للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من قضايا العقيدة

منهجية أهل السنة في دراسة العقيدة وتدريسها

خميس بن عاشور

إن من ضروريات المنهجية العلمية السليمة إدراك الموضوع قبل ... دراسة أي مسألة؛ لأن تحديد موضوع القضية من شأنه أن يمهد السبيل لتصور الطريقة الصحيحة التي تقود نحو الهدف والغاية المنشودة، والعقيدة الإسلامية باعتبارها علماً من العلوم الشرعية لا تنطبق عليه المناهج العقلية انطباقاً كلياً؛ لأننا بذلك نفقدها أهم ميزة تميزها وهي خاصية المصدرية الإلهية، ولكي نحول دون هذا الانزلاق المنهجي، فإنه يجب تطبيق المنهجية الشرعية في دراسة العقيدة الإسلامية كموضوع أولاً ثم كغاية ثانياً، وذلك لكي لا تتحول هذه العقيدة من وضع إلهي إلى وضع بشري، كما حدث فعلاً لدى الكثيرين من المهتمين بالعقيدة الإسلامية.

إن أهم خاصية كما سبق للعقيدة الإسلامية أنها إلهية المصدر ومعنى ذلك أنها

تعتمد على التوقيف موضوعاً وغاية، لذلك فإنه باكتمال الدين الإسلامي وتمامه

تكون العقيدة الإسلامية قد كملت وتمت، وينبثق عن ذلك قاعدة نجد أنفسنا مرغمين

على التسليم بها، وهذه القاعدة تقول: لا اجتهاد في العقيدة الإسلامية، باعتبار أننا

نعرف العقيدة على أنها: مجموعة من القضايا التي نؤمن بها إيماناً لا يتطرق إليه

الشك أو الريب، إن هذه القاعدة منبثقة بدورها من القاعدة العامة التي تقول: إنه لا

اجتهاد مع النص، وباعتبار أن العقيدة تعتمد على التوقيف أي على النص الشرعي، فإنه يؤول الأمر إلى الإقرار بهذه القاعدة، وقبل أن نحدد قضايا هذه العقيدة فإننا

يجب أن نسلم كذلك بأن قضايا العقيدة الإسلامية محدودة بمحدودية النصوص،

وعدم اتساع هذه القضايا عن طريق الاجتهاد؛ لأن ذلك يؤدي إلى التقدم بين يدي

النصوص الشرعية مثلما وقع فعلاً عند فئة من المتكلمين وخاصة المعتزلة الذين

تجاوزوا النصوص التي هي الإطار الثابت للعقيدة الإسلامية، وبالتالي زادت قضايا

العقيدة عندهم من وجه ونقصت أو بعبارة أدق تقلصت من وجه آخر. إن القول

بجواز الاجتهاد في العقيدة هو من جهة أخرى خرق لمضمون آية قرآنية تقول:

[يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسٍؤكم ... ] [١] وكذلك قول

النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم

على أنبيائهم «، وليست العبرة هنا بخصوص السبب، ولكن بعموم اللفظ الناهي

عن السؤال في المواضع التي سكت عنها الشارع، سواءً أكانت من مسائل الأحكام

أو مسائل العقائد.

إن البحث في الناحية القيمية لأي علم إنما تكمن في التطلع نحو الغاية والعقيدة

الإسلامية علم شرعي له غايته التي تتمثل في العلم بالله سبحانه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً؛ وذلك من أجل غاية نهائية هي العبادة الخالصة المتمثلة في تحقيق توحيد الألوهية. قال تعالى: [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] [٢] ولقد كانت الغاية من

بعث الرسل هي وضع أسس العقيدة التي ترضي الله عز وجل، ولقد كانت دعوة

أول رسول هي أن (اعبدوا الله مالكم من إله غيره» وكذلك كانت آخر دعوة لآخر

نبي ورسول: [ولقد بعثنا في كل أمة رسولاْ أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت] [٣] ولقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بعث معاذاً إلى اليمن وقال له:

«إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله» ومن

أواخر ما ثبت عنه كذلك حين ما حضرته الوفاة: (لعن الله اليهود والنصارى

اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وهذا تحذير من الشرك الذي هو نقيض التوحيد،

وبالنظر إلى ما ورد من نصوص كثيرة في هذا الموضوع أي قضية التوحيد فإننا

نقرر بوضوح أنه أول واجب على المكلف، وأنه أهم قضية من قضايا العقيدة

الإسلامية على الإطلاق ولاسيما عندما نجد التحذير شديداً عما يناقضه من الشرك

[ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين] [٤] ، وقال تعالى: [إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] [٥] .

وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من

لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة) (متفق عليه) .

ولقد اشتملت آية الكرسي على أنواع التوحيد الثلاثة، قال تعالى: [الله لا

إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض

من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء

من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو

العلي العظيم] [٦] .

ففي قوله تعالى (الله لا إله إلا هو) : توحيد الألوهية أي توحيد العبادة وفي

قوله (الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم «، وقوله (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ،

وقوله (وهو العلي العظيم) : توحيد الأسماء والصفات، وفي قوله (له ما في

السموات وما في الأرض) مع بقية الآية: توحيد الربوبية.

ومن خلال استشفاف النصوص القرآنية والحديثية نجد أن قضية التوحيد هي

القضية الرئيسة في العقيدة الإسلامية، وهي أول ما يجب على المكلف معرفته،

ولكننا عندما نبحث عن أول قضية مهمة عند أهل الكلام نجدهم يقولون إن أول

واجب على المكلف النظر والاستدلال، بل إننا نجد بعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك

حيث يقول أبو هاشم الجبائي: أول واجب على المكلف الشك في الله، وذلك لأن

المتكلمين من هذا الصنف اعتبروا قضية الربوبية هي القضية الرئيسة في العقيدة

الإسلامية، فأكثروا من الأدلة العقلية وغيرها من أجل أن يقضوا على إمكانيات

العقل في إثبات القضية العكسية كذلك، وهي الإلحاد الذي هو هنا بمعنى إنكار

الخالق، لقد اهتم أهل الكلام بقضية وجود الله اهتماماً يكاد يطغى على مباحث علم

الكلام، والناظر في كتب الكلام يحسب بادئ ذي بدء أن قضايا العقيدة الإسلامية

محصورة في مشكلة الإيمان بالخالق ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، ولكن عند الرجوع إلى

القرآن الكريم كلام الله فإننا سرعان ما نجد أهمية هذه القضية في تذكير الإنسان

بنعم الله، وكذلك جعلها دليلاً على توحيد الألوهية، وهي مركوزة في الفطرة حتى

إن القرآن ليذكر أن الأنبياء تعجبوا من أقوامهم لما ادعوا إنكار الخالق [قالت

رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم

إلى أجل مسمى ... ] [٧] .

إن الفرق بين اهتمامات علم الكلام واهتمامات القرآن فرق جوهري لأن ما

يعتبره علم الكلام قضية كبرى لم يعتبره القرآن إلا قضية طارئة اتصفت بها بعض

الشخصيات الطاغوتية، كشخصية فرعون الذي أراد بذلك ترسيخ سلطته

» الثيوقراطية «عن طريق ادعائه الربوبية، وإنكار وجود إله غيره.

لقد أثبت القرآن الكريم أن الإيمان بربوبية الله تعالى أمر فطري لا تنكره

النفوس مهما تكبرت وتجبرت ظلماً وعلواً [وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماْ

وعلواْ] [٨] ، وقال سبحانه في آية الميثاق: [وإذ أخذ ربك من بني آدم من

ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم

القيامة إنا كنا عن هذا غافلين] [٩] .

وقال: [فأقم وجهك للدين حنيفاْ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل

لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون] [١٠] . وفي الصحيحين

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كل

مولود يولد على الفطرة» وفي رواية: (على هذه الملة فأبواه يهودانه أوينصرانه

أويمجسانه كما تولد البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) .

وبعد: فإنه يتبين أن مهمة العقيدة الإسلامية وغايتها تربوية، أساسها التزكية

عن طريق كشف الحجب، وإزالة العوائق عن الفطرة الإنسانية، وهذه العملية

كفيلة بإحياء العقيدة في نفوس البشر عامة، ولقد دأب الأنبياء والرسل على العمل

من أجل تحقيق هذه الغاية، وتزكية النفوس من أجل إرجاعها إلى فطرتها النقية

التي تقر بالله رباً وخالقاً ومعبوداً، إن أوقاتاً كثيرة أضاعها أهل الكلام ولاتزال اليوم

تضيع عبر المناهج الدراسية التي تتناول موضوع العقيدة وذلك لأن خصوم العقيدة

الإلهية أحدثوا شبهاتهم واعتبروها أدلة كافية لإنكار الخالق وفي الوقت نفسه دافع

أنصار هذه العقيدة عن عقيدتهم باستحداث مجموعة هائلة من الردود وبعد انقضاء

الفترة الذهبية للإسلام تغيرت مناهج الاعتقاد فأصبح الإسلام وعقيدته عبارة عن

شبهات وردود على تلك الشبهات، وانقلب الوضع من منهج العرض إلى منهج الرد، وهذا هو أكبر انحراف واستدراج تواجهه العقيدة الإسلامية اليوم عبر مناهج

تدريسها، إذ لايزال علم الكلام والفلسفة عمدة أقسام العقيدة وأصول الدين في كثير

من جامعات العالم الإسلامي العريقة، وأمام سيطرة المنهج الكلامي على دراسة

العقيدة فإنه لم يبقَ إلا رصيد وحيد للاعتقاد الذي يرضي الله ورسوله، وهو رصيد

الفطرة التي لم تتراكم عليها الشبهات، وبعد أن كان المسلمون ينهلون من مصدر

الكتاب ومعين السنة أصبحوا اليوم لا يعرفون من العقيدة إلا ما جاء في «العقائد

النسفية» أو «جوهرة التوحيد» وهما مثالان لما تدرسه أكبر الجامعات الإسلامية

العريقة كالأزهر والزيتونة، رغم ما فيهما من مخالفات صريحة لنصوص الكتاب

والسنة، ومتناقضات تنفر منها العقول، ولذلك فليس غريباً أن نسمع أو نرى عالماً

من كبار العلماء أو شيخاً من كبار الشيوخ ينزلق في متاهات اعتقادية خطيرة لأن

المقاييس لم تكن مأخوذة من نصوص الوحي الإلهي، بل أخذت من أقوال بشرية

غير معصومة عبر تلك المتون والشروح المطولة أو المختصرة، التي يخلو

معظمها من ذكر النصوص وخاصة الأحاديث الصحيحة منها.

إن مصداقية العقيدة فيما بعد القرون الثلاثة المفضلة قد انتابها نوع من الفتور

بسبب تدخلات العقل البشري وتمحلاته، وذلك أنه بعدما كان أساس الاعتقاد يعتمد

على رصيد الفطرة، التي لا يمكن أن يمازجها شك أو ريب المستهدية بنور الوحي، أصبح الاعتقاد عبارة عن موازين عقلية جافة لا يمكنها أن تحدث ذلك التفاعل

الوجداني الذي هو شرط لأي اعتقاد سليم، وبعبارة أخرى ما يمكن أن يكون أساساً

للعقيدة الدافعة نحو السلوك والعمل بمقتضى تلك العقيدة حيث لا تناقض بين العقل

والقلب مثلما يريد أهل الكلام عن قصد أو عن غير قصد حيث اعتمدوا على المنطق

اليوناني ومغالطاته، ومن هنا نجد أنفسنا قد ألقينا حبل السفينة في محطة أخرى هي

قضية الإيمان التي تدافع فيها العقل مع النقل بالرغم من أن هذا التدافع والتناقض

ليس ممكناً أصلاً لولا اعتداءات العقل البشري على حدود الوحي الإلهي الذي يدعم

ذلك الأصل القوي وهو الفطرة.

وهناك حقائق شرعية جعلت الحقائق اللغوية محمولة عليها طبقاً للقاعدة التي

تقول يحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، والحقيقة الشرعية خاصة أو

مقيدة ومسألة الإيمان لها جانب من هذه المعادلة، فلفظ الإيمان من الألفاظ التي قيدها

الاصطلاح الشرعي فحملت عليه، فمثلاً الحج في اللغة معناه القصد، والصلاة في

اللغة تعني الدعاء، وكذلك الإيمان معناه في اللغة التصديق، وأما بعد ورود الشرع

فقد أصبح المعنى في كل هذه الأمثلة خاصاً فالحج عبارة عن أقوال وأعمال

مخصوصة في أماكن وأزمنة مخصوصة والصلاة كذلك صارت مجموعة من

الأقوال والأعمال تبدأ بتكبيرة الإحرام وتنتهي بالتسليم، وأما الإيمان فإن مسألة

الاختلاف في تعريفه إنما ترجع إلى إمكانية تسليم المعنى اللغوي إلى المعنى

الاصطلاحي الشرعي؛ لأن الذين خالفوا تعريف أهل السنة والجماعة أي السلف

إنما تمسكوا بالمعنى اللغوي وهم بذلك أهدروا الحقائق الشرعية النصية التي أدخلت

عليه خصوصيات أصبحت ملزمة لا يمكن أن نتجاهلها، وذلك بالنظر إلى مقاييس

الكتاب والسنة الصحيحة.

إن الاختلاف في تعريف الإيمان أنتج مواقف فرعية وخاصة فيما يتعلق

بعنصر العمل الذي يراه أهل السنة جزءاً يدخل في مسمى الإيمان الاصطلاحي

وكذلك يرى المعتزلة، غير أن الفرق بين الموقفين أن المعتزلة اعتبروا العمل

جزءاً لا يتجزأ منه وفقدانه يعني بالضرورة فقدان الإيمان كله، بينما يرى أهل

السنة أن العمل جزء من الإيمان، لكن الإيمان يتبقى، فقد يزول العمل ويتبقى

أصل الإيمان؛ لأن الإيمان شعب متعددة لا شعبة واحدة، وفي مقابل ذلك يرى

المرجئة بمختلف تياراتهم من أشعرية وماتوريدية أن الإيمان هو التصديق وبالتالي

تمسكوا بالمعنى اللغوي، وقالوا إنما الأعمال هي نتيجة لذلك، وليست جزءاً من

مسمى الإيمان، ولذلك قالوا إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ومع أن هذا مصادمة

لنصوص الكتاب والسنة مصادمة مباشرة فإن سبب ذلك لاشك يرجع إلى ما فرضه

العقل الأرسطي على هذه القضية الاعتقادية، وما قد يؤدي عندهم من انعدام الإيمان

مادام عرضة للزيادة أو للنقصان.

إن تجاهل الحقائق الشرعية هو المزلق الذي انزلق فيه أهل الكلام في

دراساتهم لمسائل العقيدة، ولذلك نجد تعاريفهم لمختلف القضايا تختلف دائماً عن

تعاريف أهل السنة والجماعة الذين يستخرجون تعاريفهم بعد عملية استقراءٍ

لنصوص الوحي، وذلك لكي يتجنبوا ما قد يكون متعارضاً مع هذه النصوص

ودلالاتها، وكما سبق في تعريف التوحيد عند أهل السنة حيث نجد أنه إفراد الله

بالعبادة وإثبات صفاته التي تغاير مخلوقاته، وفي خلقه وتقديره لأفعال العباد، وذلك

وفق ما دلت عليه النصوص، بينما يرى أهل الكلام أن التوحيد هو نفي الشبيه عن

الله ولا يركزون بتاتاً على توحيد الألوهية الذي هو معنى شهادة لا إله إلا الله؛

وحتى لا تهمل كثير من نصوص الوحي، وحتى لا يضرب بعضها ببعض فإن أهل

السنة يجعلون العمل هو المتغير الذي يميز الدالة الإيمانية، فالإيمان يزيد بالعمل

الصالح من الطاعات والعبادات المختلفة وينقص بالمعاصي وترك العمل الصالح،

وهذا على وفق ما اقتضاه الشارع الحكيم واضع العقيدة الإسلامية من تفاوت

المؤمنين في إيمانهم تبعاً لتغير الدالة الإيمانية، وبالتالي كان الجزاء متناسباً مع

درجة الإيمان، فكانت الجنة دار النعيم درجات أعلاها الفردوس وهي مقام الأنبياء

والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

إننا نعتبر مقياس زيادة الإيمان من ناحية مقياساً موضوعياً وذلك حينما نجعل

العمل هو المقدار والكم الذي يزداد بزيادته، ولكن في الواقع مقياس زيادة الإيمان

ونقصانه يعتمد على النسبية النفسية؛ لأن تفاعل كمية العمل الصالح والطاعات مع

الوجدان والقلب يجعل المؤمن يشعر بذلك شعوراً لا يساوره شك فيسارع إلى العمل

الصالح بمختلف أنواعه؛ لكي يرفع درجات إيمانه، وهو الميدان الشريف للتنافس

بين المؤمنين تطبيقاً لقوله تعالى: [وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها

السماوات والأرض أعدت للمتقين] [١١] ، فهذه المسألة إذن نسبية؛ مادام لها

علاقة وطيدة بالقلب وبالوجدان.

إن إيمان أهل الكلام يتصف بالجفاف، وعدم تفاعل العقل مع القلب ولكن

بالنظر إلى عدم الانفصال الموضوعي بينهما فإن إغفال هذه الخاصية لا شك أنه

يبعدنا عن إدراك الحكم الموضوعي الشرعي الذي أراده صاحب العقيدة وواضعها

بما بثه من نصوص الوحي التي خاطب بها الناس كافة.

ومن المفيد أيضاً في هذا الصدد أن نعرج لكي نتطرق إلى كلمة في المنهج

فهناك أسئلة قد تفرضها هذه المنهجية منها السؤال الذي مفاده: لماذا ندرس العقيدة

ونسعى إلى معرفتها؟ والسؤال الآخر وهو: كيف ندرس هذه العقيدة؟ والجواب

الذي يناسب المنهجية الشرعية المؤسسة على منهج السلف أهل السنة والجماعة هو

ما كان مدعماً بالنص الإلهي، إننا ندرس العقيدة ونعمل على اكتساب معرفتها امتثالاً

لقوله تعالى [فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك] [١٢] وهذا الامتثال هو العلة

التي من أجلها خلق الله الخلق جميعاً [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] [١٣] ، إننا إذاً نعمل على اكتساب ومعرفة العقيدة لأن ذلك أمر، وامتثال الأمر عبادة،

والعبادة الخالصة هي معنى لا إله إلا الله التي أمرنا الله أن نعلمها، من خلال ذلك

فلا شك أن منهج معرفة هذه العقيدة الإلهية قد استبان واضحاً لكل ذي لب وفكر سليم

وفطرة إيمانية نقية إن المنهج الواجب اتباعه في معرفة العقيدة التي ترضي الله

ورسوله هو الذي يستند إلى قول الله ورسوله كذلك، فلا اعتقاد خارج هذين

المجالين، وهذا ما اصطلح عليه بمنهج العرض، حيث تعرض العقيدة عرضاً أميناً

ومن شأن ذلك أن يحافظ على إلَهية المصدر الاعتقادي الذي يتمثل في الوحي (كتاباً

وسنة) .

ثم إن الباحث المتخصص في الدراسات العقدية لاشك أنه يكون قد اكتسب عن

طريق منهج العرض ما هو واجب عليه أمام ربه، ومن الموضوعية التي يتطلبها

المنهج العلمي أن يواصل هذا الدارس المتخصص فينظر في عقائد الأمم من أهل

الكتاب وغيرهم، ومن أهل الإسلام على اختلاف مصادرهم ومناهجهم الاعتقادية،

ولا يكون ذلك ميسوراً إلا باتباع منهج يعتبر وسيلة وأسلوباً هو منهج النقد والرد

والمقارنة، على أن يكون مقياس الحق هو النص الإلهي في الكتاب والسنة؛ من

أجل ألا يوثر المنهج على المضمون الأصلي للعقيدة الإلهية. والله الموفق.


(١) سورة المائدة: ١٠١.
(٢) سورة الذاريات: ٥٦.
(٣) سورة النحل: ٣٦.
(٤) سورة الزمر: ٦٥.
(٥) سورة النساء: ٤٨.
(٦) سورة البقرة: ٢٥٥.
(٧) سورة إبراهيم: ١٠.
(٨) سورة النمل: ١٤.
(٩) سورة الأعراف: ١٧٢.
(١٠) سورة الروم: ٣٠.
(١١) سورة آل عمران.
(١٢) سورة محمد: ١٩.
(١٣) سورة الذاريات: ٥٦.