للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قراءة في كتاب

ليس غبياً ومع ذلك مسلم!

قراءة في مذكرات «مراد هوفمان» [*]

محمد حامد الأحمري

كانت السيارتان وهما من طراز «شيفروليه» قد تصادمتا بمقدمتيهما ...

بسرعة إجمالية تبلغ (٩٥) ميلاً في الساعة تقريباً، وكانت فرصتي ...

للنجاة من هذا الحادث تعادل تلك التي كان يمكن أن أحظى بها فيما لو أني قفزت من الطابق الخامس في مبنى مرتفع.

وعندما كان الجراح يحاول إعادة وجهي الممزق إلى ما كان عليه، تساءل

بصوت مرتفع عمّا كان عليه شكلي قبل الحادث، وتمكنت بحركة من رأسي أن

أشير إلى أنه يمكنه أن يعثر على جواز سفري في طقم ملابسي المخضبة بالدماء

وأخذ الطبيب لبعض الوقت يجيل بصره على التوالي بين صورتي في جواز سفري

وتقاطيع وجهي الممزقة، ثم همهم مردداً بأنه يمكنني أن أجري جراحة تجميل بعد

بضع سنوات.

وأضاف بتحفظ وهو يحقنني بجرعة تخدير في أول ليلة لي بالمستشفى: «يا

عزيزي إن المرء لا ينجو في مثل هذه الحوادث! لعل الله قد ادّخَر لك شيئاً في

المستقبل» ! .

وبعد تسعة وعشرين عاماً، أي في ٢٥ (أيلول) عام ١٩٨٠م استطعت أن

أدرك معنى هذا « (ص ٢٠-٢١) .

هكذا يبدأ» مراد هوفمان «مذكراته في سياق ممتع يبهج القارئ المسلم في

زمن قل فيه أن يقرأ شيئاً يفرحه، والمسلمون يفرحون بهذا النوع من الكتب

لأسباب عديدة: أولها فرحة المسلم بمهتد جديد ينقذه الله من النار، فنفرح له بالهداية

والنجاة، والسبب الآخر أننا نفرح عندما يُعترف بنا، فنحن في عالم النكران

والتجاهل، يصب علينا الرصاص من جانب، والإعلام الساخر المستهزئ

بالمسلمين من جانب آخر، فإذا سمعنا همسة إنصاف أو اعتراف طرنا بها فرحاً.

وأخيراً فإن المشهور من قصص الذين كتبوا مذكرات إسلامهم أو حياتهم بعد

هدايتهم تكشف لنا كثيراً من جوانب عظمة ديننا التي قد لا ندركها، ولكنها تقدم حلاً

لعدد من المشكلات التي يعانونها وعايشوا مرارتها، وضاقت السبل بهم في البحث

عن حل لها، ثم يجدون في الإسلام خير حل لها. إن في احترام العقل ويقظة

الروح واعتدالها عند المسلم الحق وفي مصادر المسلمين السنة، ما خلب عقل»

مراد هوفمان «وهو المثقف القانوني الفيلسوف المتمرس بالسياسة وصاحب الميول

الروحية، لقد جذبه الإسلام بإعجازه الرباني فاندفع له بكل اهتمام وعمق يقين.

يقدم» مراد «قصة التثليث في المسيحية بكل سخرية، وينقدها ويذكر بعض

علماء اللاهوت من أمثال» هانزكونج «الذين بدا لهم أن التثليث خرافة ويتمنى لهم

الإسلام إذ يراهم على أبوابه يقفون، و» كونج «هو مدير معهد الأبحاث

المسكونية في» توبنجن «بألمانيا، وقد اعترف أن الرسول محمد-صلى الله عليه

وسلم - نبي حقيقي بمعنى الكلمة، واشتعل الخلاف بينه وبين رؤوس الفاتيكان الذين

يعتقدون» الخلاص فقط في النصرانية «، وأنه لا أنبياء من خارج الكنيسة.

وقال» كونج «: إن الإسلام طريق حقيقي للخلاص، وإن الكنيسة لا يمكنها

أن تستمر بعد ذلك في إنكار أن محمداً-صلى الله عليه وسلم-المرشد والقائد على

هذا الطريق يعد نبياً حقيقياً بكل معنى الكلمة، ويعتقد» كونج «أن الإنجيل قد بشر

بمجئ نبي آخر» (ص٢٢٣-٢٢٤) .

وينقل في نصوص عديدة أنه لو طبق منهج النقد التاريخي على عدد من

الأديان لما صمدت للنقد التاريخي، ولكن الإسلام لا يخشى تطبيق هذه المناهج عليه، ويتمنى «مراد» لـ «هانزكونج» أن يسلم، فقد وضع قدميه على الطريق.

إن سعة أفق المؤلف، وتنوع ثقافته جعلت من الكتاب درساً ثقافياً جيداً

وجعلت من عمل المترجم عملاً صعباً، فقد وفق كثيراً ووقعت له في الترجمة هنات

هنا وهناك، مما لا يعزب عن فطنة القارئ.

وكما أن في الكتاب مناقشات وسيرة حياة، فإن فيه سيرة قارئ وتجربته مع

الكتب والثقافة والشعوب، فمرة تجدك في بعض الفصول تقرأ عرضاً لكتاب، وفي

أخرى تقرأ نقداً اجتماعياً لمجتمعه الغربي، ومرة ثالثة في خلاف مع الصوفية،

ورابعة يشيد بأخلاق المجتمع الإسلامي الذي تعمقت فيه أخلاق الإسلام رغم العمل

الدائب من أنصار التغريب الذين يحاولون تدمير أخلاق الشعوب الإسلامية،

ويسخر «هوفمن» من هذه الطائفة التي بدأها «أتاتورك» ومسخت أخلاق

الشعب التركي وحضارته وأبعدته عن الدين الحق، ويقص قصصاً مؤلمة لبعد

الأتراك عن الدين، حتى أصبحت الحروف العربية عند الجيل الجديد كالحروف

الصينية، والتي جعلت أحدهم يرد عليه وهو يسأله عن بعض العادات الحسنة في

تركيا عندما يطرق الباب ألا يزيد على ثلاث طرقات، ويبعد يده حتى لا يطرق

الرابعة، فتقول له حماته زكية: «إنها عادة تركية» ولا تعرف أنها سنة

الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وكذا الأمانة في البيع وبعض ما ورثه تجار أتراك

أصلاء يعدونه عادة تركية وهي في الأصل خُلق إسلامي، ثم تحدث عن دور

الإسلام في إصلاح التجارة، وأساليب التعامل من خلال إصلاح الإنسان.

«مراد هوفمان» عايش الحقبة الأخيرة من الحرب الجزائرية الفرنسية،

وآلمته مشاهد إحراق الفرنسيين لأحياء كاملة في الجزائر بقنابل النابالم، وآلمته

كلمات جارته في الجزائر لأطفالها وقد شاهدوا قتل النساء الجزائريات الذاهبات إلى

السوق فقد خففت الأم الفرنسية الروع والهلع الذي استولى على الأطفال من قتل

جمع من النساء بلا سبب بأن قالت لهم: «إنهم ليسوا سوى عرب» ! !

يقول: بحثت مراراً عن ذلك السر الذي مكن هؤلاء الجزائريين الملتزمين من

احتمال كل هذا الاحتقار وسوء المعاملة والعقاب، وأخيراً وجدت مفتاح هذا السر

وأنا أعود لقراءة الآية (١٥٣) من سورة البقرة: [يا أيها الذين آمنوا استعينوا

بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين] .

ولا ننسى هنا إعجابه الشديد بأستاذه «محمد أسد» ، وقد ذهب لزيارته في

لشبونة وناقشه، ويرى أنه ما من شخص آخر استطاع خلال المائة عام الأخيرة أن

يبز النمساوي «محمد أسد» في إسهامه العظيم في شرح الإسلام ونشره في الغرب

(ص ٦٥) ، ويبدو «هوفمان» أقوم منهجاً من أستاذه «أسد» الذي كان مغرقاً في

عقلانيته في مواضع عديدة من كتبه، وله هفوات وغرائب مشهورة، ولكنها لا

تقدح في إسلامه وحسن نيته رحمه الله، وما تركه من أعمال باللغة الإنجليزية تدل

على اهتمامه بالقرآن وتفسيره وبصحيح البخاري بخاصة، وقد ظلمه من شكك فيه، وكتاباته تحتاج إلى نقد علمي وليس إلى حقد، ويكفيه وصف «مراد» له وقد

أنصفه في قوله «والله أعلم» ، وأما «مراد» فما سبق من تزكية لكتابه فقد كان

ذلك في العموم، ولكنه لم يسلم من هنات في فهمه للدين الإسلامي ولبعض أحكامه،

وقد أشار ودل قوله في مواضع من كتابه على عدم وضوح في الفهم، مثال ذلك

قوله عن الجهاد «إنه لا يعدو في أصله أن يكون جهاداً معنوياً» (ص ١٧٦) ،

وكلام له عن الحقيقة الأرحب في نص موهم (ص ١٢١) .

وأمثال هذه الكلمة مما يروغ عن التحديد العلمي، أو تغلب عليه نفسية

الاعتذار في بعض المواقع، والحديث عن فكره وبقية آرائه العقائدية والسلوكية

مكانه في دراسة عن كتابه «الإسلام كبديل» الذي خرج بعد هذا الكتاب مدار

حديثنا.

لقد أحسنت يا «مراد» كتابة مذكراتك الإسلامية، ونرجو أن نقرأ قريباً

مذكرات أخرى لأفواج من المثقفين وعلماء اللاهوت الذين يسلمون ما بين وقت

وأخر، وقد لاحظ المؤلف عن وعي جوع الغربيين للإسلام، ولكن عدم وجود قدوة، حيث لم يسمح للغربيين أن يسلموا، وهم يبحثون عن دليل مادي عن قدوة

يتبعونها، وأوضاع الفقر والجهل والخوف والفساد والخصام لا تسمح لأحد أن

يتبعها إلا قلة ممن يفضلون موقف النبل، يقول المؤلف: «ومن ثم فقد فضلت

موقف النبل المتواضع على موقف الكبرياء الغبي الذي يتخذه اللاأدريون المفترض

فيهم الجرأة والاكتفاء الذاتي، والذين غالباً ما يعيشون في عزلة نفسية جليدية

وضيقة، وبكامل وعيي أسلمت نفسي وفكري لمن هو أكبر من كل كبير» الله أكبر

كبيراً « [١] (ص ١٢١) .

لقد كان» مراد «شجاعاً وجريئاً عندما عرض على مؤتمر الناتو لمديري

الإعلام بوزارات الدفاع عام ١٩٨٤ م في» بروكسل «: أن الإسلام فيه حل

لمشكلاتهم الدينية والأخلاقية، وتساءل الحاضرون وهمسوا: هل رئيس المؤتمر

جاد فيما يقول أم يمزح؟ !

وأقام لقاءات ومناقشات في الجامعات والتلفزيون الألماني يدعو فيها إلى

الإسلام ويصرح بقناعاته، وفي المؤتمرات الدولية التي يرأسها يخبر معدي الطعام

مسبقاً بدينه، ويحضرون له طعامه وموقعه على مائدة ليس فيه خمر ولا خنزير،

ويتعجب من أحد أثرياء العرب وقد دعاه إلى الخمر فقال له» مراد «:» وأين ...

الله؟ ! «فرد عليه العربي الذي قال له من قبل إنه من ذرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال العربي الثري وهو سكران:» لقد تركت الله في ...

المطار! ! « [٢] ، لقد تجاوز» هوفمان «هذه العقبات والسلوكيات التي تمنع ... غيرنا من قبول ديننا والتي صنعت حاجزاً بينهم وبين الإسلام، إن الذين يتعاملون مع الغربيين من المسلمين كثيراً ما يكونون نماذج مكروهة ومنفرة عن الإسلام، بتهتكها وخلاعتها وانعدام أخلاقياتها، حتى كان لسان حال الذين ناقشوه يقول:» ليس غبياً ومع ذلك مسلم « (ص ١٧٥) . لقد وصم المتغربون الإسلام

بما يليق بهم.

مذكرات (هوفمان) كتاب يناسب عامة المثقفين وتحتاجه جداً طائفة المثقفين

المخدوعين أو الذين استولت عليهم أوهام العالم النصراني القوي مادياً الذي أفقدنا

بريقه ولمعانه القدرة على رؤية الحق الذي عندنا، إنه نقاش ثقافي يعالج قضية

المتطرفين من النصارى في الغرب، ويعالج مشكلة المتطرفين للنصارى إلى درجة

التشنج في العالم الإسلامي.


(*) صدرت ترجمتها باسم (يوميات ألماني مسلم) ، ترجمة عباس رشدي العماري، طبع بمركز الأهرام للترجمة والنشر، ١٩٩٣ م، ويقع الكتاب في (٢٣٨) صفحة.
(١) أشار هوفمان إلى قسيسين فرنسيين أسلما مؤخراً (ص ٢٢٤) وإلى قسيس ألماني سوى من سبق ذكره كان يقول: إذا اختلف الإنجيل والقرآن فالقرآن أوثق وهو مقدم.
(٢) (ص ١٣٥) من كتاب الإسلام كبديل.