للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

اليمن:

بين حلم الوحدة.. وواقع السلطة

د. عبد الله عمر سلطان

في صمت بالغ، وظروف خفية، وغرف مغلقة ... صُنعت الوحدة وأُبرمت

صفقة الدولة الجديدة/ القديمة ... ثم ها هي أعوام تمر منذ ظهورها وإذا النتائج

المُرّة تظهر على السطح وتبدو لكل عين مبصرة ... فالحديث ذو الصوت الأجش

والاتتهامات المدوية باتت حديث المجالس، ومحور اهتمام الأصدقاء قبل الأعداء،

حتى لم يعد هناك حاجة لحاسة البصر في ظل هذا الضجيج المتوالي..

ولم يكن من المستغرب أن تصل الأحداث في اليمن إلى هذا المأزق وتلك

الزاوية الحادة ... إنها إفراز طبيعي، ونتاج متوقع «للطبخة السياسية» التي

أخرجت مشروع الوحدة بسرعة ودون إنضاج كافٍ، فإذا بهتافي الأمس وراقصي

البارحة يندبون حظ اليمن التعس، ومأزق الوحدة المتفجر، ويتناقلون الحديث عن

التصفيات الجسدية المتبادلة، والتشطير القادم لا محالة، وكأنه نتيجة مقطوعة عن

أسبابها، ومولود غير شرعي لفراش الوحدة البائس ... فلكل من يتساءل عن اليمن

ومأساته الحالية: هل من خير في حُمّى الصراع القائم اليوم بين الأصدقاء

المتربصين بعضهم ببعض، وبشيء من البسط والتحليل المنطقي نستعرض بعض

الأسئلة التي لابد من الإجابة عليها إن عاجلاً أو آجلاً..

التركيبة والثمن:

قصة الوحدة لا يمكن أن نبدأها من نهايتها أو من منتصفها ... إنها تستحق أن

تُبْدأَ منذ اللحظة الأولى التي رأت فيها الفكرة النور، وحقيقة الأسباب التي أسرعت

بإنجازها ...

لاشك أن عالمنا الإسلامي والعربي خصوصاً يعيش هذه القطرية المصطنعة

بعد قرون من الانحسار العقدي، الذي أدى في النهاية إلى زوال دولة الخلافة

العثمانية، وانهيارها؛ ومن ثم بروز مشروع الدولة القطرية العلمانية الذي حقق من

خلاله الغرب العديد من الأهداف دفعة واحدة، وفي المثال اليمني ظل حكم الأئمة

الزيديين في الشمال نموذجاً فجاً لحالة التخلف والانحسار الذي أدى إلى ما أشرنا

إليه من استباحة لديار الإسلام وشريعته ودولته العادلة، كان الإمام الحاكم في

صنعاء يمثل أوضع تمثيل معاني الجمود والمذهبية والتخلف الذي لا يمت إلى

جوهر الإسلام بصلة، وإن حكم باسم شعار الدين في تلك الفترة، وإن تولى مقاليد

الحكم (آل حميد الدين) من منطلق حماية اليمن من الآخرين، أما جنوب اليمن فكان

صورة أخرى من صور الدهاء الاستعماري البريطاني حيث تحكم بريطانيا الساحل

الاستراتيجي مباشرة، وذلك في منطقة عدن، بينما يتحكم حكام ومشائخ صوريون

في بقية المناطق الداخلية التي لا يوجد فيها مصالح اقتصادية أو عسكرية مباشرة،

عملاً بمبدأ فرق تسد ... حتى إن هذه المشيخات الهزيلة كانت تتشاحن فيما بينها

على أحقية كل منها في إصدار طوابع البريد الفاخرة، التي كانت تمثل الدخل العام

الرئيس لبعضها، بينما لم تكن تملك من مقومات الدولة شيئاً، أو من مستلزمات

السيادة إبجدياتها.

لقد استعمر الإنجليز الجنوب لعقود طويلة حرصوا خلالها على امتصاص

خيرات البلاد، وتطوير مناطق التماس بمصالحهم المباشرة، والمتمثلة في ميناء

عدن وما حوله، أما الداخل أو ما يشكل أغلبية البلاد فظل يحكم بأسلوب لا يقل

تخلفاً عن شمال اليمن، وإن كان تسلط «مشيخات الطوابع» أقل بكثير من تسلط

حكم آل حميد الدين، الذين حسبوا أن الاستقلال عن الاستعمار يعني أن يمارسوا

استعماراً داخلياً، لا يقل أذاه عن الاستعمار الخارجي في ظل حالة من التردي

العقدي، حيث كان الخرافيون وطابور الصوفية ينخر في جنوب اليمن كما كانت

المذهبية والقبلية تكبلان شماله؛ ودون الخوض في تفاصيل «الاستقلال» الذي

حصل للشطر الجنوبي، فإن من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن الثورة التي

قامت في الشمال بُعَيْد الإطاحة بحكم الأئمة، ظلت تتصرف بنمط سياسي لا يبعد

كثيراً عن الأئمة وأدواتهم السياسية ... صحيح أن الآلاف من أبناء اليمن قد قتلوا

نتيجة قتال وحشي، وتدخل مصري هو أقرب للتورط، إلا أن الثورة سرعان ما

ظهرت على أنها صورة أخرى لواقع العالم الثالث المتخلف والشديد الجمود ...

فالثورة لم تكن تحمل رسالة حقيقية تنهض بالشعب اليمني، بل إنها كانت تحمل

شعاراً ضخماً وفضفاضاً يحاول أن يرضي الذين صنعوها، والذين يشكلون خطراً

عليها ... وهذا هو الفرق بين حركات إصلاحية تنبعث من صلب الأمة وذاتها،

وتلك التي لا تتعدى كونها موجة عابرة أو صدى مغشوشاً ...

قامت الثورة في الشمال وبعد عقدين من قيامها ظلت أدوات وتركيبة وتعقيدات

الوضع كما هي ... فبدلاً أن يحكم البلاد إمام زيدي ... جرى استبدال ذلك الإمام

بضابط ... زيدي هو الآخر ... ، وظلت القبيلة ووجهاؤها أهم محرك ولاعب في

الحياة السياسية اليمنية ... لكن بدلاً من أن يحكم مجلس القبيلة مباشرة استبدل ذلك

«بحزب» يحمل اسماً مستعاراً وجمع الشيخ بين المشيخة والمسؤولية الحزبية بدلاً

من أن تكون له المشيخة فقط في عهد الإمام ... أما النمو الاقتصادي فظل بطيئاً

للغاية وظلت الثورة (حتى قبيل حرب الخليج) معتمدة على دعم «الإخوة العرب»

كما كان الوضع في عهد الإمام ... أما نسبة الأمية فقد ساهمت الثورة في تخفيضها

بشكل متواضع حيث لازالت اليمن من البلدان التي تعاني من أمية طاغية.

المشكلة الحقيقية تكمن في أن الثورة اهتمت بالشكل كثيراً ... ولم تهتم

بالمضمون ... وربما كان أنصار الإمام المخلوع يؤكدون أن ما كان سيقوم به البدر

لو سنحت له الفرصة لايبتعد كثيراً عن إنجازات الثورات المتعددة التي وجدت

نفسها في النهاية تحتفل بعيد الثورة ... لكن ما هو ثمن الثورة ... الحقيقي، وما

هي إنجازاتها؟ !

صحيح إن النقلة التي تحققت في الشمال خلال حكم «الأئمة العسكر» كما

يحلو لبعضهم أن يسميهم، إتسمت بشيء من الحرية النسبية، والرضوخ لقواعد

اللعبة الجديدة، إلا أن «شعار الثورة» كان يفتقد في الحقيقة إلى رسالة إصلاحية

تبعث الشعب اليمني من سباته كما حَلُم المصلحون الأوائل الذين تصدوا للإصلاح

في عهد الإمام ... فإذا بالوحدة المعروضة من قبل الشمال تشكل مخرجاً لقيادة

طموحة تبحث عن رسالة أو «برنامج» يجمع الشعب من حولها، كما يضيق من

حجم الخلاف حول الثروة البترولية المقبلة والتي تقع على الشريط الحدودي مع

دولة الجنوب التي كانت تعاني حقاً من نتائج ما سمي «حرب القبائل الشيوعية»

التي اندلعت في يناير ١٩٨٦.

لقد كان الحزب الشيوعي الجنوبي يرى في الوحدة مخرجاً من مأزق تضاؤل

شعبيته، وانحسار شعاراته وإنجازاته، مع تفكك المنظومة الشيوعية التي كانت

تمده بالدعم، كما أن الموجة الإسلامية العارمة التي بدأت تدق الديار الجنوبية

تقتضي تحالفات إقليمية ودولية جديدة ... لقد كان مأزق الشيوعيين الجنوبيين أكبر

بكثير من المأزق الذي عاشته حكومة صنعاء، لذا فقد سارعوا لركوب موجة

«الوحدة» التي أصروا على أن تصاغ تشريعاتها بأسلوب علماني مستفز لقطاع عريض من أبناء اليمن المسلم، ولكي تقع مسؤولية فشل مشروع الوحدة على عاتق «الرجعيين» من أبناء الحركة الإسلامية.

لقد كان مؤلماً أن يتحول مشروع مثل مشروع وحدة شعب واحد بعد طول

شتات إلى قنطرة تشكل مخرجاً لمأزق النظامين الشمالي والجنوبي، ويلقى بها طعماً

شهياً تلتهمه شعوب طالما تمنت التوحد بعد الشتات، والالتقاء بعد الافتراق والتكتل

بعد التشرذم، كما كان واضحاً منذ اليوم الأول أن ظمأ القابضين على مقاليد الأمور

في الشطرين، لا يطفئه إلا تقاسم النفوذ والسلطات في الدولة الجديدة، التي فصلت

في صورتها الوحدوية لتناسب مقاس الفريقين الحاكمين ولتهمش حركة المعارضة،

التي تمثلت في التيار الإسلامي الذي حاول أن يلفت النظر إلى فداحة جريمة

التلاعب بالدستور، وتحكيم غير كتاب الله لاسيما في المراحل الأولى للمشروع.

لقد بلغ الأمر بالمتفائلين واللاعبين على وتيرة العاطفة، ودغدغة المشاعر إلى

تشبيه وحدة ألمانيا بالوحدة اليمنية ... وكم كان الفرق شاسعاً بين التجربتين

والولادتين ... فالمؤسسات الدستورية عززت كلمة الشعب الألماني، ونقلت الشعار

إلى واقع وقدرت حجم النقلة وتكلفتها وانعكاسها، بل مخاطرها على مشاعر

وأحاسيس الشعوب المجاورة ... أما الوحدة اليمنية فكانت شعاراً جميلاً عززته

مطامع الحكام، وغذته طموحات الآمرين والناهين، وشكلته في نهاية المطاف

مآزق ومنطلقات حرجة، بدلاً من أن يكون مشروعاً تحميه المؤسسات والأفراد

والأحرار ...

وحتى لا نلوم اليمن وحده؛ لأن في مثاله نماذج شبيهة لحالات قائمة فإن

المجتمعات التي تفهم من الثورة أنها شعار جذاب، والوحدة أنها علم واحد والدولة

على أنها تقاسم للمناصب والثروات، والديموقراطية أنها ثرثرة سياسية وتجميع

للأزلام والمحاسيب في صورة حزب ... هذه الشعوب تملك الشعار لكنها وقت

الاختبار تعجز عن حمايته والذود عنه، فهيكلية السلطة وتوزيع القوة في هذه

المجتمعات هو رهن القوة المجردة، والتي تتمثل اليوم في اليمن في قوى رئيسية

ثلاث: الجيش (بشقيه الشمالي والجنوبي) و (القبيلة) و (مافيا) السوق المستفيدة من

الوضع القائم « ... وهي قوى تملك من خلال علاقتها وتحالفاتها أن تقول للوحدة

استمري إذا كان هذا في مصلحتها ... أو أن تقول لها انفرطي إذا كان هذا لا يخدم

مصالحها الضيقة ... إنها لغة واحدة: لغة القوة لا لغة العاطفة والأحلام هي التي

تقرر مصير ومستقبل وحدة كهذه ... أما الشعوب التي لا تملك المؤسسات والرموز

والجذور القوية القادرة على فرض إرادتها وإيصال رسالتها، فهي لا تمثل في

المحصلة النهائية إلا سوقاً استهلاكياً مشاعاً تمارس الزعامات من خلاله زعامتها،

وتطل المليشيات عليها لتلقي هتافات النصر وأهازيج الانتصار ... الانتصار إما

بحصول الوحدة أو بانقشاعها حسب ما تقرره المليشيات الحاكمة.

فتش عن الأصوليين! !

الساحة اليمنية في أحداثها المتلاحقة اليوم ساحة تملك كل عناصر الإثارة

الإعلامية والصحفية، التي يحاول جهاز الإعلام العربي ترسيخ أسبابه وتسطيح

جذوره ومكوناته في عنصر واحد لا غير ... هو سبب الشقاء الواقع والانكسار

المخيم على الديار ... إنه الإسلام ودعاته ممن يسمون بالأصوليين ... في اليمن

اليوم كل ما يذكر القاريء العربي بهذا» المارد «الذي رُسمت ملامحه في الشقق

المهاجرة التي تمارس الصحافة ... في اليمن اليوم اغتيالات وعدم استقرار، وفرار

رؤوس الأموال، وتضخم مخيف، وتحركات عسكرية وتهديدات متبادلة لا يمكن

أن تنطبق مواصفاتها إلا على الأصوليين» أعداء السلام «والاستقرار ... لكن

الذي حصل ويحصل أمر آخر، فالأصوليون لسوء حظ الجهاز الإعلامي العربي

ليسوا في الصورة، بل إنهم عامل تهدئة للأوضاع (حتى لو كانت فاسدة) وتركيز

لوحدة طالما اعترضوا عليها بالأمس لكفر تشريعاتها، ثم هم اليوم يحاولون تعديلها

بعد أن تكشف للجميع أن الذين يعملون على التشرذم والشقاق والتشطير ليسوا هم

الإسلاميون» الرجعيون «، بل إنهم التقدميون ... نعم الأخوة التقدميون شمالاً

وجنوباً ... والأمر يعود ببساطة إلى أن هذه القوى التي مارست الحكم قبل الوحدة لا

يمكن أن تستمر في جو الاستقرار، والتعددية الحقيقية، والرأي الحر المدعوم بقوة

شعبية ... لقد كانت فترة الوحدة منذ يومها الأول مرحلة استقطاب للقوى وتقاسم

للنفوذ والسيطرة ... المؤتمر الشعبي الحاكم في الشمال يمثل مصالح وطموحات

الرئيس اليمني، وحوله الرموز القبلية والبطانة التي رأت في الوحدة صفقة رابحة ...

أما الحزب الاشتراكي فهو لا يمكن أن يوصف إلا بأنه مليشيا حكمت ... بالحديد والنار شعباً أعزل، ثم لما رأت المليشيا أن سلطتها تتآكل وفطن قادة الحزب إلى أن نفوذهم يتقلص، لجأوا إلى إثارة أكثر المشاعر رجعية وتخلفاً وهمجية حين بدأوا يثيرون النعرات العرقية والمذهبية، في سبيل بقائهم في الواجهة ... إنها معركة لا تحتمل وجود طرف آخر، فالوحدة كانت وربما ستظل وسيلة لتصفية الحسابات، وإحكام القبضة على السلطة بعد حدوث المتغيرات الدولية الضخمة منذ عام ١٩٨٩.

أليست السلطة الحاكمة في عالمنا العربي تطرح مأزقها اليوم في اليمن بكل

ثقله وانعكاساته وظلاله السوداء ... ألا يستحق هذا المشهد الحاضر الآن أن تُسلط

عليه الأقلام المستقلة، والصحافة الحرة، بعض الضوء حينما تناقش الانهيار في

مناطق ساخنة عديدة في عالمنا العربي تُربط بظاهرة العودة إلى الجذور ... إلى

الإسلام ... ؟

فتش عن الإسلاميين في أمثلة عديدة تجد أنهم ليسوا كما يصور أصحاب

القلوب المريضة، والأقلام المنتفشة حين يزعمون أنهم سبب كل مصيبة. وداء كل

جسد عليل ... الإسلاميون في كثير من الأمثلة عوامل استمرار لهذه الأوضاع

القائمة ... ونتاج طبيعي لعقد اجتماعي/ سياسي يمارس الفشل تلو الآخر ويتاجر

حتى بأقدس المشاعر، وأكثر الأحاسيس حرارة ...

المثال اليمني جدير بالتحليل والدراسة لأنه نسخة مكررة للنظام العربي

المأزوم اليوم، والوحدة اليمنية حلم جميل في طريق توحد الأمة، لكنه يواجه

بكابوس السلطة التي لا تعترف بالأحلام ولا تراعي المشاعر بل قد تتاجر بها ...

هنا بالضبط يكمن داء الوحدة اليمنية ... وربما يكمن غدها القلق ... هنا أيضا..