للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

ليس دفاعاً عن السودان

قراءة هادئة في قضية طرد السفير البريطاني من السودان

د. عبد الله عمر سلطان

أوكلت القناة الرابعة في التلفاز البريطاني إلى الصحافي الشهير «روبرت

فيسك» إعداد حلقات مسلسلة عن العلاقة بين الإسلام والغرب عنوانها «من

بيروت.. إلى البوسنة إلى آخر العالم» خَلُص فيها إلى أن نظرة الغرب إلى

الإسلام قائمة على ثلاثة عوامل مشتركة: سوء النية.. وسوء الفهم.. والاتهامات

الجاهزة (المعلبة) ! !

في ثنايا الشريط التلفازي الذي يتألف من أربع حلقات، تمتد لأربع ساعات

يقف «فيسك» أمام أنقاض أحد المساجد في البوسنة وهو يقول: «الحكومات

الغربية تريدنا أن نفكر في السلام في الشرق الأوسط، وقد كانت تفضل ألا نشاهد

الدمار، وأن لا نكتب عنه.. إنها تفضل لو أننا خرس» . ويتجول فيسك في

جولته في قرية بوسنية تقع في الشمال بعد أن زارها قبل عام حيث كان المسجد

الجريح المحطم قائماً يذكر فيه اسم الله، ويرفع فيه ذكره، أما الآن فمراسل جريدة

«الإندبندنت» يستعرض لنا الخراب الذي حل ببيت الله ويعلق قائلاً: «إلى متى

سيتحمل المسلمون هذا النوع من العنف؟ ! إلى متى نردد أننا لا نفهمهم حينما

يحاولون إجهاض هذا العنف الموجه ضدهم؟ ! بل إننا (يعني قومه من الغربيين)

نحب أن نطلق عليهم وصف الإرهابيين المتطرفين.

إنني حينما أرى كل مرة هذا الدمار أتساءل بيني وبين نفسي عما يخبئ لنا

العالم الإسلامي.. ربما كان على تقاريري الصحفية أن تنتهي دائماً بالعبارة التالية:

احذروا جيداً..! ! ، لقد لمس المراسل البريطاني في برنامجه التلفازي حصاد

المرارة وشوك المعاناة التي تحاصر العالم الإسلامي شرقاً وغرباً؛ بسبب» العنف «الغربي الذي يؤله» المادة «ويعبد» القوة «، ويستخدم مصطلحات التسلط

وترسانة الأسلحة للتعامل مع عالم إسلامي ممزق ومحاصر وملاحق.. وكانت

الصور المعروضة تزيد من خوف الغربي من هذا المخلوق المُرعب والمُرعَب في

اللحظة نفسها دون تقديم تفسير عميق لحالة الغضب التي تجتاح آحاد المسلمين اليوم

كلما ذُكر الغرب أو حضرت إلى خشبة مسرح الحياة آلياته القمعية بصورها المتعددة.. إن ذلك لا يلمس إلا في لقطات خاطفة حينما يعرض فيسك بالصورة ضحايا

العربدة الإسرائيلية في لبنان منذ ١٩٨٢م، ويقدم بصورة مباشرة لا لبس فيها

شخوص الحدث: مدني مسالم تلاحقه قنابل النابالم التي زرعتها قوات الغزاة في

أجساد الأطفال والنساء والشيوخ، وما غفل عنه فيسك أو مر عليه مروراً عابراً هو

تعريفه للعنف: هل هو الصورة الساذجة لإخضاع القوي للضعيف بمنطق السوط

وقانون» الدهس «؟ !

صحيح أنه يلامس مشاعر المسحوقين لكنه لا يركز على صور العنف

الدبلوماسية والمكر السياسى وقفازات الخنق الحريرية التي تستخدمها الحكومات

الغربية التي تريد من وسائل إعلامها أن تصمت! !

تصور لو أن حكومة إسلامية قوية» ومستقلة «قررت أن يقوم رأس الهيئة

الدينية فيها بزيارات إلى الهند تلبية لدعوة رسمية من قبل حكومة نيودلهي وذلك

للتخفيف من حدة النزاع الدائر بين السلطات الهندية والمسلمين في كشمير وبعد

إعداد التفاصيل من قبل سفير هذه الدولة ثبت للحكومة الهندية أن السفير المسلم لهذه

الدولة الافتراضية كان يجري اتصالات سرية بالحركة الإسلامية المسلحة في كشمير

التي تنقسم إلى عدة فصائل من أجل توحيدها لضرب الحكومة المركزية في نيودلهي، وقد استطاع إقناع تلك الشخصية الإسلامية المرموقة أن يغير خط سيره إلى

» جيب جغرافي «يسيطر عليه المجاهدون في كشمير حتى يظهر عدالة القضية الكشميرية التي أصدرت الأمم المتحدة حيالها قرارات واضحة توصي بحق سكان المنطقة في تقرير مصيرهم! !

السؤال: كيف سيكون تصرف حكومة نيودلهي تجاه مثل هذا العمل

الاستفزازي بل كيف سيكون موقف الإعلام العربى» المحايد «و» المستقل «!

تجاه تصرفات هذه الشخصية الإسلامية التي شوهت صورة التسامح وشرخت

بتآمرها» عدالة الإسلام واعتداله «! !

لكم أن تتصوروا ذلك.. كما لكم أن تتخيلوا أن هذه الشخصية هي شخصية

الشيخ ... ! ! ألن يحاضر المعتدلون والشرق أوسطيون وزعماء الجنوح إلى السلام

عن بشاعة التطرف وسوء خلق» المتاجرين بالدين «وتيار الاستفزاز الأصولي؟ !

ثم ماذا سيكون موقف الحكومات الغربية ووسائل إعلامها التي دائماً ما تحض

على ضبط النفس إذا كان الضحية بلداً مسلماً بينما تفرغ» عنفها «وتسلطها»

و «إرهابها السياسي» والإعلامي إذا كان المُستفَز دولة من دول العالم.. بل حتى

دولة أقدس رموزها حيوان يدب على أربع ... ؟

لقد قام الأسقف البريطاني «جورج كيري» بالدور الافتراضي نفسه الذي

رسمنا خطوطه العريضة حينما قرر زيارة السودان.. وبالطبع من حق أسقف

كانتربري أن يزور السودان لألف سبب أهمها رعاية أبناء معتقده، وعلى حكومة

السودان أن تكون «متحضرة» و «معتدلة» وأن تهيء له كامل وسائل الراحة

والاستجمام لأكبر رمز انجليكاني في العالم، ومن حق السفير البريطاني أن يتدخل

حتى في نوعية الحليب الذي يقدم لقداسته! ! لكن هل من حق السفير أن يسلك

سلوكاً تعتبره الدولة المضيفة تآمراً وبأسلوب مكشوف ليعلن الأسقف قبل يوم واحد

من الزيارة أنه سيزور معاقل المتمردين «الصليبين» في الجنوب وأنه لن يزور

الخرطوم التي يستعمر حكامها المسلمون رعايا الكنيسته.. في الجنوب؟ !

هل من حق «سفير» أو «خفير» يمثل دولة حضارية أن يقدم أوراق

اعتماده لرأس الدولة ثم يسحب قولاً وفعلاً الشرعية التي تعترف بها دول العالم

لحكومة السودان ليقدمها إلى فصائل التمرد الصليبي المتناحرة دون حياء أو خجل؟ !

إن هذا التصرف لا تقبله أي دولة تدعي الاستقلال فضلاً عن أن تكون مستقلة

فعلاً حتى ولو كانت إحدى دويلات جزر الكاريبي التي يطلق عليها المستعمرون

البريطانيون سخرية اسم «جزر الموز» .

وللأسف إن بريطانيا تتولى دون مواربة تجميع القوى المناوئة للحكومة

السودانية الحالية في داخل السودان وخارجه حتى أصبحت لندن بؤرة تجمع ودعم

لكل من يحاول تفتيت السودان تحت شعار إسقاط النظام الأصولي.. والسفير

البريطاني له قدم سبق في ذلك لا سيما وأن عواطف صليبية حميمة كانت تحركه

وهو المولود في جواتيمالا «أمريكا اللاتينية» والذي تربى ليكون منصراً لا

دبلوماسياً خصوصاً وأنه فيما يظهر متشبع بفكرة تحطيم كيان السودان القائم لصالح

المشروع الصليبي المنطلق من الجنوب والذي يُسوق عالمياً على أنه نظام عالمي

جديد..

أي نظام هذا؟ ! وهو يغذي الانقسام والفوضى والحرب الأهلية في القطر

الواحد.. أي عالمي؟ ! إلا إذا كان منطلقاً من المفاهييم العنصرية الاستعمارية

للقوى الغربية التي ترى أن العالم نفسها! !

وأي جديد؟ ! وهو يعيد التذكير بدور المندوب السامي البريطاني الذي كان

يحكم النمور الكارتونية المتمثلة في رؤوس الأنظمة المستعمرة. وهل تغيير مسمي

المندوب السامي إلى السفير البريطاني يحمل معطيات جديدة للعملية الاستعمارية

ومعادلة الهيمنة والغطرسة التي كانت ولا زالت سائدة في خيال صانعي القرار في

دول الغرب؟ !

ثم لا يتورعون عن إطلاق تلك التصرفات باسم النظام العالمي الجديد. ألم

يقل روبرت فيسك في نهاية شريطه عبارة تلخص هذا الإفك بقوله: إذا كنت لازلت

مؤمناً بالنظام العالمي الجديد فعليك ألا تشاهد هذا البرنامج.

ونحن نقول إذا كنت مؤمناً بالنظام العالمي الجديد فخذ أخبار السودان المطارد

عن طريق هيئة الإذاعة البريطانية التي سخرت مقدراتها الإعلامية الهائلة لمحاصرة

السودان وتلميع حراب الحملة الصليبية ورموزها الحاقدة، هذه الهيئة استطاعت أن

تسخر هذا الحادث بصورة نمطية مُعدية، انتقلت بموجبها العدوى إلى الصحف

العربية المهاجرة التي رحلت بجوارها وكأن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها في

التاريخ المعاصر، مع أن السفير البريطاني في كلومبيا قد سبق طرده في مايو

١٩٩١م دون أن يتحول ذلك التصرف إلى «ملحمة إعلامية» مشابهة لقصة

سفيرهم في السودان! ! هل عرفتم من يعنون بالنظام العالمي الجديد؟ !

لقد كان جديراً بروبرت فيسك أن يزور جنوب السودان وشماله ليسجل لقطات

موغلة في البشاعة والتآمر على كل ما يمت للإسلام والعرب بصلة من قبل القوى

الغربية، ليفهم لماذا كان المسلمون يقيمون علاقتهم بالآخر الغربي بهذه الصورة وهم

لا يرون ولا يلمسون ولا يعرفون الغرب إلا بصورة جسم يهودي مغروس في

أحشائهم حيناًً..، أو قصف وحشي يأخذ مداه المتغطرس المجنون ويقذف بالجحيم

على العزل من سكان البوسنة، أو حصار اقتصادي ودعم لحركات بربرية في

جنوب السودان تلقى كل الدعم من القوى الغربية لا لشيء إلا لأنها تريد أن تشوه

وجه السودان أكبر بوابة عربية مسلمة في قلب القارة، الخضراء.. هذا الوجه

المسلم العربي يراد أن يستبدل ببيادق مجلس الكنائس العالمي ولتشن حملتها

الصليبية دون مقاومة أو وجود فاعل! !

العقدة الصليبية هل يمكن حلها:

رفضت الخرطوم خطاب التهديد ولغة الوعيد بسحب قرارها القاضي بطرد

السفير (بيتر ستريمز) ، وذكرت إذاعة الخرطوم أن انتظار لندن رداً سودانياً

بالتراجع عن هذا القرار «مضيعة للوقت» ، وأن السودان صبر طويلاً على

ممارسات السفير والتصرفات غير المقبولة منه.. في الوقت نفسه كان الأسقف

الانجليكاني جورج كيري يكشف عن العقدة الصليبية التي تحكم العلاقة الغربية

بالعالم الإسلامي حينما اجتمع بقادة الفصائل الصليبية الجنوبية وحضهم على تناسي

خلافاتهم وتوحيد جهودهم (ضد من!) ووصف الانشقاق بين الفصيلين الرئيسيين

للحركة الصليبية في الجنوب بأنه مأساوي! ! ووصف هذا الرمز الصليبي زعيمي

عصابات النهب والقتل في الجنوب بأنهما من المدافعين عن الجنوب أي: أن هناك

جهات أخرى لم يحددها تشارك في عملية الدفاع الحضارية التاريخية هذه، لقد

تساءل وزير خارجية السودان في اليوم التالي لإطلاق الزعيم الديني تصريحاته

الذي يُفترض أن يدع السياسة لأصحابها لأن معتقده يدعوه إلى ترك ما لقيصر

لقيصر وما لله لله قائلاً: هل كانت الحكومة البريطانية لتسمح لزعيم إسلامي بزيارة

بلفاست (عاصمة إقليم إيرلندا الشمالية «) للتحدث مع زعماء الجيش الجمهوري

الإيرلندي؟

بالطبع الإجابة معروفة خصوصاً مع معطيات المناخ العالمي المتحفز لتشويه

صورة الإسلام والمسلمين في أصقاع الأرض.

إن زيارة الأسقف الانجليزي يجب أن توضع في إطار أعم وأفق أرحب

فبريطانيا التي أقامت الدنيا قبل قرن من الزمان بعد أن قتل ثوار المهدية جنرالهم

العتيد جوردن كانت تنظر إلى السودان نظرة عقائدية دينية بالدرجة الأولى حيث أن

المصالح الاقتصادية لم تكن هي الأهم، لذا فإن كنيسة انجلترا هي التي رسمت

خطوط حملة كتشنر الثأرية لتحويل السودان إلى دولة مسيحية بالكامل.. يقول

الصَّديق محمد الأمين في تعليقه على العلاقة والحدث:» لقد أشرفت تلك الكنيسة

على «حملة كتشنر ووضعت أسس التعليم عموماً والتعليم العالي خصوصاً في

السودان عبر تأسيس كلية جوردن. ولا يزال بعض وثائق الكنيسة الانكليزية

الصادرة حديثاً جداً يتحدث عن أن السودان دولة مسيحية استولى عليها المسلمون

» راجع كتيب اضطهاد المسيحيين في السودان الصادر باللغة الانكليزية عن جمعية الاخاء المسيحي مع السودان في تشرين الثاني/ نوفمبر ٩٣) .

طبعاً لم ينجح مشروع تنصير السودان، وظل إحساس كنيسة انكلترا بأنها

راعية المسيحيين في السودان على رغم أن معظم هؤلاء لا يدينون بالانجليكانية.

لكن ذلك لا يفسر سر الارتباط الخاص بالسودان لدى الدوائر المعنية به في

بريطانيا.

ومع ذلك ظل السودان مصدراً للمفاجأت غير السارة لاصحاب تلك النظرية،

ولعل أولى المفاجأت تمثلت في رفض البرلمان السوداني. غداة الاستقلال الانضمام

إلى رابطة الشعوب البريطانية (الكومنولث) وأخرها حادثة طرد السفير بيتر

ستريمز، وبين الحدثين عناوين كثيرة أبرزها الغاء القوانين الانكليزية التي كانت

تحكم السودان حتى عام ٨٣ وابدالها بقوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية،

وتعريب الدراسة في الجامعات العام ٩١ وغيرها وغيرها ...

إن بريطانيا في هذا السياق لا تتحمل استقلالاً سودانياً إذا كان خارج الإطار

المرسوم، لاسيما إذا ذكرها بالمقاومة الإسلامية وشعارات مقاومة المهدية، أما

اللاهثون وراء تجربتها التغريبية فلها معهم شأن آخر. ربما عبر الكاتب (جراهام

توماس) عن إحساس أصحاب النظرية المشار إليها في كتابه: (السودان: موت

حلم) .

على أن سودان الحلم البريطاني ليس هو السودان الذي ينتهج «ديموقراطية

وست منستر» كما يتوقع ويفهم من تصريحات المسؤولين البريطانيين. والدليل

على هذا أن بريطانيا لم تُبدِ أي اهتمام خاص بالتجربة التعددية الأخيرة في السودان

(فترة الصادق المهدي) ولم تقدم لها أي دعم حتى ولو على المستوى السياسي، مع

أن تلك التجربة التزمت قواعد الديموقراطيةالغربية في حدود خبرتها الاجتماعية.

وعلى العكس من ذلك كانت كل الإشارات الصادرة من لندن وقتها تجاه الخرطوم

سالبة منها:

الغاء رئيسة الحكومة آنذاك مارجريت تاتشر زيارة معلنة إلى السودان من

دون ذكر أسباب مفهومة للسودانيين وقتها، في حين أن السودان كان الدولة الوحيدة

في أفريقيا التي تتبع الديموقراطية الغربية.. والمفارقة أن تاتشر كانت في جولة

افريقية زارت فيها بعض دول الجوار السوداني. وكان للأمر دلالته التي أغضبت

المسؤولين السودانيين إلى درجة التفكير في سحب السفير السوداني في لندن تعبيراً

عن الاحتجاج.

لم تكن توجهات السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء السوداني آنذاك محل

ترحيب أو ارتياح في العواصم الغربية وخصوصاً لندن، لا سيما حديثه عن «نهج

الصحوة الإسلامية» أو علاقاته القوية بطهران وطرابلس الغرب في الوقت الذي

كانت المواجهة بينهما ولندن على أشدها. فيما كانت حركة التمرد المسلحة في

الجنوب تحظى بتعاطف واضح على مستويات التسلح والإعلام والسياسة على رغم

أن توجهاتهما المعلنة كانت ماركسية! !

رد الفعل البريطاني على حادثة فندق الاكربول في عام ١٩٨٨ في الخرطوم

التي قتل فيها رعايا بريطانيون على ايدي فلسطينيين. فقد تبنت بريطانيا داخل

المجموعة الأوربية الدعوة لتشديد الاجراءات في حق القادمين من السودان وحملة

جوازاته، بذريعة انه صار موئلاً لكثير من الارهابيين في المنطقة.

اذن كل الخلافات البريطانية مع الحكومة الحالية في السودان تعود جذورها

إلى العهد التعددي الحزبي السابق، وحدث لها مزيد من التفريع والامتداد.

ومما فاقم تلك الخلافات أن المحكمة السودانية التي نظرت قضية المتهمين في

حادثة فندق الاكربول، وجدت نفسها أمام واقعة فريدة، إذ رفض أولياء الضحايا

(الذين تمت استشارتهم بحسب قواعد الشريعة الإسلامية) القصاص من المتهمين أو

العفو عنهم أو قبول الدية، وتلك هي الخيارات الوحيدة المتاحة لعقوبة القتل في

الشريعة، وطالبوا بأن يحاكم المتهمون وفقاً للقانون الانكليزي وهو ما لم يكن ممكناً

أو مقبولاً. وعندها اتخذت الحكومة البريطانية قراراً بوقف دعم الحكومة السودانية

حتى في المجالات الثقافية.

إذن لم يكن ينقص سوى زيارة كبير الأساقفة المثيرة إلى اجزاء من السودان

يسيطر عليها المتمردون من دون موافقة الحكومة السودانية، ودعوته لاجراءات

دولية ضد السودان لتكون الشرارة التي تشعل غضب حكومة الخرطوم اضافة إلى

أنها تقول انها رصدت تجاوزات عدة وانشطة غير مقبولة للسفير البريطاني الذي تم

طرده.

والخلاصة من هذا الرأي الذي يبين بوضوح العقدة الصليبية في التعامل مع

الشأن السوداني واحتقار استقلاله وحضارته وقضائه إذا كان مستمداً من جذوره

الإسلامية وعروقه العربية.

لقد تتالت الأحداث في الأسبوعين التاليين إقليمياً ودولياً لترسّخ من تأكيد

النظره الصليبية في تعاملها مع أحداث القرن الأفريقي، فأسياس أفورقي رئيس

الكيان الأرتيري الجديد وصاحب العلاقة الوطيدة باليهود، والذي أحسن إليه

السودان كثيراً حتى قبل وصوله للحكم أسفر عن وجهه الصليبي البشع حينما هاجم

بعد أيام من زيارة الأسقف البريطاني جاره السوداني، واتهمه بأنه معبر للأصوليين

الذين هاجموا قوات مليشياته الحكومية، وأجمع المراقبون على أن المذكور يريد أن

يحسن من صورته في الغرب كحارس صليبي آخر يقف أمام المد الأصولي! حتى

ولو كان جاره الذي أحسن إليه بالأمس، وهو الذي يواجه حرباً أهلية داخل

أرتيريا نتيجة لسياساته المتغطرسة وديكتاتوريته المتعجرفة وحربه الشعواء على

الوجود الإسلامي شعباً وحضارة في أريتريا..

وكأن العقدة الصليبية تصر على أن تقدم دليلاً آخراً عن أن الحكومة السودانية

في محاولتها استقطاب النصارى «والتميع» في تعاملهم معها، كما حصل في

زيارة (البابا) ، إنما تزيد من خلال هذه الممارسات حقد هؤلاء لهباً في الصدور

وحقداً مترجماً إلى مواقف كما حصل في استقالة نائب رئيس البرلمان السوداني

(الدو أجو دينغ) الذي طلب اللجوء السياسي لبريطانيا (هل تتصورون ملاذاً كثيراً

أمناً من الأم الصليبية الحنون) واستقال من منصبه لأنه عجز عن التأثير في سياسة

الحكومة تجاه الجنوب! !

وكأن وظيفة هؤلاء حتى في المواقع الرسمية النظر للسودان من خلال قضية

سكانه النصارى فقط. إن تلك الحوادث تؤكد أهمية التعامل مع أعدائنا من خلال

القواعد الشرعية والتأصيل العقدي الذي يستند إلى آيات الذكر الحكيم الذي أبان عن

حقد هؤلاء وكرههم لهذا الدين مهما قدم المتنازلون من تنازلات ومهما أقيمت

لرموزهم من مهرجانات أو زيارات! ! فرصيد الحقد لا يطفئه منصب أو تنازل،

لأنك متهم حتى آخر قطرة من دمك بأنك الآخر / المرعب.. وقد أحسن روبرت

فيسك تلخيص هذه النظرية لك أيها المسلم (المفْرط أو المُفرّط) بأنها محكومة بثلاث

عناصر: سوء نية.. وسوء فهم.. واتهامات جاهزة! ! ويبقى صوت الحق من

قبل ومن بعد.. [ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراْ حسداْ

من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق..] .

لقد أشار إلى هذه العقدة الأستاذ سيد قطب رحمه الله حينما قال في تفسيره لهذه

الآية: «إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان، انها هي

العقيدة، هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل

وقت ضد الجماعة المسلمة» .

نعم في كل وقت وبكل جهد وبشتى الأساليب.. هذا ديدنهم أما ديدننا فهو أن

نصبر ونصابر ونرابط ونكشف حجم العقدة الصليبية التي أقامت الدنيا وأقعدتها،

وحاصرت شعباً وجوعته لطرد سفير خرق الأعراف الدبلوماسية.. أما هتك

الأعراض من صبرا وشاتيلا إلى البوسنة إلى أحراش جنوب السودان بل إلى

روابي الأرض المباركة حول الأقصى بوابل الرصاص اليهودي النصراني فإنها

مسألة فيها نظر ... حقاً طرد سفير: جريمة لا تغتفر، وسحق أمة وانتهاك كرامتها

مسألة فيها نظر! .