

٦- الانهيار الاقتصادي لاسيما الأخذ بالتوجهات الاشتراكية وما سواها من

الاتجاهات الليبرالية التي لم تذق منها الشعوب العربية سوى الجوع والمسغبة.

٧- هرب كثير من العلماء التقنيين خارج العالم العربي لعدم احتوائهم من

ناحية، أو مخالفتهم لتوجهات أولئك الحكام من ناحية أخرى.

هذه بعض من نتائج ومعطيات الحقبة القومية، التي بليت بها أمتنا ومازالت.

لقد كانت القطرية موجودة في كثير من الدول العربية قبل حرب الخليج

وبعدها بكل ما أنتجته من تغيرات استراتيجية وميدانية أخذت وبشكل واضح

اتجاهات انكفائية تتلبّس لبوس الوطنية وتنظر من خلالها إلى ذاتها وأمنها نظرة

خاصة وتجعل من مصلحة النظام الحاكم المحور المعوّل عليه في بناء سياستها

وتوجهاتها، لا تنظر معها إلا لمصالحها فقط، حتى ولو كانت مع العدو نفسه.

إن تلك النزعة الانكفائية، مظهر تخلف ولا شك لأنها لا تتنافى والطموحات

القومية المزعومة فحسب، بل إنها قبل ذلك تتصادم مع حقائق الإسلام وأخلاقياته،

زيادة على ما تشكله من طعن مباشر في (عقيدة الولاء والبراء) .

إن حب الأوطان فطرة تعيش في حنايا النفوس وتعمر بها شغاف القلوب

فأوطاننا هي الأرض التي بها ولدنا وعلى أرضها درجنا ونعمنا بخيراتها وتعلمنا في

مدراسها وتظللنا بوارف ظلالها.

كان بلال رضي الله عنه يهتف شوقاً لمكة المكرمة بأبيات تسيل رقة منها:

وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل (٣)

إن تلك العاطفة فطرية في النفوس، لكن يجب أن تكون في إطارها لا أن

تصل إلى حد التقديس لتراب الوطن الضيق بعيداً عن الإحساس بواجب الإخاء

الإسلامي العام، وبعيداً عن الشعور بواجب النصرة لإخواننا المسلمين، وبعيداً عن

تحقيق متطلبات عقيدة الولاء والبراء.

إن أمتنا العربية نكبت مع الأسف منذ نُحّيَتْ (شريعة الله) واستعاضت عنها

بالتوجهات القومية، يوم حكمت الدساتير العلمانية وسارت على نهجها فلم تكن

ثمارها سوى الهزائم والسقوط، ولن يكون حال التوجهات القطرية الحالية بأحسن

حالاً، فحسبها أن تثير الحزازات بين الشعوب العربية حينما يكون كل شعب

مشغولاً بنفسه عن إخوانه في العقيدة والدين، فإلى متى تبقى أمتنا تذوق مرارة

الحرمان والانهزامية مع كل توجه علماني؟ لقد جربت الأمة شتى التوجهات

الجاهلية من اشتراكية وقومية وليبرالية ولم تكن نتائج ذلك سوى حصاد الهشيم

وقبض الريح.

إننا لا ندعو إلى تجريب الإسلام، بل إلى فهمه فهماً صحيحاً من مصادره

الصحيحة والعودة له شريعةً حاكمة، ثم الاعتماد على النفس وأخذ السبل الموصلة

للقوة القائمة على حشد كل الإمكانيات البشرية، وتقوية الاتجاهات العسكرية،

والعناية بالبحث العلمي بإنشاء مراكز البحوث، والاستفادة من القدرات الهائلة من

العلماء المسلمين الموزعين في شتى أنحاء العالم، وضرورة التكامل الاقتصادي،

وزيادة التعاون بين الأقطار الإسلامية، وإعادة النظر في السياسة التعليمية القائمة

ليس لصالح سياسة التطبيع وإنما لتخريج الأجيال القادرة على المواجهة ثقافياً

وعسكرياً، والمطالبة بأن يكون لنا مكانٌ أكبر في المنظومة الدولية ... ولن يتأتى

ذلك بدون الانتماء لعقيدتنا الإسلامية الصحيحة قولاً وفعلاً والصلح مع إخواننا قبل

الصلح مع أعدائنا.

إن العودة إلى الإسلام الحق ستحمينا من أخطارالاتجاهات المنحرفة وسلبياتها

سواء أكان ذلك قومياً أو قطرياً.