للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[الجذور التاريخية لسياسة تجفيف المنابع]

د.أحمد بن محمد العيسى

لم تكن سياسة تجفيف المنابع التي تتبعها بعض الدول العربية للحد من تغلغل

عقيدة الإسلام وتعاليمه في المجتمع، ووصولها بالذات إلى عقول الناشئة من أبناء

المسلمين.. لم تكن وسيلة جديدة تفتقت عنها عقول منظري العلمانية والتغريب في

العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة. إنها سياسة لها جذور تاريخية تمتد إلى

المواجهات الأولى بين الحق والباطل منذ أن صدع رسول الله بالرسالة الخاتمة في

مكة، لقد دأبت قريش على محاولة منع وصول كلمة التوحيد إلى آذان الناس داخل

مكة أوآذان القادمين إليها، سواء أكان قدومهم للتجارة أو للحج، ولقد وجه صناديد

قريش جهودهم إلى المنبع الأول صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام لمحاولة الحد

من تأثيره، وقطع الوسائل المعينة على إيصال كلمة الحق للناس، فكانت محاولاتهم

متعددة الوسائل: منها ما كان بالترغيب أو الترهيب، أو المقاطعة الاقتصادية، أو

الاستهزاء والسخرية، أو غير ذلك من الوسائل التي لا تخفى على من قرأ السيرة

النبوية واستلهم دروسها.

ولكن الرسالة التي أراد الله لها أن تكون رسالة خاتمة، أصبحت من القوة

والمنعة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحيث فاضت منابعها علماً ودعوة

وتعليماً وحكماً بين الناس، ولم يعد بالإمكان تجفيفها في أرض الإسلام لتجذرها في

أعماق مؤسسات المجتمع آنذاك، وعلى الرغم من المحاولات العديدة من قوى

الباطل لدحر الإسلام وإلحاق الهزيمة بالمسلمين، وإثارة الفتن العقائدية والسياسية

في المجتمع، إلا أنه لم تكن هناك محاولات عميقة وجذرية لتجفيف منابع الإسلام

المتنوعة في حواضر العلم والتدريس والدعوة والجهاد. ولكن التاريخ الحديث يبرز

لنا محاولة مستميتة لتجفيف المنابع، تمثل تجربة ونموذجاً للتجارب الحديثة التي

جرت وتجري هنا وهناك في بلاد العالم الإسلامي، وهذه التجربة هي تجربة

الحزب الشيوعي السوفيتي في بدايات هذا القرن عندما قرر منظرو سياساته القضاء

على الدين الإسلامي؛ لأنه يمثل الحصن الحصين ضد هيمنة الشيوعية على البلاد

التي حكمتها.

ولعل المرحلة التاريخية المعاصرة التي بدأت منذ بداية هذا القرن العشرين

هي من أكثر الفترات غموضاً وتغييباً عن عقول المسلمين، على الرغم من أن

المسلمين اليوم يعيشون في ظل إفرازات الأحداث التي حدثت في تلك الفترة. ومما

يؤسف له أن تلك الأحداث العظيمة التي وقعت في بلاد العالم أجمع مثل الثورة

الشيوعية والحربين العالميتين، وانتهاء مرحلة الاستعمار العسكري، ونشوء الدول

القومية في البلاد العربية، ليست غائبة عن أذهان الشباب المسلم الذي يدرس في

الجامعات والمعاهد فحسب، بل هي غائبة أيضاً عن عقول كثير من الدعاة

والمفكرين الإسلاميين والعاملين للإسلام في كل مكان تقريباً.

ويحدثنا كتاب (المسلمون في الاتحاد السوفيتي) الذي ألفه الفرنسيان (بينغسن

ولمرسييه) وصدرت طبعته الإنجليزية في عام ١٩٦٧ م عن صورة تاريخية

للتجربة الأم لسياسة «تجفيف المنابع» ، التي رسمها المفكر الشيوعي من أصل

مسلم «سلطان غالييف» للحزب الشيوعي، وقام الحزب بتنفيذها بلا هوادة منذ

بداية سيطرته على المنطقة الإسلامية في آسيا الوسطى وبلاد القفقاس والقوقاز،

و «سلطان غالييف» مفكر بدأ حياته بالتنظير لإسلام عصري (كما يفعل أصحاب

الفكر الإسلامي المستنير اليوم) ، وانضم إلى حزب «الجديد» في طشقند، وهو

أول منظمة سياسية مناهضة للوجود الروسي، و «للمرجعية الدينية» معاً، ثم

انضم «غالييف» للحزب الشيوعي بعد الثورة الشيوعية، وكان كما يقول الكتاب

«الزعيم المسلم المرموق بين أقرانه من الزعماء، وكان أكثر الزعماء حظاً في

الحزب الشيوعي، فقد كان عضواً في مجمع مفوضيات الشعب لشؤون القوميات،

ورئيس تحرير مجلة القوميات الموسكوفية، وأستاذاً في جامعة شعوب الشرق، ويد

ستالين اليمنى، والزعيم الشيوعي المسموعة كلمته في شؤون سياسة القوميات،

فليس من العجيب إذن أن تكون نظرياته بشأن الثورة الشيوعية موضع تقدير وقبول

من أبناء دينه الذين قبلوا بالتعاون مع النظام السوفيتي، ولذا فإن أفكاره كانت تمثل

مع اختلافات محلية نموذجاً لكل الشيوعيين الوطنيين ما بين سنتي ١٩٢٠- ١٩٢٣

م، لا بل استمر هذا شأنه حتى سنة ١٩٢٨ م أي بعد أن حلت عليه غضبة الحزب

للمرة الأولى..» .

وقد أدرك ذلك المفكر أن طبيعة الإسلام غير طبيعة الأديان الأخرى التي

حاربتها الشيوعية، لأن الإسلام كما يقول الكتاب: «أشد خطراً من غيره من

الأديان على النظام الشيوعي لأن عمل المسلمين بأحكام الإسلام الشرعية والأخلاقية، يميز المسلمين عن غيرهم، ويقيم بينهم وبين الشعوب الروسية السوفيتية وفي

المقام الأول الروس أنفسهم حواجز نفسية من الصعب التغلب عليها ... »

ولكن «سلطان غالييف» رسم سياسة النفس الطويل للقضاء على الإسلام،

وأشار إلى الخطوط العريضة في سياسته تلك في مقال نشره في مجلة (جيزن) عام

١٩٢٠م، ومن ملامح هذه السياسة وجوب «إبعاد المسلمين عن دينهم بمراحل

تدريجية لا تثير صداماً أو مقاومة قد تتخذ شكل حرب وطنية وفوق ذلك كان على

الدولة الشيوعية أن تبعد عن نفسها ظن المسلمين وهي تشن حرباً على الإسلام أنها

إنما تفعل ذلك استمراراً للحملة التي شنها عليهم المبشرون المسيحيون في القرن

التاسع عشر ... » ، ويستدرك المؤلفان بعد هذه الإشارة فيقولان: «غير أن

صرف المسلمين عن هذا التفكير، كان مستحيلاً لأسباب منها: أنهم خلعوا ثوب

الكهنوت وانضموا إلى الشيوعية، عن عقيدة أو لغاية، وكانوا يرون في عملهم

الجديد الإمكانية المنطقية لمتابعة العمل الذي بدؤوه في ظل الكنيسة الأرثوذكسية ...

ويمكن للقارئ هنا أن يتوقف برهة، ويستحضر السياسات الغربية الحالية في

البلاد العربية، التي تسعى بشتى الوسائل كي تبعد ظن المسلمين في أن سياساتها

الحالية ما هي إلا امتداد للحروب الصليبية في القرون الوسطى والاستعمار الغربي

في القرون الحديثة. وهذا يشمل بطبيعة الحال دور المبشرين بالنصرانية الذين

وجدوا في المهن التي يحتاجها المسلمون مثل الطب والهندسة وغيرها، فرصة

لمتابعة عملهم التبشيري دون اهتمام كبير من المسلمين.

وقد اقتضت» الرصانة والحكمة «التي يزعمون في محاربة الإسلام أن

بدأت الحكومة الشيوعية تنفيذ سياسة» سلطان غالييف «لتجفيف منابع الإسلام

بشكل غير مباشر: يقول المؤلفان:» ما كادت الحرب الأهلية تنتهي حتى هاجمت

الحكومة السوفيتية الإسلام بطريق غير مباشر، وذلك بالقضاء على المؤسسات

الإسلامية الثلاث، وهي: أولا: الأوقاف التي كانت تضمن القوة الاقتصادية لعلماء

الدين، ثانيا: المحاكم الشرعية التي تمنح الإسلام السيطرة على حياة المسلمين

الخاصة، وثالثاً: التعليم الديني الإسلامي، وقد شنت هذه الحملات الثلاث في وقت

واحد تقريباً «.

وكما هي سياسة تجفيف المنابع التي يجري تنفيذها في بعض البلاد العربية،

اتجهت الجهود إلى منابع الإسلام الحقيقية، ولم تتجه في البداية إلى الأحزاب

والجماعات والأشخاص الذين كان لهم دور في مقاومة الحزب الشيوعي، ذلك لأن

سياسة تجفيف المنابع لا يهمها الأشخاص أو الأحزاب في ذلك الوقت، فهم

سيصبحون صيداً سهلاً في غياب المؤسسات الداعمة لهم في المجتمع، ولكن المهم

هو تلك المنابع الحقيقية التي تضمن استمرار هيمنة تعاليم الدين في حياة السكان،

والعجيب أن الكتاب يؤكد كما تؤكد السياسات الحالية لتجفيف المنابع أن هذه السياسة

لا تجد مقاومة قوية من المسلمين بعكس السياسات التي تتجه للقضاء على الأحزاب

والأشخاص والجماعات! ! يقول الكاتب:» وفي سنة ١٩٢٥م عمدت الحكومة إلى

تصفية الوقف نهائياً فأصدرت جمهورية (أوزبكستان) في ١٩ كانون الأول ١٩٢٥م

مرسوماً يقضي بأن تتملك مفوضية الشعب للزراعة كل الأوقاف الكائنة خارج المدن

باستثناء البساتين والكروم، وبعد ذلك بقليل صادرت أوقاف المدن وأوقاف المساجد، وفي سنة ١٩٣٠م قضت حكومة موسكو عملياً ونهائياً على المؤسسات الوقفية

الكائنة في طول الاتحاد السوفيتي وعرضه، وذلك بوعدها أن توزع الأرضين على

الفلاحين، وهكذا قضي على هذه المؤسسة الإسلامية في بضع سنوات، من غير

أن تثير أي مقاومة، ومنذ ذلك الحين حرم علماء الدين من أسباب رزقهم، كما

حرمت المساجد والمدارس من الوسائل المادية لدوام بقائها، وبدأت الحملة على

العادات الإسلامية وعلى التشريع الإسلامي في الوقت الذي بدأ فيه الكفاح ضد قوة

الإسلام الاقتصادية، وقد سهل هذه الحملة كونها جاءت في نطاق العلمانية، وهي

تقليد قديم تردد على الأسماع كثيراً ولم تكن محاولة إضعاف التشريع التقليدي بله

القضاء عليه نهائياً في نظر النخبة من المسلمين إلا استمراراً للكفاح الطويل الذي

قاده (الجديد) في سبيل جعل التشريع الإسلامي عصرياً، وقد بدأ الكفاح ضد الشرع

في كثير من البلدان في القرن التاسع عشر «.

وهنا لابد من وقفة أخرى للقارئ: ليتفكر في تلك القوى الشيطانية التي جعلت

مخططي سياسة تجفيف المنابع المعاصرين ينتبهون إلى سياسات أسلافهم أمثال»

سلطان غالييف «، ويحاولون تطبيق تلك السياسات بحذافيرها في مجتمعات

المسلمين، فمن الدعوة إلى جعل الإسلام (عصرياً) ، إلى الدعوة إلى» العلمانية «

صريحة، وأخيراً إلى تجفيف منابع الإسلام الاقتصادية والتعليمية والتشريعية.

ولم يكتف الحزب الشيوعي السوفيتي بالقضاء على المؤسسات الإسلامية

الثلاث، ولكنه في الوقت نفسه كما يقول الكتاب قام بحملة دعائية ضخمة ضد

علماء الدين، حيث» كانت الدعاية الرسمية تسعى، في بداية الأمر، إلى الحط

من أقدار علماء الدين فقط في نطاق عملهم وتتهمهم بالجهل وعدم فهم القرآن وعدم

معرفة أحكام الشرع، وبالتالي تتهمهم بأنهم أئمة غير صالحين، ثم تطورت حملة

التحقير رويداً رويداً، وصار علماء الدين يتهمون بعد سنة ١٩٢٦ م بالرشوة

والسرقة والإجرام، وأخيراً بسوء السيرة والخلق وبعد سنة١٩٢٨ م قررت

السلطات السوفيتية أن تبدل حملاتها غير المباشرة بحملات مواجهة، لا بل أن

تهاجم الإسلام في جوهره وصميمه، متناسية نصائح الحكمة والحذر التي أسداها

إليها سنة ١٩٢١م (سلطان غالييف) وغيره من الشيوعيين المسلمين ... «

ويكمل الكتاب الحديث عن آخر فصول هذه الخطة التي رسمها الحزب

الشيوعي للقضاء على الإسلام نهائياً في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق فيقول:» في سنة ١٩٢٨م بلغت السياسة الحكيمة، التي لجأت إليها الحكومة في مكافحة

الدين، هدفها من غير أن تثير أية مقاومة شعبية، وذلك بتبنيها الكفاح الذي كان

(الجديد) يخوضه منذ عشرات السنين بغية جعل الإسلام عصرياً، وتطبيقه على

العالم الحديث، وبعد أن نجحت هذه السياسة بتجريد الإسلام من قوته الزمنية أصبح

بالإمكان البدء بتنفيذ المرحلة الثانية وهي الكفاح في سبيل إقامة مجتمع شيوعي بعيد

كل البعد عن الأفكار الدينية، وقد بدأ تطبيق هذه المرحلة بعنف منذ البدء بمشروع

السنوات الخمس، وذلك بحملة مجابهة على الإسلام تقرر تنفيذها في الوقت الذي

تقررت فيه مجابهة (الجديد) ، وتصفية أكثر أعضائه الذين انضموا إلى الحزب

الشيوعي أمثال «سلطان غالييف ... » .

وكما يقول الحكماء: «إن التاريخ يعيد نفسه» ، لقد أسدلت مرحلة تاريخية

خطيرة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي، وبدلا من القضاء نهائياً على الإسلام،

تمت تصفية الحزب الشيوعي نفسه، ولكن المعركة مستمرة بين قوى الحق وقوى

الباطل، إذ يجري الآن استنساخ تجربة تجفيف المنابع الشيوعية ليتم تطبيقها بعد

تعديلات طفيفة في بعض البلاد العربية، أو بالأصح قد تم تطبيقها منذ عشرات

السنوات عندما تمكنت الدول التسلطية في العالم العربي من السيطرة والتحكم في

المؤسسات الثلاث التي تحدث عنها الكاتب وهي: الأوقاف الإسلامية التي كانت

تمنح المشاريع الدعوية والعلمية الاستقلالية الاقتصادية، والتعليم الإسلامي بعد أن

ألغت أو ضمت جميع المعاهد الشرعية إلى النظام التعليمي العلماني، وقبل ذلك

ألغت المحاكم الشرعية أو كادت بعد أن أن ربطتها بمؤسسات مركزية تخضع

مباشرة للحزب أو الدولة، وبقي من سياسة تجفيف المنابع ملاحقة الشوارد التي قد

تتدخل في هذه المؤسسات الثلاث، وتحاول إعادة الصفة الإسلامية ولو قليلاً إلى

النظام التعليمي أو المحاكم، أو الأوقاف الإسلامية، وبقي منها أيضاً ملاحقة الدعاة

الذين يتهمون في وسائل الإعلام «بالجهل، والظلامية، والتطرف، والإرهاب ... » ... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.