للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هموم ثقافية

التنمية في المجتمع الإسلامي

بين الأصالة والمعاصرة

د. خلف خلاف الشاذلي

تُعرّف التنمية بأنها عملية تهدف إلى رفع مستوى معيشة أفراد مجتمع معين

على المدى الطويل، معتمدة بالدرجة الأولى على الإمكانيات الذاتية لهذا المجتمع،

مع تقدير واع للعوامل الخارجية، وذلك عن طريق دعم مقدرة المجتمع على القيام

بوظائفه الإنتاجية، وتحقيق أفضل استثمار لإمكانياتها المحلية.

ولقد انبهرت الدول النامية، ومنها الدول العربية والإسلامية بالتجربة الغربية

في التنمية، وما حققته هذه التجربة من إنجازات سريعة، ومن ثم فإنها رأت

ضرورة أن تحذو حذو هذه الدول إذا ما أرادت تحقيق التنمية المرجوة وظلت تعتقد

في صلاحية النماذج والنظريات الغربية لفترة طويلة، لتكتشف في آخر الأمر أن

النماذج التنموية الخارجية، شرقية أكانت أو غربية، لم تكن تهدف إلى خدمة هذه

المجتمعات، ومنها المجتمع العربي المسلم، بقدر ما كانت تهدف إلى استمرار

استنزاف تلك المجتمعات، وتؤكد تبعيتها لتلك الدول الأجنبية.

وأمام انهيار مصداقية عمومية وثبات النماذج التنموية والنظريات الغربية

وعدم تمتعها بالقدسية من ناحية، والأزمات التي أخذت تتعرض لها عمليات التنمية

في بعض الدول ذاتها التي أخذت تطبق تلك النماذج لسنوات طويلة من ناحية أخرى، بات من المؤكد عدم وجود نموذج للتنمية معد سلفاً في جملته وتفاصيله يصلح لكل

الأزمنة ولكل المجتمعات، وذلك أن التنمية عملية مجتمعية تخضع لظروف كل

مجتمع وخصائصه المميزة.

وقد ركزت استراتيجيات ومداخل التنمية في معظم الدول النامية، ومنها

الدول العربية، على أهمية التحول من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث وكان

الاتجاه السائد في هذه الدول قائماً على محاكاة النموذج الغربي في التنمية دون فهم

لأسس بناء هذه النماذج، ومدى ملاءمتها للواقع والظروف الموضوعية التي تعيشها

هذه المجتمعات.

وتبلورت على الساحة الفكرية في مجتمعنا المسلم تيارات ثلاثة هي:

١- تيار التغريب الذي انبهر أنصاره بالغرب، وتبنوا الدعوة إلى ضرورة أن

نصبح غربيين في كل شيء، وراحوا يدافعون عن قيمة الثقافة الغربية بل والتغني

بصلاحيتها، وفي الوقت نفسه ينظرون إلى الثقافة الأصيلة على أنها «موضة»

قديمة لم يعد لها قيمة جمالية، على الرغم من أنه كثيراً ما تعود «الموضة»

القديمة لتصبح «موضة» جديدة في حقبة تالية.

٢- تيار الرفض لكل جديد أياً كان، تحت تأثير العصبية للموروث، وذلك

من خلال العمل على إحياء التراث والتمسك به لضمان الوجود المتميز والمستقل.

٣- أما التيار الثالث، فهو تيار الوسط، الذي يرفض أنصاره التقليد الأعمى

والنقل الحرفي عن الحضارة الغربية، وفي الوقت نفسه يرفضون الجمود والانغلاق.

ويقوم منهج هذا التيار على المزج بين القديم والحديث، أو بين الأصالة

والمعاصرة: أصالة عصر ازدهار الحضارة الإسلامية والمعاصرة التي يحكمها

واقع الأمة، والاستفادة من حضارات الآخرين، استفادة الراشد الذي يُميز بين ما

يتسق مع تميزه الحضاري، وبين ما يؤدي إلى طمس الهوية الحضارية وانطلاقاً

من الثقة بقدرة هذا التراث على استيعاب معطيات الحديث من ناحية والتفاعل معه

من ناحية أخرى.

وفي هذا الإطار طرحت قضية الأصالة والمعاصرة نفسها على بساط البحث

والمناقشة، وترددت أسئلة كثيرة في هذا الشأن، وتعددت حيث إن كلاً من الأصالة

والمعاصرة تظلان مفهومين محايدين حتى تصبحان إطاراً مرجعياً للتنمية في مجتمع

من المجتمعات، فبينما تشير الأصالة إلى الارتباط بالتراث المحلي، نجد أن مفهوم

المعاصرة يشير إلى الارتباط بمناهج عصر الصناعة ومنجزاته.

... وعموماً فإن مفهوم التحديث يرتبط بفكرة الصياغة الغربية للثقافات

المحلية دون اعتبار لمضامين تلك الثقافات، وهو بذلك يعتبر مفهوماً منحازاً لثقافة

المجتمع الغربي.

مخاطر التحديث:

تقوم فكرة التحديث على إحلال الثقافة، والنظم الاجتماعية والاقتصادية

الغربية محل الثقافة والنظم الأصيلة، وقد سيطرت توجهات التحديث على معظم

سياسات التنمية، في الدول النامية، ومنها المجتمع العربي الإسلامي باعتباره في

زعمهم الحل الوحيد والأمثل لمشكلات التخلف، وهو تفسير عنصري وقاصر

للتخلف، ويغفل جانباً كبيراً من الأسباب الحقيقية للتخلف وأخذت عمليات التحديث

تمتد إلى جميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بل والتربوية والثقافية

أيضاً، لتأخذ شكل الغربية أو التغريب.

والتحديث على النمط الغربي علاوة على ما فيه من مخاطر على الدين هو

كارثة في شؤون الدنيا، حيث يجعل من المجتمع العربي الإسلامي مجتمعاً هامشياً،

ويُكرس من تبعيته للخارج، وتلك هي الغزوة الاستعمارية الحديثة فلقد أصبحت

عملية التنمية من خلال محاكاة النموذج الغربي بمثابة أداة لنقل ثقافة المجتمعات

الصناعية المتقدمة إلى المجتمعات الأقل تقدماً، مؤدية بذلك نفس الدور الذي سبق

وأن أدته أيدلوجية التقدم في القرن التاسع عشر في كل من أمريكا اللاتينية وبعض

دول الشرق الأوسط وإفريقيا، عندما حاولت هذه الدول تبني أساليب وسياسات

اقتصادية تهدف إلى تحقيق نمو اقتصادي، متجاهلة بذلك الموروثات الثقافية

والتراث الحضاري القائم.

* إنه في ظل التحديث، على النموذج الغربي، قد يصبح المجتمع متقدماً من

ناحية استهلاكه للسلع والخدمات، دون أن يتحول إلى مجتمع متقدم من الناحية

الإنتاجية، ويؤدي ذلك إلى الازدواجية الخطيرة على مستقبل التنمية في هذه

المجتمعات، وهي ما نراها اليوم في كثير من المجتمعات النامية، من حياة

إستهلاكية على الطراز المتقدم، وحياة إنتاجية على نمط التخلف، حيث تقدمت هذه

المجتمعات في مجال الاستهلاك، بينما تخلفت أو بقيت على حالها في مجال الإنتاج.

* إن التحديث على النموذج الغربي يشكل خطراً على الثقافة المحلية والتراث

الأصيل والأبنية الاجتماعية والاقتصادية القائمة، حيث تصبح تلك المجتمعات

أسيرة للقيم والأنساق الثقافية، وكذا الحلول التكنولوجية والأبنية الاجتماعية

والاقتصادية الدخيلة، كما أنها تصبح أيضاً أسيرة لتطلعاتها الاستهلاكية وعجزها

الإنتاجي.

* إن الدعوة إلى التطوير والتحديث، القائم على محاكاة النموذج الغربي في

التنمية، لا تعد أن تكون دعوة للاحتواء والتبعية، وتجسيداً للتشوه الحضاري الذي

يهدد مجتمعاتنا، وفقداناً للثقة بالقدرة على الابتكار والتجديد.

* إن التحديث على النموذج الغربي ينطوي على مضامين أيدلوجية، مادية

وعلمانية، ووجودية وبرجماتية، تشكل خطراً على المجتمع الإسلامي بخاصة

حيث تبدو في ظاهرها الرحمة وفي باطنها يكون العذاب.

* وأخيراً فإن قضية الفكر الهدام ليست قضية محدودة بوقت معين، ولكنها

كانت وستظل مطروحة طالما أن هناك صراعاً بين الحق والباطل، وقد يختلف

الطرح في صوره وأشكاله، ولكنه ثابت في أهدافه وغاياته والتحديث على طريقة

النموذج الغربي في التنمية إنما هو شكل آخر من أشكال الفكر الهدام.

لا للتغريب:

لم تكن المشكلة تكمن بالكامل في المداخل أو النماذج التنموية المستوردة ذاتها، والتي ربما تكون قد نجحت في الدول التي نشأت فيها، بل تمثل القصور

الأساسي في أن عمليات التحديث في مجتمعاتنا لم تكن نابعة من الواقع الاجتماعي

والثقافي الأصيل، فعلى عكس التنمية في كثير من المجتمعات الغربية، نجد أن

العوامل الأساسية التي دفعت إلى التغيير في مجتمعاتنا بدأت مع اختلال التوازن

التقليدي الأصيل، بفعل عوامل خارجية متضمنة في عملية التحديث والتحضر

والتصنيع على غرار النموذج الغربي في التنمية، وأصبحت عمليات التنمية بذلك

أسيرة عوامل خارجية غير متأصلة، حيث أخذت عمليات التحديث شكل التغريب،

وأصبحت هذه المجتمعات تسير بوعي أو بغير وعي نحو التبعية، التي طالما تسعى

هذه المجتمعات إلى التحرر من إسارها.

والحقيقة أن التبعية أصبحت تمثل واقعاً بسبب ما نحن فيه من تأخر وشقاق

فقد كنا متبوعين أيام كنا أقوياء، ونحن نتهم الغرب بأنه يجرنا إلى التبعية والحقيقة

أننا نتبعه لأننا نشعر بأننا بحاجة إلى تقدمه وعلومه، وصار أخشى ما نخشاه أن

يؤدي ذلك إلى تغلغل أشكال التبعية إلى مجتمعاتنا نتيجة النقل الحرفي، وعمليات

المحاكاة العمياء لكل ما تهب به رياح الغرب دون إمعان النظر فيما أكان هذا مناسباً

لنا أم لا.

هل نقول (لا) للمعاصرة؟ !

... لا تعني الأصالة في ارتباطها بالتراث المحلي، الجمود والتقوقع ذلك أن

التراث يضم الموروث الحضاري بأجمعه، ويحتوي على جانبين:

الأول: ثابت ويجب الحفاظ عليه، ويتضمن اللغة والدين والقيم والتنشئة

الاجتماعية، والثاني: متغير يمكن التعامل معه كجزء من الحياة الحاضرة.

فالأصالة بذلك لا تعني مطلقاً كما قد يتصور بعضهم الانغلاق على الذات في

العلوم أو التقنية التي أصبحت ضرورية، ولكنها تعني إعادة النظر في النماذج التي

لقنها الغرب تلقيناً والتعامل معها بوعي، بل ومحاولة تجاوزها بمعطيات جديدة،

ولا تعني أن ندير ظهورنا تماماً للتطور الحادث بالفعل من حولنا، ولكن تعني

الدراسة المتأنية لاختيار ما يناسبنا ويدعم الهوية الحضارية والخصوصية الثقافية

لمجتمعنا العربي الإسلامي، ويؤكد أهمية التواصل الحضاري والتاريخي بالنسبة

لهذا المجتمع.

فهل نقول الحضارة قذارة، بحجة أنها حضارة الغرب، ونغمض أعيننا تماماً

عن ما يحدث من حولنا من تطور؟ ! إن القول بنعم للمعاصرة يعني التفاعل مع

الحضارة ويعني أيضا الحرص على امتلاك القوة بكل الصور، وهذا أمر مهم

لإقرار الحق والعدل في الكون، وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، فالحق يحتاج إلى

قوة تحميه وتفرضه. وحضارة اليوم هي حضارة مادية بكل المقاييس، تقوم

بالدرجة الأولى على العلم التجريبي.

وعلينا باعتبارنا مجتمعاً إسلامياً أن نأخذ بناصية العلم الذي هو السبيل إلى

امتلاك عوامل القوة المادية، وبخاصة تلك العلوم التي تتجاوز الحدود الدولية التي

ليست حكراً على مجتمع بعينه، وهي تلك العلوم الطبيعية التي تتعلق بدراسة المادة

وخواصها، وقد أخذ الغرب نفسه الكثير من النظريات العلمية عن العرب

والمسلمين الأوائل أمثال: ابن الهيثم والرازي ... فلماذا لا نأخذ عنهم في هذا

المجال؟ ! ذلك أن التقنية في حد ذاتها ليست موجبة أو سالبة، ولكن طبيعة

المجتمع ومدي تماسك مؤسساته هما العاملان اللذان يجعلانها سالبة أو موجبة في

تأثيرها، ومن ثم فإن الحل لا يكون عن طريق الانغلاق على الذات، ولكن يكون

عن طريق العمل على سد الثغرات ونقاط الضعف التي قد تظهر في المؤسسات

الاجتماعية والتي تفرزها التقنية الحديثة أو الانفتاح على العالم الخارجي.