للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

«قضية الآخر»

في كتابات المثقفين العرب

د. محمد يحيى

أصبحت قضية ما يسمى «بالآخر» تشغل حيّزاً واضحاً في الطروحات

الثقافية على الساحة العربية في الآونة الأخيرة، لاسيما في مجال مواجهة الفكر

الإسلامي ونقده، حيث توجه تهمة رئيسة الآن إلى هذا الفكر بأنه لا يعترف بالآخر، ولا يفقه التعامل معه، بل لا يضع قضية الآخر برمتها في الحسبان ويرمى الفكر

الإسلامي بهذه التهمة من قِبَل رموز العلمانية على امتداد ساحة العالم العربي الفكرية، كما تبنى على هذه التهمة اتهامات فرعية، تتعلق بدعوى ضيق الأفق، والانغلاق، والتعصب وما شابه ذلك وتقترن بهذه القضية أو هذا الطرح مسائل أخرى،

أصبحت مشهورة ثقافياً في الفترة الأخيرة كقضية التعددية، والتفاعل الفكري

الحضاري، وإسقاط مفهوم الهوية والذاتية، وتجنب الحديث عن الغزو الفكري

والثقافي، باعتبار أن كل هذه المسائل تعالج قضية الآخر وتحلها، وفي الوقت نفسه

ينشغل بعض المثقفين الإسلاميين بالرد على الطروحات الدائرة في فلك قضية

الآخر، بتوضيح انفتاحية الإسلام، وقدرته على التواصل الحضاري،

وسماحته الدينية، وعدم تبنيه مفاهيم ضيقة حول الهوية، والذات ... الخ.

ولكن في خضم هذه الطروحات والطروحات المضادة، تغيب حقائق

واعتبارات مهمة يغفلها عمداً أو سهواً من أتوا بقضية الآخر إلى الساحة الفكرية كما

إن عدم تعرض من يتصدون بالرد من الجانب الإسلامي لها يضعف من فاعلية

دورهم ويجعلها أشبه بالضربات المضادة «الروتينية» التي توجه في لعبة كرة

المضرب حتى تستقر الأمور إلى أن يتناول الطرفان الكرة في رتابة، حتى يسجل

أحدهما نقطة، ثم تعود المباراة إلى وتيرتها، حتى يسجل الآخر نقطة.. وهكذا،

ومثلما هي الحال في كثير من القضايا الثقافية المطروحة، ولاسيما في مجال

المواجهة بين الإسلام والفكر العلماني، فإن المطلوب هو كسر حلقة الرتابة في

طرح القضية وإدارتها بدلاً من الاندماج الطوعي غير الواعي في داخل هذه الحلقة، مما ينتهي إلى العقم، وعدم الجدوى حيث يسجل الطرفان النقاط كل أمام جمهوره، ويفوز أحدهما في النهاية لكي يواجه الهزيمة في المباراة أو القضية التالية.

المطلوب إذن هو الخروج من دائرة التبادل الرتيب للحجج والحجج المضادة داخل

حلقة المباراة القضية المطروحة إلى فحص وكشف قواعد المباراة، ومن الذي

فرض هذه المباراة القضية وحدد أطرها الفكرية؟ ! والمطلوب أيضاً تسليط الضوء

على هذه الأمور الواقعة خارج إطار ساحة اللعب؛ لأن ذلك أكثر فائدة لفهم القضايا، والتعامل معها، وكذلك للعلم والوعي بحقيقتها، وهذا هو المطلوب تجاه قضية

«الآخر» برمتها.

لعل أول الأسئلة التي ينبغي أن توضع في هذا السياق هو: من الذي يطرح

قضية الآخر؟ وهو سؤال يفتح الباب لأسئلة حيوية أخرى مثل: ما هو هدف

إدراج هذه القضية؟ ، وهل تطرح هذه القضية بهدف ثقافي محض هو المعرفة

المجردة؟ أم تطرح بهدف سياسي/ثقافي هو توجيه ضربة، أو إثارة عقبة أمام تيار

خصم؟ .. هناك سؤال أخطر حول ما الذي يعنيه بالضبط من يطلقون مصطلح

«الآخر» ؟ وما هي أبعاد القضية وما هي المصطلحات المتصلة بها؟ .. هذه هي الأسئلة التي يجب أن تطرح قبل الإجابات والحجج والأسانيد التي تثبت أن الإسلام يعترف بالآخر، ويتعامل معه ويتفاعل ويفكر.

إن مفهوم أو مسألة «الآخر» تستند أساساً إلى تراث أوروبي فكري وفلسفي

بعيد الغور وطويل التاريخ، فهو متأصل مثلاً في النزعة «الإنسانية» أو بالأصح

الفردية، التي غلبت على الفكر الغربي فيما يسمى عصر النهضة وما تلاه من

عصور فلسفية، حيث تضخم إحساس الإنسان الفرد بذاته وشخصيته وكيانه

ومشاعره ورغباته وتطوره ومصالحه، إلى حد أصبح معه هو وليس الرب أو الإله

أو الأمة أو المجموع البشري محور التفكير والهم الأول والأسبق، وإزاء هذا

التضخم والمحورية للذات المفردة، وتحولها إلى عالم واسع من الأفكار والمشاعر

والرغبات والمصالح تدور حول نفسها في أنانية طاغية أصبح «الآخر» وهو

الأفراد، أو الكيانات، أو الذوات الأخرى مشكلة أو قضية تفرض نفسها من حيث

كيفية التعامل مع هؤلاء، وتحقيق الذات في مواجهتهم أو على الأقل بتنسيق معهم،

أو دون الدخول في صراع معهم، أو بالدخول في صراع معهم والفوز في هذا

الصراع.. باختصار شديد فإن قضية الآخر نشأت فقط في ظل تضخم وتمدد

الإحساس «بالأنا» المفردة، أو بالذات والكيان والشخصية الفردية إلى حد أصبح

معه إيجاد مجال لما هو خارج الفرد أو لما هو غير الذات مشكلة تتطلب الحل،

وتتطلب التفكير في أبعادها ومضامينها.

النزعة الفردية الغربية المسماة أحياناً أو في أصلها «بالإنسانية» هي الرحم

الأول الذي ظهرت فيه قضية الآخر، والتي ظهرت تجلياتها تباعاً في الفلسفات

والمذاهب الفكرية الغربية المختلفة حتى العصر الحالي، ففي فلسفة هيجل المنطقية، وفي مفهوم الحد والذات غير المطلقة في كلامه عن النفس والروح والتاريخ

يصبح الآخر ضرورة حتمية تلازم الذات المفردة، وتحتم عليها التعامل معها، وإذا

كانت الذات والآخر هنا أفراداً أو مفاهيم، فإن الذات والآخر في فلسفته عن التاريخ

تصبح أمماً وجماعات ودولاً يجري التصارع والتناقض بينها على هذه الأسس، وقد

انعكس هذا المفهوم الهيجلي عن الذات والآخر على أفكار ومذاهب سياسية وقانونية

كثيرة طيلة القرن التاسع عشر والعشرين، رأت في غلبة الأنا، وإطلاقها بالتغلب

على الآخر، أو استيعابه من خلال «الجدلية» الهيجلية المشهورة، الحل الأكيد،

والهدف الأسمى الذي تسعى إليه.

والفلسفة النفعية الإنجليزية الشهيرة في منتصف القرن التاسع عشر، وما

تمخض عنها بعد ذلك من مذاهب في علم النفس والاجتماع والسياسة، وقبل كل

ذلك في الأخلاق والسلوكيات، قدمت هي الأخرى طرحها الخاص لقضية «الآخر» ، أو «الأنا» التي لا يشغلها شيء سوى «حساب اللذة» والحصول عليها

بأعظم درجة، حيث تصبح المشكلة هنا هي كيفية إجراء هذا الحساب للذة والتعظيم

للفرد وللأنا في وجه الآخر، أو بالتنسيق معه وحيث تصبح المشكلة الكبرى في هذا

المذهب وما تفرع عنه من مذاهب ليبرالية وبراجماتية، هي تحقيق مصالح ولذات

وسعادة الأفراد والذوات المادية داخل مجتمع مكون من «ذوات» فردية متضخمة

الإحساس بكياناتها، وكل منها هو «الأنا» لنفسه و «الآخر» بالنسبة لغيره،

وتظهر قضية الآخر في مباحث الإدراك المعرفي عند (الظواهرية) في مطلع القرن

العشرين حيث رأت هذه الفلسفة أن عملية اكتساب المعرفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً

بذات العارف الفردية، التي تسعى لاستكشاف الآخر المعرفي أو النفسي أو

الشخصي، وكذلك تظهر قضية الآخر في بعض الفلسفات الوجودية، ولاسيما في

فلسفة (سارتر) ومن لف لفه من الفلاسفة الفرنسيين والأمريكيين وغيرهم، وهي

تظهر هنا على المستوى الفردي البحت حيث يكون هدف الذات المفردة هو «

تحقيق الذات» في إطار يكون فيه «الجحيم هو الآخرون» وفق عبارة (سارتر)

المشهورة والتي ترى في الآخر (الغريب) الذي ينبغي الدخول في علاقة ما معه،

ولكن فقط في إطار أو سياق تحقيق الأنا لذاتها.

وأخيراً وعلى مدى العقدين الماضيين تبرز قضية «الآخر» في الفكر

الأوروبي الثقافي بعامة، وعلى كل المستويات الفلسفية والاجتماعية وحتى «

الأنثروبولوجية» لتعالج قضية الحضارة الغربية في مواجهة المشكلات المترتبة

على العهد الاستعماري القديم والإمبريالي الجديد من تعاملات مع شعوب وثقافات ما

يسمى بالعالم الثالث، ومع الأقليات الكبيرة العرقية والدينية واللغوية والثقافية التي

نشأت داخل الدول الأوروبية ثم الأمريكية؛ بسبب عوامل عديدة كالهجرة والعلاقة

الاستعمارية، وهذا الطرح الأخير هو الذي نقله إلى الساحة الفكرية العربية عناصر

النخبة العلمانية في إطار سياستهم الدائبة في المحاكاة والنقل والاستيراد لما يروج

في ساحات الفكر الغربي، وكذلك في إطار استخدام هذه النخبة لأدوات فكرية

غربية كأسلحة في حرب المواجهة مع الإسلام ومنهجه.

والخلاصة هي أن مسألة «الآخر» لا تقوم بل ولا يكون لها معنى إلا في

ظل حالة من تضخم الشعور بالأنا أو بالذات الفردية أو الجمعية أو المعنوية إلى حد

تصبح معه علاقاتها مع أي كيان خارجها (الآخر) سواء أكان فردياً أو جمعياً مشكلة ...

من حيث أنه قد يعرقل، أو يحد من أهم وقائع هذه الأنا أو الذات في تحقيق نفسها

بالمعنى الشامل معنوياً أو مادياً، مما يستتبع أن يكون هناك مشكلة «الآخر» ، وقد

تفرقت أنواع الحلول والاتجاهات الغربية في مشكلة الآخر بين ما سمي «بنفي

الآخر» أو سحقه والقضاء عليه (وهذا في حالات الصراع بين القوميات، وبين

الثقافة الاستعمارية النصرانية العلمانية والثقافات المستعمرة) ، وبين محاولات

الحوار والاستيعاب بالتعددية على درجات داخل كيان موحد أوسع ... الخ.

* * * * *

إن المشكلة الحقيقية مع قضية «الآخر» تختلف عن المشكلة التي تواجهنا

نحن المسلمين مع قضايا فكرية أخرى فرضتها النخبة المتغربة: كقضية العلمانية،

ففي هذه القضايا تكون المشكلة الأولية هي كون هذه القضايا غربية المنشأ أي أنها

قضايا تتصل اتصالاً عضوياً لا ينفصم بالسياق الحضاري والثقافي والسياسي

والاجتماعي للتجربة التاريخية الأوربية، حيث إن انتزاعها من هذا السياق

وتحويلها إلى مجرد مبادئ نظرية عامة مجردة ذات انطباقية عمومية يصبح هو

المشكلة الأولى التي يتحتم مواجهتها وكشفها قبل الدخول في مناقشات أخرى لتلك

القضايا، أما بالنسبة لقضية «الآخر» ومع التأكيد أيضاً على خصوصيتها الثقافية

السياقية الأوروبية فإن الوضع يختلف لأن المشكلة الأولية التي تواجهنا معها هي في

تطبيقها، وإدخالها بشكل معكوس من قبل أصوات النخبة العلمانية.

لقد قلنا: إن قضية الآخر تنشأ أو قد نشأت في ظروف كان فيها تضخم الذات

أو الأنا بمستوياتها المختلفة وأشكالها المتنوعة فردي، أو ثقافي أو سياسي/اجتماعي

يصل إلى حد هائل، يتحتم معه معالجة وضع «الآخر» بمستوياته وأشكاله

المختلفة في إطار عملية تحقيق الأنا لذاتها، هذا هو السياق الذي ظهرت فيه قضية

الآخر في الغرب داخل الإطار الفردي العام للحضارة هناك، وداخل فلسفاتها من

الهيجلية إلى النفعية إلى الليبرالية إلى الوجودية إلى فلسفات الثقافة والمعرفة والنقد

الحضاري والأنثروبولوجيا، ولكن عند نقل هذه القضية إلى الساحة الثقافية العربية

نلاحظ أنها تحولت من قضية ذات أبعاد فلسفية/اجتماعية متعددة، وذات منظور

واسع عميق، إلى مجرد تهمة توجه ضد خصم ثقافي على سبيل تشويه صورته،

ولفتح الباب أمام توجيه اتهامات أخرى له تشبه السباب الدارج، ولا تخلو من

مسحات الغلو والعصبية كاتهامات التعصب والانغلاق وما أشبه ذلك.

إلا أن الوضع المعكوس الذي أشرت إليه يتجلى في أن تهمة العداء للآخر

توجه إلى الذات، أوالأنا أو الهوية أو الكيان الإسلامي في وقت هو فيه في أشد

حالات الضعف والهزال والتراجع، بل وفقدان الوعي والتماسك، بحيث إن قضيته

الحقيقية ليست في حل مشكلة الآخر، بل في مجرد ضمان استمرارية ذاتيته وكيانه

هو. نحن لسنا أمام ذاتية فردية أو جماعية تعاني من التضخم والغرور والتوسع

والابتلاع والاستعلاء المجنون، كما كانت الحال مع الذاتية الفردية أو الجمعية في

عصور النهضة والكشوف الجغرافية وإحياء العلوم الفلسفية والطبيعية، ثم عهود ما

سمي بالتنوير والفتوح الاستعمارية وتكوين الامبراطوريات والدول القومية الكبرى،

وما صاحب ذلك كله من تأليه للفرد والذات وإخضاع كل شيء من دين وقيم

وشعوب أخرى لهما وجمعها فيهما، بل نحن عندما نتحدث عن الذاتية الإسلامية

فردية أو جمعية في الفترة الراهنة نتحدث عن ذاتية هي في حالة من الضعف

والخمول لأسباب عديدة تاريخية وفعلية ليس هنا مجال الحديث عنها بحيث بات

يخشى عليها أن تفقد وجودها نفسه وبالتحديد من جراء سطوة هذا «الآخر» الذي

يجري الحديث عنه كما لو كان هو المهدد من جانب الذات الإسلامية، نحن لسنا

أمام ذات جامحة طامحة، متوسعة، عدوانية، شرسة، نهمة تمضي لاستعمار الدنيا، بحيث يصح أن ترفع في وجهها دعوات الحفاظ على «الآخر» من عدوانها

واجتياحها، وبحيث يصح أن تحذر من الدوس على هذا الآخر بالأقدام، والقضاء

عليه ونفيه، أو على الأقل مناصبته العداء.

إن الذات الإسلامية التي ترفع في وجهها الآن تهمة العداء للآخر ورفضه

ليست هي الذات الأوروبية الاستعمارية التاريخية، أو الذات النظرية المصبوغة

بالنزعة الإنسانية العلمانية اللتين سعتا وتسعيان إلى محو أو إدماج أو نفي أو

استيعاب «الآخر» ، وهذه الذات لم يعرف عنها هذا النزع الإنساني الاستعماري

العلماني أو الصليبي المهدد، والنافي «للآخر» سواء أكان من ناحية تجربتها

التاريخية أو المعاصرة، أو من ناحية مكوناتها العقدية، وبصرف النظر عن هذا

وذاك فإن وضعها الحالي من التفكك وضعف الإحساس والوعي بالهوية يهددها هي

وليس الآخر بالضياع، وهذا الواقع يجعلنا نفهم التهمة الموجهة لها بالعداء «للآخر» على أنها في حقيقتها ليست تهمة مبنية على تفكير ونظر جدي متعمق في الأمور، بقدر ما هي تهمة تقوم على تشويه الصورة وتقديم الغطاء لما يتردد الآن بفجاجة

في الإعلام الغربي وغيره حول دعوى «الخطر الإسلامي الجديد» و «خطر

الأصولية الصاعد» ، وما شابه ذلك من أنواع الدعاية الإعلامية، فتهمة العداء «

للآخر» لا تكشف عن نظرة جادة لمحتوى الثقافة الإسلامية، أو لتجربة الذات

الإسلامية التاريخية والمعاصرة، وإنما هي مجرد شعار من شعارات تشويه الصورة

والدعاية السوداء، وإلا لما كان من أبسط الأخطاء أن توضع الذات المتأزمة موضع

الذات المستعلية الغربية.

إذن قضية الآخر تبدأ بداية مقلوبة عندما تطرح عندنا، وهي بداية تخالف

تماماً البداية المنطقية والمعقولة والطبيعية لها في سياقها الغربي، ويكفي أننا لسنا

أمة مُستَعْمِرَة أو عدوانية، حتى تكون لهذه القضية انطباقية علينا من ناحية تهديدنا

للآخر، كما يكفي أننا نحن الذين نتعرض لعداء الآخر ومحاولته نفينا واستعبادنا

واستبعادنا.

وهنا يطرح سؤال آخر من تلك الأسئلة التي لاحظناها فيما سبق نفسه: فمن

هو ذلك الآخر الذي يتهدده الإسلام ويتباكى عليه المتباكون؟ هل هو الغرب

بنزعاته من صليبية إلى استعمارية جديدة وقديمة إلى صهيونية وعلمانية؟ أم هو

غير المسلمين في خارج وداخل البلدان الإسلامية ومعهم النخب الحاكمة والمثقفة

(اللادينية) ؟ أم هو اليهودية العالمية والإسرائيلية؟ وهل هذا الآخر أفراد ودول، أم

أفكار ومذاهب وفلسفات، أم حركات سياسية واجتماعية ودولية، أم تيارات

اقتصادية ومادية كبرى ... الخ؟ ثم من هو الذي يتحدث عن العداء للآخر متباكياً

عليه، وقائماً على حقوقه التي يزعم تعرضها للخطر؟ إنه نخب وأقليات متغربة

ومعلمنة داخل عالمنا العربي المسلم وكأنهم بهذا الحديث المشفق على «الآخر»

يهاجمون بني جلدتهم المعترضين متهمين إياهم بالعدوانية والتوسع الاستعماري

والجهل الثقافي، وهل تكون هذه النخب والعناصر قد وضعت نفسها بذلك في زمرة

الآخر هذا، بحيث ينطبق عليها ما تقوله بعض الحركات الإسلامية من أنها انخلعت

من ربقة الدين؟

إن البداية الحقيقية للتعامل مع قضية الآخر، تكون بفهمها وفهم سياقها

الحضاري الفكري الأصلي وتتبع هوية وهدف من يطرحونها، لاسيما وهم يجعلون

من أنفسهم تابعاً لذلك الآخر الذي يتحدثون عنه، وليس جزءاً أو مكوناً من الأمة

الإسلامية التي يوجهون الاتهام إليها، ولا يمكن أن يكون هناك طرح لقضية الآخر

مع تجاهل قضية الأنا أو «الذات» أو الهوية، وهذا من طبيعة الأشياء المنطقية

لأنه إذا جاز لنا أن نتصور وفق المنطق الهيجلي مثلاً أنه لا يمكن أن توجد ذات

(غير مطلقة) بدون الآخر، فإنه في الوقت نفسه لا يمكن وجود آخر وأيضاً من

الناحية المنطقية والفعلية بدون الأنا والذات، ولذلك فعندما يصرح بعض عناصر

النخبة مثلاً من أن قضية إثبات الهوية الحضارية والعقدية هو أمر بات مرفوضاً

وبائداً، وبأنه لا يجوز الحديث عن الغزو الفكري فإن المرء يستغرب أن يصدر هذا

ممن يتحدثون في الوقت نفسه عن احترام الآخر واعتباره والتعامل معه من موقع

التفاعل، وليس العداء، إذ كيف يكون ذلك إذا كانت الأنا أو الذات (الحضارية

الدينية) التي ستقوم بذلك هي عندهم مرفوضة من موقع رفض الحديث عن الهوية

والذاتية الثقافية؟ إن وجود الهوية والأنا الثابتة الواضحة هو الشرط الأول للحديث

بعد ذلك عن الآخر وعن أي نوع من أنواع العلاقة معه، وليس هذا فحسب بل لابد

أن تكون هذه الأنا قوية صاعدة ولابد كذلك أن تكون فاعلة داخل ثقافة فردية تعلي

من شأن الذات وتجعل من تحققها أي تحقق الذات بمعنى بسطها وامتدادها في

الزمان والمكان والعمق الحضاري والفني والإشباع والقوة المادية أهم أحد أهدافها،

ولكن عندما تكون الأنا مهددة بالتفتت والضياع وعدم الوجود وعندما لا تتحقق فيها

الشروط التي توفرت في الأنا الغربية، وحتّمت طرح قضية الآخر فإن طرح هذه

القضية والإعلاء من شأنها يصبح عملاً مشبوهاً، وغير منطقي، ويحق عندئذ

توجيه تهمة مضادة من أن هذا الطرح وبالذات في شكل الاتهام هو طرح مغرض لا

يأتي لوجه الحقيقة بل لمجرد إحراج الخصم الفكري، ووضعه في موضع الدفاع

بقذفه بالاتهام وراء الآخر ليس لغرض سوى إشغاله بالرد، أو إحاطة مواقفه

بالشكوك والظنون، وفض الناس من ورائه وقبل كل شيء إجباره على اتخاذ

مواقف يرحب فيها بالأفكار والمذاهب المخالفة وإلا تعرض لتهمة أنه ينفي الآخر

ويعاديه.

ولا يمكن كذلك طرح قضية الآخر بإلحاح وخطورة وفي شكل الاتهام الحاد في

ظل وضع تتعرض فيه الذات أو الأنا أو الهوية إلى عدوان مستمر وشرس من

جانب ذلك الآخر ضد كل مظاهرها، سواء أتخذ هذا العدوان شكل الغزو الفكري،

أو الاجتياح الإعلامي أو الهيمنة السياسية والاقتصادية أو الهجوم العسكري المباشر، أو حتى الإبادة والإفناء، كما يحدث الآن على امتداد ساحة العالم الإسلامي.

إن الآخر هو الذي ينبغي أن يوجه إليه النصح والتحذير بأن ينهي عداءه

ونفيه للأنا (وهي تعتبر الآخر بالنسبة له) قبل أن توجه للأنا الضعيفة والمحاصرة

تهمة العداء للآخر، والحق أن طرح تهمة العداء للآخر بهذا الشكل المعكوس يكشف

غرضاً آخر من أغراض الإلحاح عليها من جانب النخبة ألا وهو الإرهاب الفكري

وتمييع المواقف الإسلامية، فتحت شعار التفاعل والتقارب مع الآخر والتعرف عليه

يجري الإلحاح على كبت وإسكات العديد من المواقف والأحكام الشرعية بحجة أنها

تعادي الآخر، وتعوق التعامل معه، وتشعره بالحرج وحتى تشوه صورة الإسلام

لديه، ومنها قضايا الجهاد والحكم الإسلامي ورفض الربا، وأحكام المرأة والأسرة،

بل وحتى الموقف الشرعي من عقائد النصارى، وسلوك اليهود.

وبنظرة فاحصة إلى الواقع نجد أن الطرح الفعلي لقضية الآخر في عدد من

البلدان العربية، قد فرض بالفعل من أجل هذا الهدف دون غيره، حيث يقال من

جانب عناصر النخب العلمانية: إن الطروحات الإسلامية في المجال السياسي

والاجتماعي ينبغي تغييرها لأنها تسئ إلى الآخر وهو هنا الغرب والدوائر السائرة

في ركابه وهكذا يصبح مفهوم الآخر هنا ذا طبيعة قمعية واضحة فالآخر هو الكيان

الحضاري المخالف الذي تصبح للعلاقة معه أولوية قصوى تفوق حتى أولوية أن

يكون للذات أو للأنا وجود مستقل، أو أن يكون لها حوار مع نفسها هي أولاً. إن

الآخر وفق هذا المفهوم يصبح هو الكيان الأكثر أهمية من الذات التي يتحتم أن

تضحي بنفسها، أو تعدل من طبيعتها؛ لكي تتوافق معه وتندمج فيه ولا تغضبه! !

وهكذا تنقلب قضية العداء للآخر من معناها الظاهر إلى النقيض، فالمطلوب ليس

تخفيف الغلواء ضد الآخر، بل الاندماج فيه تدريجياً، والتوافق معه تحت شعار

إقامة العلاقة معه والتكيف والتفاعل في ظروف تكون فيها الذات الحضارية ضعيفة، ويكون الآخر عدوانياً متوسعاً ولا يقبل بأقل من الاستيعاب والهضم، وليس غريباً

والأمر كذلك أن يتوافق طرح قضية الآخر مع فرض ما يسمى بالنظام العالمي

الجديد، كأحدث طروحات الغرب لتحقيق الهيمنة العالمية على كل الأصعدة.

إن تعاملنا مع القضايا الفكرية التي تطرح ينبغي أن يسير على الخطوط التي

سعينا إلى رسمها هنا من التعمق في الخلفيات والأهداف المرغوبة، وحقيقة المفاهيم

المطروحة والسياقات الحاكمة بدل الانشغال بتبادلات سطحية للحجج لا تغني ولا

تفيد.