للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقه الإسلام ودعوة للمراجعة البناءة

(١)

حاجة الدعاة المسلمين

إلى المراجعة

الدكتور: محمد رشاد خليل

لا تشتد حاجة الدعاة المسلمين اليوم إلى شيء كما تشتد حاجتهم إلى المراجعة

البناءة لحصاد جهودهم في مجال الدعوة الإسلامية. ذلك أن هذه المراجعة ضرورية

اليوم لتصحيح أخطاء التجربة، ولتلافي أوجه القصور في العمل، وتلافي أسباب

ما حدث عند البعض من فشلٍ، والعمل على توحيد الصفوف على خطة عمل تأخذ

في حسابها كافة العوامل المؤثرة على سير الدعوة سلباً وإيجاباً، وتفرق بين الممكن

والواجب، وتنسق بين الإمكانات والأهداف، وتعمل على رفع أسباب الاختلاف

والفرقة التي يكون سببها: نقص العلم، وقلة الخبرة، وسوء التقدير، وسوء الفهم، وسوء الظن، وفرط الثقة، وعدم التخطيط، أو سوء التخطيط، وسوء التنفيذ.

المخاطر التي تهدد الصحوة الإسلامية:

وإنه مما يضاعف هذه الحاجة أن ما ذكرته أصبح يمثل تهديداً جدياً للصحوة

الإسلامية المستهدفة أصلاً من أعداء أقوياء في الداخل والخارج قد أجمعوا أمرهم

على إجهاضها وتصفيتها وضربها بكل الوسائل، ولقد نبهت منذ سنوات في مقالات

عدة إلى هذا الخطر، وحذرت من مغبة تجاهله، وحذرت من أن أجهزة الرصد

والمراقبة في الشرق والغرب وتوابعها في العالم الإسلامي تعكف على دراسة المد

الإسلامي، وأن هناك سيلاً من الدراسات والتحليلات التي تتناول ظاهرة البعث

الإسلامي تتدفق من مختلف الاتجاهات، وأن هذه الدراسات والتحليلات تتسم

بالإثارة والتحريض والتخويف والتشويه، وأن مسئولين على أعلى مستوى في

الإدارة الأمريكية لا يكُّفون عن التحذير من هذا المد حيناً، وتوعده حيناً، والدعوة

إلى احتوائه حيناً. وفي مقابلة أجرتها مجلة (يو. إس. نيوز) مع مستشار الأمن

الأمريكي وقتها (ربنجيوا بريزنسكي) قال (بريزنسكى) كلاماً خطيراً جداً هذا نص

ترجمته.

«أولاً ينبغي أن نعلم أن العالم الإسلامي بعد مئات من السنين التي قضاها في التبعية الأجنبية المباشرة بدأ يدخل في طور اليقظة الدينية والسياسية، وهذه اليقظة والانتفاضة يمكن أن تتخذ مظاهر إيجابية أو سلبية، ومن الواضح أن المصلحة الأمريكية تقضي أن تكون هذه المظاهر إيجابية» .

والذي يقصده (بريزنسكي) من الإيجابية هو احتواء هذه اليقظة، وتوجيهها

لخدمة المصالح الأمريكية، أما كيف يمكن احتواء هذه اليقظة وتوجيهها لخدمة

المصالح الأمريكية فذلك أسلوب غربي درجت عليه الدوائر الاستعمارية، وبرعت

فيه، ولا يجب التقليل من قيمة هذا التوجيه، أو الاستخفاف بمراميه لأن الدوائر

الاستعمارية تملك من إمكانات التوجيه والتحكم الشيء الكثير؛ فقد يكون من أساليب

ذلك التوجيه دفع الحركة الإسلامية -دون وعي منها- إلى اتجاهات تشتت جهدها،

وتستفرغ طاقتها، وقد يكون منها شغلها بمعارك جانبية، أو أهداف وهمية.

ولقد رأينا كيف تحول العداء الموجه إلى السياسة الأمريكية وعملائها -بعد

غزو روسيا لأفغانستان- إلى روسيا، مما دفع بعض المحللين إلى القول بأن الغزو

الروسي لأفغانستان تم بتنسيق مقبوض الثمن بين أمريكا والروس.. ونحن لا نريد

أن نتوه في متاهة التحليلات التي كثيراً ما تكون هي نفسها موجهة، ولكن الذي

نريد أن ننبه إليه هو أن جعبة الاستعمار تحوي الكثير من المفاجآت والأساليب

والخطط.

وسواء كان غزو أفغانستان بتنسيق مشترك بين الأمريكان والروس أو لم يكن

فمن المهم أن نعرف أن التخطيط لا يمكن مواجهته بالارتجال والاستنتاجات العفوية، وإنما يواجه بتخطيط علمي منظم يدرس كافة الاحتمالات، ويستوعب الصورة من

جوانبها المختلفة، ويقدر لكل حالة ما يلائمها. ونحن لا نشك لحظة في المصلحة

المشتركة بين الشرق والغرب في ضرب الصحوة الإسلامية، وانهما معاً ومن

خلفهما الدول الدائرة في فلكهما -سواء تم تنسيق أم لم يتم- يستخدمون كل ما

يملكون لمنع قيام قوة إسلامية لها وجود عالمي مؤثر في توازن القوى الاستعمارية

بأي حال من الأحوال، ولا يجب أن يغيب عن وعينا لحظة واحدة أن هذه القوى

تملك من وسائل التوجيه والتأثير في العالم الإسلامي الشيء الكثير، وإنها عند

الضرورة لن تتورع عن التدخل السافر المكشوف، ومن هنا يتحتم على الحركة

الإسلامية أن يكون لها عقلها الواعي المدبر، القادر على التخطيط الواعي المنظم.

إن فرصتنا باتساع مدى الصحوة الإسلامية، والعجز الظاهر حالياً عن

احتوائها وتدجينها لا يجوز أن يشغلنا لحظة واحدة عن الخطر ومداه وإمكاناته، كما

لا يجب أن نغفل لحظة واحدة عن أن الصحوة الإسلامية تواجه أعداء أقوياء مدربين

على العمل المخطط والمنظم، ولهم يد طويلة في كل ركن من أركان العالم

الإسلامي، ولهم وسائل تأثير وعمل نشطة وقوية وراءها رصيد هائل من الخبرة

والتجربة.

إجهاض الصحوة الإسلامية أخطر من نكبة الأندلس:

إن إجهاض الصحوة لو حدث فسوف يكون كارثة أشد هولاً بما لا يقاس من

نكبة الأندلس، لأن نكبة الأندلس وإن تمثلت في عملية استئصال بشعة، إلا أنها

كانت محصورة في طرف، ولم تشمل الأمة كلها، أما خطر إجهاض الصحوة فإنه

يهدد مستقبل الأمة الإسلامية كلها بل يهدد وجودها كله، ذلك لأنه سيجعل الطريق

خالياً تماماً من أي عوائق لتكمل العلمانية مهمتها التي تمارسها بجد ونشاط منذ أكثر

من قرن من الزمان، هذه المهمة التي تتمثل في إنهاء الوجود الإسلامي تماماً

وتبديل الإسلام وليس مجرد تحريفه ديناً آخر يكون مطية للعلمانية وأداة من أدواتها، وجزءاً من الشكل العام الذي صاغت فيه نفسها، هذا إذا كتبت الغلبة للعلمانية

الغربية التي حافظت على الدين بمفهومها الخاص كجزء من الشكل (الديكور)

الخاص بها لأنها تزعم أنها تؤمن بحرية العقيدة -بمفهومها الخاص طبعاً للعقيدة-

ضمن منظومتها الخاصة بها في الحرية والتي تحرص على أن تكون سمتها التي

تميزها عن العلمانية الشرقية أي الشيوعية. أما إذا كتبت -ونعوذ بالله من كلا

الحالتين- الغلبة للعلمانية الشرقية أي الشيوعية، فإنها سوف تتعامل مع الإسلام

كبقايا متخلفة من عصور تجاوزها التطور (ديالكتيك الطبيعة) كما يقولون. وهؤلاء

لا يريدون الدين كشكل (ديكور) لأن نظامهم يقوم على الإلحاد كعقيدة ولا يؤمنون

بالمفهوم الغربي للحرية، ويرون الدين مظهراً من مظاهر التخلف التي يجب

التخلص منها نهائياً..

إنني لا أتكلم هنا عن تصور مستقبلي لشكل الكارثة، وإنما أتكلم عن بوادر

لها واقع حقيقي في العالم الإسلامي سواء فيما يتعلق بالعلمانية الغربية أو العلمانية

الشرقية.

العلمانية هي الخطر الحقيقي الذي يهدد الوجود الإسلامي:

إن الحقيقة التي يجب أن نستوعبها استيعاباً عميقاً يحرك في أعماقنا إحساساً

متكافئاً بالخطر، هي أن العلمانية بشقيها أو بشطريها هي الخطر الحقيقي الذي يهدد

الوجود الإسلامي تهديداً مباشراً، ذلك لأن العلمانيين يعلمون أكثر مما نعلم نحن -

مع شديد الأسف- أن التهديد الحقيقي للعلمانية لا يتمثل في شيء على المدى الطويل

كما يتمثل في الإسلام، لأن الإسلام وحده هو الذي يملك إمكانات حقيقية (علمية

وعملية وتنظيمية) لمواجهة العلمانية والتصدي لها، إن قوة الإسلام تتمثل -كما

يعرف هؤلاء بأكثر مما نعرف نحن (مع شديد الأسف) - في أساسه العلمي الراسخ

الذي لا توجد فيه أي ثغرة من ثغرات الضعف الذي يتمثل في جزء خرافي أو

أسطوري أو تلفيقي كما هو شأن الأديان الأخرى، وهي الثغرات التي أمكن

للعلمانية أن تستغلها عند الأديان الأخرى لتضربها في مقتل ...

إنهم يعلمون أكثر مما نعلم نحن -وياللحسرة- أن الإسلام لم يعتمد قط على أي

عنصر خرافي أو أسطوري للترويج لنفسه. وأن قوته الهائلة إنما استمدها من

الطرح العلمي الخالص الذي استقطب عقول العقلاء، الذين دانوا له بالطاعة،

والذين كان ليقينهم العلمي الراسخ بأن الإسلام حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

من خلفه، هذه القوة الدافقة الهائلة التي لا يعرف التاريخ لها نظيراً، وأنهم إذا كانوا

قد حاربوا الدين في الغرب أو الشرق باسم العلم فإن هذا الدين لو نجحت الصحوة

الإسلامية في إعادة عرضه بدءاً مما ألحقه به الجهلاء بل والأعداء المخربون من

خرافات وأساطير، فإنه سوف يستعيد سلطانه الساحق على العقول التي تؤمن بالعلم، وهو السلطان الذي دانت له ومن أجله العقول في الماضي، ودانت لهم الدنيا من

بعد بفضل تمسكهم به؛.. ويومها لن تستطيع قوة في الأرض أن تقف في وجهه لا

باسم العلم، ولا باسم العقل ولا باسم أي شيء آخر.

مسئولية الدعاة عن توجيه الصحوة:

لذا فإن الدعاة مسئولون أمام الله تعالى مسئولية كبرى عن توجيه الصحوة

وحمايتها، إن هذه الصحوة في أشد الحاجة إلى القيادة المؤمنة الواعية التي تستطيع

توجيهها إلى العمل الصائب الذي يُجَنّبْهَا المخاطر، ويجعلها على وعي بالفخاخ

المنصوبة على كل خطوة في الطريق.. إن أكثر ما يملأ النفس حسرة وأسى هو

رؤيتها للنيران التي توقد للشباب المسلم في كل مكان، لقد حدثنا القرآن الكريم عن

أخدود واحد من الأخاديد التي حفرها الطغاة ليحرق فيها المؤمنون، ودعانا إلى أن

نلعن هؤلاء الطغاة، بل علمنا كيف نلعنهم فقال تعالى: [قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ *

النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * ومَا

نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [البروج: ٤-٩] .

إن القرآن الكريم لا يعرض علينا صورة من الماضي نتسلى بها، ولا

يعرضها على المؤمنين ليتعزوا بها فقط إذا ابتلوا، وإنما يعرضها علينا ليكشف لنا

عن النهج الطاغوتي في مواجهة المؤمنين، وليبين لنا أن الطواغيت لا تتردد مطلقاً

في أن تعمد إلى أبشع الوسائل لسحق الإيمان إذا شعرت أنه يعرض طاغوتيتها

للخطر، وهو يكشف لنا في نفس الوقت عن حجم الإيمان المطلوب ليكافئ هذا

الخطر الطاغوتي ويواجهه.. وهذا الإيمان المطلوب ليس هتافاً تشق به الحناجر

عنان السماء، ولا هو كلمات لاهبة تصب لعناتها على الطغاة، إنه ثمرة جهد

صبور معين واعٍ في التعليم والإعداد والتربية، والذين عاينوا وجربوا وواجهوا

يعلمون علم اليقين أي نوع من الإيمان، وأي قدر من الإيمان هو المطلوب لمواجهة

المحارق التي يَستنزل هَوْلها الحليم من علياء حلمه، ويستخرج الجلد الصبور من

جلده وصبره.

خطر استهلاك الشباب:

وإنها لجريمة لا تَعْدلها جريمة أن يعبث عابث باسم الإسلام بشحن الشباب

الغض الذي لم يستوِ على سوقه، ولم يستحصد عوده، ولم تكتمل أهبته، ثم يدفعه

بجهل وغرور وحمق إلى المحارق التي قد تفتن هذا الشباب عن دينه، وما أكثر ما

فتنت.. ثم ما أشد ظلم هؤلاء إذا ألقوا من بعد المسئولية على الشباب إذا فتنوا،

وتاهوا، وضاعوا، بل وانقلبوا أحياناً حرباً على الإسلام، وأدوات في أيدي

أعدائهم.

ثم إنها لجريمة أخرى أن يحجم الدعاة عن توجيه هذا الشباب مكتفين باتهامهم

بالتطرف أو الغلو أو الجهل، مع أن غيرهم أولى بأن يتهم بالتقصير في البلاغ

والبيان والنصح، لا أعني به هذا البلاغ الذي يتمثل في كلمة تلقى إلى الشباب من

مذياع أو تلفاز أو صحيفة كثيراً ما يكون أصحابها قد تقاضوا عليها أجراً يصبحون

بعد ذلك راضين عن أنفسهم متصورين أنهم أدوا الأمانة، ونصحوا للأمة، فإذا لم

يستجب الشباب لنصحهم فاللوم يقع على عاتق الشباب لا عليهم.

إن العمل المطلوب هو بذل أقصى الجهد من أجل تبصير الشباب بحقائق

الواقع، وتسليحهم بفهم سليم للإسلام، وإنه لمما يحز في النفس أن يترك الشباب

هكذا، دون خبرة كافية بأساليب العمل، ودون فقه كافٍ بالإسلام، ودون عالم كاف

بحقائق الحياة، ودون معرفة صحيحة بالتاريخ، ودون وعى كاف بأحوال العصر

وظروفه وقواه ومتغيراته.. يترك هكذا في مواجهة آلات جهنمية تستغل فيه

حماسته لدينه، مستدرجة إياه هنا وهناك إلى معارك تفتعلها لصرف الأنظار عن

فشل، أو عن تورط.. إن مسئوليتنا أمام ربنا تحتم علينا أن نحول بكل ما نملك من

خبرة وعلم وجهد دون استهلاك هذا الشباب في مواجهات غير متكافئة لم يعدوا لها،

ولم يختاروا زمانها.. كما أنها تحتم الحيلولة دون استهلاك هذا الشباب نفسه في

صراعات داخلية في نطاق الحركة نفسها سببها الأساسي قلة العلم، وقلة الفقه،

وقلة الخبرة.

الاختلاف والفرقة أشدا خطراً:

ومع التحذير الذي قدمناه من المخاطر الخارجية، نحذر كذلك من مخاطر

داخلية داخل الصحوة نفسها هو خطر الاختلاف والفرقة، بل إن هذا الخطر أشد

تدميراً من خطر الإجهاض الخارجي، ذلك أن الخطر الخارجي إنما يمارس دوره

من خلال منافذ وثغرات في البناء، وأخطر هذه الثغرات والمنافذ هي الاختلاف

والفرقة، وبقدر ما ندعو إلى الحذر من الخطر الخارجي ندعو كذلك إلى ألا نجعل

من هذا الخطر " شماعة " نعلق عليها عجزنا ونبرر بها فشلنا، بل إنا لا يجب أن

نلوم القوى الخارجية، أو نتوقع منها شيئاً آخر غير ما تفعله بنا، وإنما يجب أن

نلوم أنفسنا. لقد قامت هذه القوى أساساً على استغلال الغير، ولذا فلا توجد حدود

أو اعتبارات تردعها عن هذا الاستغلال، وهذه القوى لا تعرف إلا شيئاً واحداً اسمه

(المصالح) ، وهي من أجل ضمان هذه المصالح لا تتورع عن ارتكاب أشنع الجرائم

التي تؤثمها أية معايير أخلاقية، ذلك أن السياسة الغربية فصلت منذ قرون فصلاً

تاماً وكاملاً ونهائياً بين الأخلاق من أي نوع وبين المصلحة سواء كانت مصلحة

قومية أو فردية، وذلك منذ أن دانت بدين المذهب الطبيعي الذي يقول: بالبقاء

للأصلح الذي هو الأقوى، وليس الأحسن خلقاً، والذي يؤمن أصحابه إيماناً مطلقاً

بحق القوي في استغلال الضعيف وتسخيره، بل فرقوا بين نوعين من الأخلاق:

أخلاق القوة التي ترى الرحمة والشفقة والإحسان والتسامح عجزاً وضعفاً؛ وأخلاق

الضعف التي ترى الرحمة والشفقة والإحسان والتسامح ديناً وتقوى؛ وهم يعدون

الأولى هي الأخلاق التي تليق بالسادة المؤهلين تأهيلاً طبيعياً للسيادة والسيطرة،

ويعدون الثانية هي أخلاق العبيد المؤهلين أيضاً تأهيلاً طبيعياً للخضوع والذل

والمسكنة، وقد ساد هذا المذهب في الغرب والشرق، فظهر في فرنسا في صورة

الوضعية التي أسسها (أوجست كونت) وفي إنجلترا في صورة المذهب الحسي عند

(بنتام) وفي صورة الفلسفة التطورية عند (دارون) و (هربرت سبنسرا) ، بل

إن هربرت سبنسر صرح بأن من حق الشعوب القوية استعمار الشعوب الضعيفة،

وفي ألمانيا في فلسفة القوة عند نيتشه والذي مجد الشراسة والافتراس كخلق إنساني

للأقوياء، وأفرز النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وفي إيطاليا سبق

(ميكافيللي) إلى تقرير المذهب الذي يعرف باسمه اليوم ويدين به الساسة في كل بلد، والذي يقول بأنه لا أخلاق في السياسة، وفي أمريكا ظهر في صورة المذهب

النفعي (البراجماتى) الذي أسسه وليم جيمس، وفي روسيا في صورة الشيوعية..

وعليه فيجب أن نتصرف على أساس أن سلوك الاستعماريين هو سلوك ثابت

مؤسس على اعتقاد راسخ، وليس مجرد نزوات طارئة أو وقتية..

ولاشك أن الذي مكن وما يزال يمكن للاستعماريين فينا هو عجزنا وضعفنا

وهواننا وفرقتنا، ولكن حين يكون التفرق والاختلاف في الصحوة التي تعقد عليها

الآمال في خروج الأمة الإسلامية من بئر الهوان فإن الأمر لا يحتمل التلكؤ، وإنه

جد خطير..

ولنواجه الواقع الإسلامي دون لف أو دوران، ودون مواربة لأن ذلك يعني

ترك الخرق يتسع، والشق يتحول إلى شقوق تؤدي في نهاية الأمر إلى انفجار

الصحوة من داخلها، وساعتها لا ينفع الندم، وساعتها لن يكون الحساب حساب

الذين اختلفوا وحدهم، وإنما سيكون أيضاً حساب الذين عرفوا وسكتوا، والساكت

عن الحق شيطان أخرس.

اختلاف الناس:

لا أقول إنه يمكن رفع الاختلاف كلية، لأن الاختلاف في الناس سنة من سنن

الله تعالى من أجلها خلقهم، قال تعالى: [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا

يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ

الجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ] [هود /١١٨] . جاء في تفسير هذه الآية: «يخبر تعالى

أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر كما قال تعالى: [ولَوْ

شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً] ، وقوله: [ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ

مَن رَّحِمَ رَبُّكَ] أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم

ومذاهبهم وآرائهم. قال عكرمة: مختلفين في الهدى، وقال الحسن البصري:

مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضاً، والمشهور الصحيح الأول» [تفسير ابن

كثر ١ /٤٦٤-٤٦٥] .

الاختلاف في المسلمين أكثر منه في أهل الكتاب السابقين:

بل لقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث الفرق المشهور من أن

الاختلاف في أمته سيكون أكثر من الاختلاف في اليهود والنصارى، وقد روي هذا

الحديث بطرق كثيرة منها ما رواه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبى

سفيان -رضي الله عنهما-، أنه قام فقال: ألا إن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- قام فينا فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين

وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تَجارى بهم الأهواء

كما يتجارى الكلَب بصاحبه» .

لا عذر في الاختلاف الذي سببه الأهواء والشهوات:

لكن ذلك لا يعني أن أهل الخلاف معذورون في اختلافهم عند الله تعالى، بل

العكس هو الصحيح، وهو أنهم محجوجون عنده، لان الاختلاف وقع منهم بسبب

أهوائهم وشهواتهم، ولذلك تخلفت عنهم رحمة الله تعالى التي كتبها للذين يتبعون

هداه ويخالفون أهواءهم وشهواتهم، ولا يخالفون هدى الله، ولذا قضى الله عليهم

بالعذاب ما لم يتوبوا.

الاختلاف الذي يعذر فيه:

إنما يعذر في الاختلاف الذي يكون سببه الجهل وفساد التأويل فيما يعذر

المخالف فيه بجهله أو بفساد تأويله مما لا يكون معلوماً من الدين بالضرورة، أو مما

يجب على كل مسلم أن يعرفه، وهذا النوع من الاختلاف، يجب فيه تعليم الجاهل

، وبيان فساد التأويل للمتأول، مع التأكيد على المخالف بعد البيان إذا أصر على

الخلاف بعد البيان يكون متبعاً لهواه مفارقاً للجماعة التي من شذ عنها شذ في النار.

خلاف يثاب عليه:

وفي داخل الجماعة التي كون من شذ عنها شذ في النار، خلاف أعذر الله

فيه المخالفين من المجتهدين في فقه الأحكام العملية فيما يجوز فيه الاجتهاد، ولأنهم

استفرغوا الوسع، وبذلوا الجهد، ولم يتبعوا أهواءهم وعدهم الله بالأجر حتى مع

الخطأ.

من أجل ذلك كله دعوت وأدعو إلى المراجعة البناءة للعمل الإسلامي لتوجيه

الصحوة الإسلامية، وحمايتها من المخاطر التي تتهددها، ويجب أن تكون المراجعة

على منهج هدفه أن يحصر الخلاف، ويتعلم الجاهل، ويتنبه المتأول ويلزم الناس

الجماعة التي بدونها تصبح الصحوة فقاعة في الهواء؛ ولن يتحقق ذلك إلا على

أساس من فقه صحيح للإسلام.