للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

حين يستنطق الشهود!

«رسالة إلى الأصدقاء الجلادين»

د. عبد الله عمر سلطان

أحياناً لا يملك الراصد للحدث بداً من أن يستضيف مراقباً محايداً ليدلي برأيه

في قضية شائكة، عاطفية، معقدة، ليبتعد عن الوقوع في فخ التصنيف أو إطلاق

تهم التحيز عليه. لقد كتبت في هذه الزاوية قبل أكثر من ثلاثة أشهر مقالاً بعنوان

«الكلاشنكوف لن يسكت الأذان» ، استعرضت فيه بعض زوايا المشهد الجزائري

اللاهث، الذي عالج وضعاً شاذاً تدّعي الأقلية خلال استعراضه أن لديها حقاً مقدساً، وصكاً سرمدياً يتيح لها مصادرة رغبة شعبها وسرقة خياره، على الرغم من أن

هذا السلوك يتنافى مع أبسط ما تقتضيه المبادئ الديمقراطية التي تدّعي تيارات

العلمنة والفرانكفونية أنها تدافع عنها وتنتمي، إليها وتقاتل من أجل استمرارها على

أرض الجزائر ...

وتصاعد الحدث الجزائري منذ ذلك الوقت ليسجل مشاهد عديدة تقتضي أن

نتوقف عندها، لنعالج بعض النقاط المهمة، ولنصل إلى تأطير تسلسل الأحداث

الراهنة للخروج بتصور عام وخطوط عريضة تفسر هذا الحدث، وهذا بالضبط ما

عنيته في البداية حين أشرت إلى اختيار المراقب المحايد الذي يستند هنا إلى تجربة

تاريخية، وأعني به «جاك فيرجيس» الذي يعد من أبرز رجال القانون في فرنسا، وهو شخصية لها حضورها وتجربتها الممتدة إلى أيام حرب التحرير الجزائرية

حين وقف مدافعاً عن حق الشعب الجزائري في استقلاله ونيل كرامته بعيداً عن

قيود العبودية المتمثلةفي الاستعمار الفرنسي، وفي ذلك الوقت رُمي هذا المحامي

بأبشع التهم، وحاول الفرنسيون المتعصبون اغتياله بتهمة «العمالة» و «الخيانة

العظمى» ، وبعد أن نالت الجزائر استقلالها حصل «فيرجيس» على الجنسية

الجزائرية، وتولى مناصب مهمة في وزارة الخارجية الجزائرية، وعمل مديراً

لمجلة «الثورة الإفريقية، ثم غادر الجزائر إلى فرنسا حيث كانت له مواقف قوية

ضد القوى الصهيونية الفرنسية التي ظلت تتهمه بأنه حليف لجبهة التحرير

الجزائرية والعرب عموماً، وبعد الانتخابات» الموءودة «وتداعياتها كتب المحامي

الفرنسي كتاباً بعنوان» رسالة إلى أصدقائي الجزائريين الذين أصبحوا جلادين «

كشف فيه بجلاء عن حجم المأساة وعمق الهاوية التي سقطت فيها البلاد بقيادة مافيا

السلطة، ويستعرض الواقع القائم بقوله:» إن القوانين التي فصلها المشرع

الجزائري تشبه قوانين حكومة «فيشي» الموالية للنازية التي حكمت فرنسا خلال

فترة الاحتلال، بل إن بعض مواد القانون منقولة نصاً وروحاً من هذا القانون

السيء السمعة الذي عرفتُ من خلاله حجم الخلل الذي انتاب النظام الحاكم ... أنا لم

أقرر من البداية أن أتخذ موقفا معيناً ضد السلطة في الجزائر، لكن ما اكتشفته أثناء

أداء عملي هو الذي دفعني إلى ذلك. إن المسؤولين هناك يمارسون على غيرهم ما

مارسته عليهم فرنسا في السابق يلجأون إلى كل الوسائل لحماية مصالحهم، وأنا

أقول إن الوسائل نفسها تؤدي إلى النتيجة نفسها، ففرنسا اضطهدت «جبهة

التحرير» التي كانت تمثل أغلبية الشعب الجزائري، و «جبهة الإنقاذ» فازت

في معركة انتخابية بأغلبية الأصوات وهي تُضطهد اليوم، والنتيجة ستكون واحدة.

إن الأغلبية قد لا تساند أطروحات «الإنقاذ» لكنها تتعاطف مع أعضائها وتكره

رموز السلطة، وسفير الجزائر في فرنسا (سيد أحمد غزالي) قال بنفسه إن ٩٠ %

من الشعب يكرهون السلطة.

خذ مثالاً آخر: القانون الاستثنائي الجزائري الذي يمنع نشر اسم رئيس

المحكمة ويعاقب بالسجن لمدة خمس سنوات من يخالف هذا المنع، وهذه بدعة

قانونية انفردت بها الجزائر. لقد قرأت في الصحافة الجزائرية أثناء محاكمة

المتهمين بتفجير مطار الجزائر أن أحدهم قال لرئيس المحكمة إنه تم خصيه أثناء

التعذيب، وقد رفض الرئيس معاينة المتهم طبياً لتأكيد أقواله أو نفيها، أليس هذا

إقراراً بحقيقة التعذيب؟ ! «

وحين يُسأل الشاهد الفرنسي عن» عنف الإسلاميين «وهو قميص عثمان

الذي يرفع لتبرير بطش السلطة يقول:» عنف السلطة هو أكثر شدة، لقد تم

قصف إحدى القرى بغاز النابالم، هل تعرفون عنفاً أشد من هذا؟ ! ثم إن عنف «

جبهة الانقاذ» هو ردّ فعل لما تعرضت له، لقد فازت في الانتخابات، ثم رُمي

بالذين فازوا في السجن وفي قاعات التعذيب، كيف يمكن بعد ذلك التحدث عن

الديمقراطية؟ ما هي شرعية السلطة اليوم؟ ليس في الجزائر رئيس منتخب ولا

برلمان منتخب ولا مجالس جبهوية منتخبة ولا بلديات منتخبة، من هنا بدأ العنف

وما حدث بعد ذلك هو نتيجة له، لقد كانت فرنسا في السابق ترفض التفاوض مع «

جبهة التحرير» متعللة بالعنف، وكنت أقول ما أقوله اليوم، وأنا أعرف الكثيرين

من المسؤولين في الجزائر، إنهم يدافعون عن نمط حياة غربي وهذا حق مشروع!

لكنهم يعارضون بذلك إرادة الأغلبية، إنهم مثل فرنسيي الجزائر الذين كانوا

يرفضون التخلي عن امتيازاتهم «.

ثم يُجْلَبُ الشاهد مرة أخرى ليقال له: إن شروط» الإنقاذ «تعجيزية للبدء

في الحوار، لاسيما شروط الناطق باسمها» رابح كبير «، فيقول:» في كل

حركة هناك وجهات نظر مختلفة، وهناك متشددون ومعتدلون، هذا الأمر طبيعي

جداً، ولا يبدو لي أن «رابح كبير» متشدد بل تبدو لي شروطه منطقية، إذ كيف

يمكن التفاوض إذا لم يُعترف مجدداً بـ «الإنقاذ» ؟ «.

ويشير إلى طلب قادة» الإنقاذ «محاكمة المسؤولين عن انجراف الجزائر

إلى دوامة العنف، خصوصاً بعض العسكرين المتشددين بقوله:» وكيف يمكن

التفاوض إذا استمر الجلادون في عملهم؟ لابد من إطلاق سراح القياديين الموقوفين، وإيقاف الحملات ضد الإسلاميين، وأنا أتحدث هنا بصفتي مراقباً ولا أنطق باسم

«الإنقاذ» ، أقول: إنه من الصعب أن يتعايش الجلاد والضحية بعد كل ما

حدث «.

وينهي الشاهد الفرنسي شهادته بقوله:» أظن أنه لا وجود لحل آخر سوى

الحوار، إنه وضع يشبه الجزائر عام ١٩٦٢ م آنذاك كانت فرنسا قد نجحت

عسكرياً في التصدي لجبهة التحرير، لكنها لم تجد طريقة لحكم الجزائر. إن

الانتصار العسكري لا يساوي شيئاً أمام العجز السياسي، وفي الجزائر اليوم لم

تنجح السلطة في القضاء عسكرياً على «الإنقاذ» ، ولم تنجح في تسيير الأمور

حتى رجال السلطة يعترفون بهذا، من جهة أخرى لا يمكن مواصلة إنكار وجود «

الإنقاذ» ، وكل ما يحدث يؤكد أنها قوة فاعلة، وأن الأفضل التحاور مع قياداتها

حتى لا يتواصل العنف والعنف المضاد بين قاعدتها والسلطة، إن الحوار ليس فقط

ضرورياً بل هو المخرج الوحيد من الأزمة ... أنا لا أعلم ماذا يحدث داخل جبهة

الإنقاذ، لكن الواضح أن هناك مواقف متباينة، أعتقد أن قادة كل حركة هم دوماً

أكثر اعتدالاً من أعضائها القاعديين، لذلك أقول إنه من الحكمة أن يتم التفاوض مع

القيادة لتجنب عنف القاعدة، والقيادة وحدها قادرة على منع هذا العنف، هذه القاعدة

أثبتتها كل التجارب التاريخية، وأظن أن فرنسا تتجه اليوم نحو إدراكها، فقد أدانت

مؤخراً كل أشكال العنف، أي أنها عرّضَت بالسلطة أيضاً، وأظن أن كتابي «

رسالة مفتوحة إلى أصدقائي الجزائريين الذين أصبحوا جلادين» أسهم في تليين

الموقف الفرنسي.

هذا السطر الأخير من الشهادة ينقلنا للحديث عن الموقف الغربي من الحدث؛

لأنه ذو علاقة مباشرة بالموضوع وبتسلسل الأحداث.

فرنسا على الخط!

«إذا أردت أن تعرف موقف السلطة الحاكمة فعليك أن تعرف موقف باريس ...

قَبْلاً» ، هذا ما يقوله «كريستوفر ديكي» المحلل الأمريكي في معرض ...

استعراضه لمواقف حكومة «رضا مالك» الذي كاد أن يحصر العالم الخارجي

وعلاقته بالجزائر في فرنسا والذي قام بزيارة سرية لها طارحاً ارتباطه

الفكري/السياسي، وهو النهج نفسه الذي تتبناه الأحزاب العلمانية والشعوبية التي لا

ترى من العالم الخارجي سوى فرنسا ولا تستلهم نموذجاً سواها، مما دفع بعضهم

للتساؤل: متى تتحرر الجزائر من فرنسا ... ؟ !

وهذا السؤال ملح خصوصاً أن التحول نحو «الحوار» وتشكيل ندوة هزيلة

له كان متزامناً مع توجه فرنسي مماثل، وهو يتلو تشدداً فرنسياً تجاه الإسلاميين

الجزائريين تمثل في مسرحية ٧ نوفمبر ١٩٩٣ م حين قُبض على الناشطين

الإسلاميين المقيمين في فرنسا بحجة دعم الجماعات المسلحة، لاسيما بعد ثبوت هذه

التهمة على «موسى كراوشي» الذي ضُبط لديه نسخ من الرسائل المرسلة من

الجزائر تتحدث عن مسؤولية منفذيها عن اختطاف الفرنسيين، ولكن زمناً قصيراً

كشف أن هذه الوثائق «الخطيرة» و «الأدلة الدامغة» هي من دس جهاز

الاستخبارات الفرنسي وتلفيقه، مما يعطي دليلاً آخر على أن التورط الفرنسي في

أحداث الجزائر لا يصب حتماً في مصلحة «حزب فرنسا» أو المنادين بدوام

تسلطه العسكري.

إن الدور الفرنسي في أحداث الجزائر جعل من باريس وكأنها مصدر القرار

لتوجه القوى الحاكمة التي ترتبط كلها في النهاية بخيوط فرنسية تجعل من مصيرها

متعلقاً بهذه الخيوط والحبال السرية، فالصراع الذي دار داخل مؤسسة العسكر كان

بين جناحين «جناح التشدد» الذي يمثله ضباط الجيش الجزائري الذين خدموا في

الجيش الفرنسي أولاً ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الجيش الجزائري والفريق الثاني هو

الذي نشأ بين أحضان جيش التحرير الجزائري، والفريق الأول هو الذي قاد

الانقلاب الأول عام ١٩٩٢ م بعد فوز جبهة «الإنقاذ» بالانتخابات الحرة وأتى

بمحمد بوضياف، ثم هو الذي استمر في تصعيد الموقف من خلال تبنيه للحل

العسكري والقبضة الأمنية لحل مشكلة حضارية وسياسية في الأساس، ثم قام هذا

التيار باغتيال «بوضياف» بعد أن حاول أن يفلت من قبضة الجنرالات، ومارس

هذا الفريق سياسة العلمنة الشاملة ومحاصرة اللغة العربية، وإحلال غلاة العلمانيين، والفرانكفونيين، وبقايا الشيوعيين، وشعوبيي البربر في الواجهة، لاسيما بعد

وصول «رضا مالك» إلى الواجهة السياسية رئيساً للوزراء.

ومع بروز صعوبة تنفيذ سياسة «الاستئصال» التي كان ينادي بها

المتشددون، برز تيار المصالحة من العسكر بعد أن انكشف ضعف حجج التيار

المتشدد وسقوط مشروعه، لقد تزامن هذا مع تراجع الدعم الفرنسي لبقية القوى

المرتبطة به كأحزاب اليسار والبربر، وإن كان الفرنسيون لا يستبعدون إثارة

المشروع البربري الانفصالي، الذي سيكون بمثابة العقبة التي توضع في مسار

المشروع الإسلامي/العربي في الجزائر. لقد أصبح حزب التجمع من أجل الثقافة

والديموقراطية البربري وحزب التحدي الشيوعي الإفراز المباشر للتيار الفرنسي

أضحوكة حتى للحزب الاشتراكي وجبهة التحرير، خصوصاً وأن هذه الأحزاب

الهامشية قد مارست دوراً متورماً خلال تسلط «المافيا العسكرية» التي داست على

كل المقدسات والثوابت التي يجمع عليها الشعب الجزائري منطلقة من تصور ساذج

مفاده أن «علمنة وفرنسة» هذا الشعب واجب مقدس حتى لو كان من خلال

التحالف المكشوف مع نظام يفقد كل مقومات الشرعية وأبسط مبادئ العدالة.

لقد خسرت فرنسا مرتين، حين تحدت إرادة الشعب الذي ثأر لكرامته ودفع

ثمناً لاستقلاله مليون شهيد، ثم خسرت حينما مارست التدخل المباشر (الاستعماري)

من خلال واجهة كالحة تجمع بين إجرام المافيا، وفئوية النخبة المثقفة، واستفزاز

الشعوبية واستثمارها..!

إن الموقف الفرنسي هو مثال صارخ للموقف الغربي عموماً من أحداث

الجزائر الذي سيترك آثاراً مهمة مستقبلاً، فأمريكا كما يقول «ماركوس مازلي»

مارست دوراً مشابهاً «حين اكتفت ببيانات وزارة الخارجية الاحتفالية التي تحض

على الحوار، وتبشر بحقوق الإنسان والديموقراطية، بينما دعمت سراً الحكم

العسكري لأنه أخف ضرراً من حكم إسلامي ... ! وفي المقابل كانت الشركات

الأمريكية الكبرى تجني أرباحاً هائلة مستغلة حاجة الحكم إلى شريك أجنبي حيث

تعمل سبع شركات نفط أمريكية لاكتشاف الغاز، كما أن شركة» بكتل «تنفذ

مشروعاً بقيمة ٤٧٥ مليون دولار ... » ، وهو موقف مشابه للموقف البريطاني

الذي اكتفى بتحديد المصطلحات، والتبشير البياني بالديموقراطية وحقوق الإنسان،

وفرز الأصولي من المتنور الذي تشير إليه مجلة «الإيكونمست» البريطانية

بقولها: «الجيش يبقى آخر حصون حماية العلمانية في البلاد والقائم على نشر

قيمها، ولذا فإن صغار الضباط يمكن وصفهم بأنهم متعاطفون مع الأصولية لأنهم

درسوا المناهج باللغة العربية، وهذا بالضبط ما يُسرُ به كبار الضباط الجزائريين

لمحدثيهم حينما يقولون بأنهم لا يستطيعون أن يثقوا بالضابط من مرتبة نقيب

فأدنى ... !» ، وهكذا فالناطق بالعربية أو المعتقد بعروبة الجزائر هو أصولي متطرف حسب التصنيف البريطاني.

هذا الفزع وتلك البلبلة تكشف حجم الغطرسة الغربية وماذا تعنيه بالأصولية

كما تقول المستشرقة الإيطالية «إيزبيلا كاميرا دافيلتو» : «إن قضية الأصولية

الإسلامية واجهت تضخيماً مبالغاً فيه من قبل أجهزة الإعلام الغربي فالغرب كان

ومايزال بحاجة إلى» اختراع «عدو حتى يضمن لنفسه خطاً دفاعياً ويظل مترفعاً

ومتعالياً على ما تبقى من العالم لسنين طويلة، أو حتى لعقود كان هذا العدو متمثلاً

في الشيوعية التي يتبناها المعسكر الشرقي، وعندما انهارت الشيوعية برز لدى

الغرب التساؤل التالي: من سيكون عدونا المقبل؟ وإذا به يسحب من خزانة تراكم

عليها غبار الزمن صورة العدو التاريخي القديم المتمثل في العالم الإسلامي.

لكن الغرب كان أيضاً بحاجة إلى وسيلة لإقناع مواطنيه بمصداقية هذا

الاكتشاف» الجديد القديم «لذا كان طبيعياً أن يحاول ترسيخ ملامح» البعبع «من

خلال تقديم الأصولية الإسلامية في صورة العدو العنيف، واستغل لتقديم هذه

الصورة كل ما يمكن أن يمت إلى العالم الإسلامي بصلة.

فنحن وعلى الرغم من وجود مظاهر أصولية كثيرة في الديانة المسيحية أو

الديانات الأخرى في الغرب، لا نسمع حديثاً عن» عنف هذه المظاهر

الأصولية «، في حين نرى هذا المنطق يطبق على العالم العربي.

اطلعت أخيراً على الترجمة الإيطالية لأحد كتب المستشرق الانكليزي العجوز

» بيرنارد لويس «وهو ينتمي إلى المدرسة القديمة القريبة من المنطق الاستعماري، نشر الكتاب في طبعته الإيطالية تحت عنوان» القتلة، الإرهابيون الأوائل في

التاريخ «! وعندما تنشر دار نشر مشهورة وكبيرة في إيطاليا كتاباً بهذا العنوان،

فمن الواضح أن لديها هدفاً في تزييف الحقائق، وليس هذا إلا مثالاً مصغراً عمّا

يكمن في الغرب من استعداد لرؤية الجانب السلبي فقط من العالم العربي.

بطبيعة الحال لا أود أن يفهم من كلامي أنني لا أرى مظاهر أصولية ذات

طابع عنيف وإرهابي أحياناً في البلدان العربية، ولو كان الأمر كذلك لكنت أنا

أيضاً أسيرة الخطأ نفسه لكوني لا أرى سوى جانب واحد من الحقيقة العربية لكني

أعتقد أن هناك حاجة إلى التوازن في قراءة ما يحدث في العالم العربي ثم إن هناك

» وحوش «في بقاع العالم أجمع ونحن أيضاً لديناً» وحوشنا «.

أرى أن الظاهرة الأصولية العنيفة هي وليدة للمصاعب التي تجتازها بعض

البلاد العربية، وبالذات على الصعيد الاقتصادي؛ لكن حتى هذه المصاعب

الاقتصادية ليست وليدة اليوم، وإن كان للزعامات الحالية دور في تعميقها فهي

وليدة السياسة الاستعمارية، والإمبريالية الثقافية، والاستعمار الجديد ... لذا ففي

اعتقادي أن مسؤولية الغرب في هذا الإطار كبيرة وثقيلة.

وعلى أي حال فإن أخطاء الزعامات العربية، وغياب الديموقراطية والحرية

في العديد من البلدان العربية، من العوامل التي تساهم في شق الطريق أمام صعود

تيارات عنيفة تستفيد من غضب الناس، وتستغل هذا الغضب وأرى أنه في ظل

مناخ من الحرية والإعلام الحر، فإن غالبية الناس لن تصغي إلى شعارات

الحركات الأصولية، ولن تقتنع بمنطقها.

ومع هذا فإن الغرب لا يحاول التوصل إلى هذه القراءة الموضوعية للوضع

العربي، أو بالأحرى لا يرغب في تقديم صورة حقيقية.. يكفي أن ترى نشرات

الأخبار، فهي عندما تتحدث عن الظاهرة الأصولية ومظاهرها العنيفة، تذهب

لتصوير الناس وهم يؤدون شعائر دينية أو يصلون في المساجد ثم تربط بين هذه

الصور والحديث عن» العنف الإسلامي «!

ترى لماذا لم تفكر محطات التلفزيون في الحديث عن الظاهرة الأصولية في

الديانات الأخرى وهي موجودة بالفعل من خلال الربط بينها وبين مشهد آلاف

المؤمنين الذين يؤمون ساحة القديس بطرس! في الفاتيكان كل يوم أحد للاستماع

إلى قداس الأحد الذي يحييه البابا» يوحنا بولس الثاني «، أو أولئك الذين يقفون

أمام حائط المبكى» البُراق «في القدس؟ ! ثم من أجاز لهؤلاء الصحفيين أن

يطلقوا على بشر عاديين يؤدون شعائرهم الدينية صفة» الأصولية «؟ ! ..»

ما فات هذه المستشرقة أن الجزائر ومحنتها كشفت عن أن من يتحدث اللغة

العربية أو يطالب برفع الأذان أو يعتقد بعروبة الجزائر هو أصولي بالتعريف

الغربي الذي جر الجزائر إلى هذا الواقع المؤلم!

بين الكوليرا.. والطاعون:

الصراع المحتدم في الجزائر يمكن أن يلخص بأنه صراع عقدي حضاري لا

يمكن للمدفع أو الدبابة أو الطائرة الحربية أن تحله، لكن المطلوب هو حوار حقيقي

بين قيادات تُحمّل مسؤولية العنف وهي لا تملك حق دخول دورة المياه بحريتها!

لقد اكتشف النظام الحاكم بأجنحته الحاجة الماسة للحوار الحقيقي الذي ينصف

المطلوبين ويرجع الحقوق لأصحابها ويحد من وهج الصراع الذي زلزل البيت

الجزائري من الداخل؛ لكن السؤال هو: هل سيقدم العسكر على مصالحة حقيقية أم

يكتفون بحوار وهمي؟

الصراع اليوم أيضاً هو صراع أجيال (جيل هرم وآخر صاعد) ، الجيل

الصاعد يرى خياره الإسلامي وينحاز إلى هويته، وهذا الجيل ينبت كشجرة طيبة

داخل الوطن وخارجه في المنفى وفي فرنسا خصوصاً، حيث يقبل آلاف المهاجرين

على دينهم وهم يشعرون بالعزة، وقد يكون الصراع بين أجنحة السلطة صورة

أصغر للصراع المحتدم بين الانتماء إلى جزائر «سي محمد» كما كان يقول

بسطاء الجزائريين خلال حربهم مع فرنسا أو جزائر متفرنسة، وهو صورة بلا

شك لصراع شعب سلب اختياره وغُيب قراره وراء أقنعة «الننجا» التي يتخفى

وراءها صغار الجنود والقادة حين يواجهون شعوبهم، لقد حل الانقلاب الأول وما

لبثت عوارض السوء أن أوصلت الجزائر إلى جرف سحيق بالرغم من التخفي

وراء رموز مدنية أثبتت إفلاسها، وجرت البلاد إلى أجواء حرب أهلية (مهما

اختلفت التسمية) .

لقد شبه مسؤول فرنسي الوضع الحالي بأنه حرب أهلية سافرة ونتيجة مباشرة

لفساد نظام الحكم الذي دفع البلاد إلى الإفلاس.

«إنهم كالطاعون القاتل ببطء، لكنه أفضل من الكوليرا القاتلة بسرعة»

وهكذا نحن في أعينهم طاعون، أو جرثومة كوليرا، وهل نحن بحاجة هنا إلى

شهادة أخرى تدين الغرب الذي يكيل بأكثر من مكيال..؟ !

في البداية استشهدنا بـ «جاك فيرجسي» والآن علينا أن نسمع مفكراً غربياً

آخر هو «سلفاتوري بونو» الذي يلخص نظرة الغرب لنا بقوله: «الغرب ينظر

للمسلمين باحتقار حتى ولو كانوا عملاءه، فما بالك بالأصوليين؟ ، هذه الحركات

الأصولية تمثل مصدر إزعاج للغرب وهو غير قادر ولا راغب في مناقشة

طروحاتها ... »

الجزائر اليوم في وضع حرج وهي تشهد انقلاباً ثالثاً، وربما رابعاً،

وخامساً.. غير أنها بحاجة إلى انقلاب من نوع آخر، انقلاب تتصالح فيه القيادة المنهكة مع شعبها الأعزل الذي يرفض أن يكون جرثومة.

إن الجزائري المسلم إنسان مهما حاول المتغطرسون أن يشوهوا من سيرة أمته

الباسلة، وهذا بالضبط ما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، وهو بالتحديد ما يجب أن

يدركه الذين نسوا في غمرة التهيج أن الجزائر ستظل مغروسة في عمق العالم

الإسلامي والعربي، وأنها بأحداثها المتوالية قد سجلت لنا شهادات بالغة الأهمية

والقيمة عن لؤم أعدائنا وعدالة حق الشعوب في أن تستعيد هويتها.

تجربة سجين جزائرى: [*]

اسمه «محمد» ، لقد وصف كيف أرغموه على ابتلاع سائل تبييض

(كلوركس) مع الماء حتى التقيّؤ، وضربوه بمسدس كهربائي فجّر الحروق في قدميه، وغطسوا رأسه في قاذورات المجاري حتى الاختناق. قال: «عندما رفض أحد

الإخوة الإدلاء بمعلومات تحت التعذيب، عذبت الشرطة والدته البالغة من العمر ٥٥

عاماً، لقد رأيتهم وهم يخرجونها من حجرة التعذيب.. كانت عارية، مغطاة بالدماء، لكنها نظرت إلينا وقالت: صبراً يا شباب!» .

من الصعب التستر على ما حدث لمحمد بعد هجوم ٣٠ من عناصر الشرطة

الملثمين على بيته في حي «سالمبير» في العاصمة الجزائرية في الساعة الثانية

صباحاً يوم ١٠ أكتوبر من العام الماضي، عصبوا عينيه وألقوه في شاحنة تابعة

للشرطة وأخذوه إلى كلية الشرطة في «شاتونيف.. أسابيع من التعذيب تبعتها

أشهر من الظلام الدامس في سجن انفرادي.

ما كان محمد يخفي شيئاً من انتماءاته الإسلامية، كان إمام أحد مساجد

العاصمة الجزائرية، وهو بالتأكيد أحد مؤيدي جبهة الإنقاذ الإسلامية التي تعارض

الحكومة الجزائرية منذ أن ألغت الانتخابات التي كانت توشك الجبهة أن تفوز بها.

يقول محمد: إنهم في كلية الشرطة التي تقع في حي» البيار «في العاصمة

الجزائرية نزلوا به درجات سلم عديدة إلى سلسلة من الزنزانات، ربما أربعة

طوابق تحت الأرض وصفها بأنها (باردة كالثلج) ، كانت الزنزانات صغيرة جداً..

يقول محمد:» وكانت جدران الزنزانة التي كنت فيها ملطخة بالدماء وفيها أضواء

قوية جداً لدرجة أنها كادت تعميني، كنت أستطيع سماع الصراخ القادم من

الحجرات الأخرى.. نزعوا عني ملابسي وعصابة العينين، كان جميع أفراد

الشرطة ملثمين، بعضهم كان يتكلم بلهجة محلية من «قسنطينة» والجهة الغربية، أما الآخرون فقد كانوا من العاصمة الجزائرية، سألوني عن مكان الأسلحة فقلت

لهم: لا أعرف وهي الحقيقة، أخذوني إلى فتحة مجاري صخرية في منتصف

الحجرة ونزعوا الغطاء، كانت فتحة مجاري كبيرة، ودفعوا برأسي داخلها فاختنقت

من القاذورات واستمررت في إنكار أن لي أي علم بالبنادق، بعد ذلك قيدوني بحبل

غليظ إلى مقعد من الإسمنت في أحد أركان الحجرة، وسدوا فتحتى أنفي ليجبروني

على فتح فمي، ونقعوا قطعة من القماش في محلول من (مبيض الغسيل) وماء، ثم

جعلوا يعصرون السائل من قطعة القماش داخل فمي، وفعلوا ذلك مرات ومرات

حتى امتلأت معدتي بالمبيض والماء ثم ركلوني في بطني وجعلوني أتقيأ «.

لقد فعلوا أشياء فظيعة، في إحدى المرات وضعوا نوعاً من الغراء لمنعي من

قضاء الحاجة، ثم جاؤا بمسدس كلما أطلقوه على جلدي أعطى صدمة كهربائية

كبيرة جداً سببت لي قروحاً وحروقاً من الدرجة الثانية أو الثالثة وسقط الجلد من

قدمي» ، ونزع محمد صندله الأزرق وكشف عن قدميه، لاتزال القروح واضحة

للعيان رغم مرور ثلاثة أشهر، قطرها ثلاثة سنتيمترات، نسيج أثر الحروق باهت

وواضح مقارنة ببقية جلده.

«لقد هددوا بجلب زوجتي وتعذيبها أيضاً لما رفضت الكلام، لقد صنعوا

ذلك مع رجال آخرين.. أحدهم ( ... ) وهو شاب من» براكي «جاؤا بزوجته

الشابة إليه، ثم أخذوها إلى مكان آخر وعذبوها، فيما بعد علم أنهم اغتصبوها

فأصابه انهيار، عندما رأيته أخبرني أنها ماتت من جراء ما فعلوا بها، ثم جاؤا بعد

ذلك بأمه وعذبوها واغتصبوها أمامه وفيما بعد حكمت المحكمة بإعدام ذلك الشاب.

بعد ثمانية أيام في» شاتونيف «أخذ محمد إلى مركز شرطة في» مدانية « ...

ثم بعد ذلك إلى مركز الشرطة الرئيس، وبدأ فصل جديد من التعذيب.. يقول محمد: في الفصل الأخير من التعذيب في مركز الشرطة الرئيس كبلوا يدي وراء ظهري

وربطوا قدمي معاً ثم ضربوا رأسي بالأرض بعنف، وقفز أحد الزبانية على رأسي

فانكسر أنفي وفقدت حاسة الشم وانخلعت أسناني» ، وبالفعل فقد كان كثير من

أسنان محمد العلوية الأمامية مفقوداً «لقد عذبوني عذاباً فظيعاً حتى أنني بلّغت عن

شقيقي وقلت: إن له ضلعاً في المقاومة وجاءوا به إلي وجهاً لوجه فقلت لهم: إن

هذا غير صحيح، لكنهم كسروا أضلعه وبكى أخي وقال لي: سامحك الله» .

عند هذه النقطة انهار محمد بعد ٣٣ يوماً من التعذيب، ووقع على اعتراف

بأنه قام بجمع الأدوية والمال للمقاومة، واشتكى إلى قاضي المحكمة بأنه لم يكن له

خيار غير توقيع الوثيقة: «يجب أن تفهم: لقد رأيت رجالاً يموتون تحت التعذيب» ، ... ويضيف محمد: «لقد عذبت في إحدى الزنزانات حيث كان الرجال يعلقون

من السقف بقيود من حديد في أيديهم، أصابهم الضعف من جراء التعذيب، ورأيت

رجلين ميتين معلقين، وأجساد ثلاثة آخرين ماتوا من جراء التعذيب بلهب جهاز

لحم المعادن، أما إمام (بومرداس) واسمه (حومي محمد) ، فإن عينيه قد اقتلعتا وهو

على قيد الحياة، وترك ليموت في حجرة التعذيب، وفيما بعد قالت الصحافة

الجزائرية عنه: كان إرهابياً قتل في معركة بالبنادق مع الشرطة..» .


(*) عن صحيفة الإندبندت الإنجليزية الصادرة في ٤ فبراير ١٩٩٤ (البيان) .