للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

واجبنا في زمن الانهزام

د. محمد بن عبد الله الشباني

تمر الأمة الإسلامية في هذا العصر بمرحلة من الذُل والهزيمة لم تبلغها في أي

حقبة من حقب التاريخ الإسلامي، فقد اجتمعت قوى الشر من يهود ونصارى فرمت

بسهامها عن قوس واحدة، فأصابت الأمة في مَقاتل عدة، ومن أهم المَقاتل التي

أصابت الأمة التخلخل والنكوص والانهزام والاستسلام لرغبات العدو والإذعان

بتنفيذ أوامره، فأصبحت الأمة لا تملك من أمرها شيئاً.

إن الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام قد تعطل، بل إن الدعوة إليه أصبحت

أمراً نشازاً، وأصبحت الدعوة إلى الاستسلام للأعداء بكل ما يطلبونه هي النغمة

السائدة التي يتولى الإعلام غرسها وتثبيتها والتأكيد على أنها الطريق الأفضل لأخذ

الحقوق، فلا جدوى لما عداها من وسائل للحصول على الحقوق، كما أنها الركيزة

التي يقوم عليها البناء السياسي في العالم الإسلامي وتتولى القيادات السياسية تنفيذها

بحماسة وجدية.

إن السؤال الذي ينبغي طرحه ومناقشته هو: ما دور الفرد المسلم في مجابهة

هذا الواقع المؤلم؟ وكيف يمكن للفرد المسلم المجرد من جميع القوى المساندة

ممارسة دور فاعل ومؤثر في مقاومة هذه الغارة التي تعددت أشكالها وأنواعها؟

وهل يمكن للفرد أن يمارس دوراً مؤثراً في ظل هذا الواقع؟ وكيف لهذا الفرد أن

يمارس دوره الجهادي؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة ترتبط بمدى فهم الفرد المسلم لأهمية دوره في

إحداث التغيير في المجتمع، وإن الدور السلبي الذي يمارسه كل فرد من أفراد

المسلمين إنما يعود في أساسه إلى الجهل المطلق لما يوجبه الإسلام على المسلم من

مسؤولية تجاه مجتمعه.

لقد وردت أحاديث كثيرة تحدد دور الفرد في المجتمع المسلم، وترتبط معرفة

هذا الدور بفهم هذه الأحاديث وربطها بالواقع، فمن تلك الأحاديث التي حددت دور

الفرد في المجتمع ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- وقف على ناس جلوس فقال: (ألا أخبركم بخيركم من شركم، قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا وشرنا، قال: خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره) [١] ، وما رواه البخاري في الأدب المفرد

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المؤمن

مرآة أخيه والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضعفه ويحوطه من ورائه) [٢] وما رواه

ابن حبّان والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه

الناس على دمائهم وأموالهم) [٣] .

إن المعنى العام لهذه الأحاديث يؤكد أن دور الفرد المسلم دور إيجابي يتفاعل

مع قضايا المسلمين، ويكون عوناً للمسلمين، فيعمل بكل جهده على تقوية ومساندة

إخوانه ممن يعانون الظلم والاضطهاد من الأعداء، فعلى المسلم أن يؤمن شره عن

المسلمين، وأن يحوط إخوانه، ويكف يده عن مساعدة أعدائهم وكف اللسان واليد

يأخذ أشكالاً عدة إذا أحسنَ استعمالها، فإن تأثيرها على الأعداء كبير كما إنها نصرة

للمسلمين. والسؤال هنا: كيف يمكن للمسلم أن يمارس هذا الدور المؤثر لصالح

المسلمين في هذا العصر الذي أصبحت المناصرة الجهادية باليد والمال محظورة،

وباللسان ممنوعة في معظم الأقطار؟ !

إن الفرد المسلم الواعي قادر على ممارسة دوره الجهادي إذا استشعر

المسؤولية تجاه أمته، وعزم على أن يُمارس دوره الفردي مجرداً من كل أنواع

القدرة على المجابهة، وإن أول خطوة لممارسة هذا الدور تتمثل في معرفة أعداء

الأمة الذين يحملون الحقد والضغينة على المسلمين وعلى الإسلام، إن هذه المعرفة

وتعمقها في نفس الفرد تمثل الخطوة الأولى في المجابهة، ولهذا نجد أن من ركائز

الإيمان الولاء والبراء، ومن رحمة الله بالمسلمين أنه لم يدع أمر اكتشاف أعدائهم

لقدراتهم، ولكنه سبحانه أوضح أولئك الأعداء بجلاء ووضوح لا لبس فيهما، فقد

أشار القرآن الكريم إلى ذلك بصريح العبارة في قوله تعالى: [لتجدن أشد الناس

عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا] [٤] ، وقوله تعالى: [ولن ترضى عنك

اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] [٥] ، وقوله تعالى: [ود كثير من أهل

الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراْ] [٦] ، فاليهود وأنصارهم من النصارى

الذين تتركز قوتهم المعاصرة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا ودول أوروبا في

الغالب، هم الأعداء الذين حذر الرسول منهم، والذين ينبغي على كل فرد مسلم أن

يَحذرهم على أساس أنهم أعداء لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، إن التاريخ القديم

والمعاصر أكبر شاهد على ذلك، بل إن المصائب المعاصرة التي حلت بالمسلمين

من احتلال لأراضيهم، وانتهاك لحرماتهم ونهب لخيراتهم، ومساندة لأعدائهم من

اليهود والوثنيين من الهندوس والسيخ، والسعي بكل جهد على إيجاد الظروف

السياسية والاقتصادية المعيقة لانعتاق بلاد المسلمين من قبضتهم من خلال التمكين

للمنافقين والمرتدين من العلمانيين والمستغربين والانتهازيين بتسلم زمام الأمور في

البلاد الإسلامية، والعمل على القضاء على أي توجه شعبي للعودة إلى منابع القوة

للأمة الإسلامية من خلال محاربة القيادات السياسية والفكرية ذات التوجه الإسلامي، التي تطالب بأن يكون شرع الله هو الحاكم والموجه لشؤون الحياة لاشك أن لهم

دوراً فيه.

إن هذا الواقع السيىء للأمة أدى إلى بروز ظاهرة الانهزام والشعور بالعجز

عن مقاومة الهجمة الصليبية اليهودية والوثنية من الهندوس وغيرهم.

إن الفرد المسلم يستطيع لو تم إنماء الوعي الإيماني لديه أن يمارس دوراً

فاعلاً ومؤثراً لصالح المسلمين من خلال الجهاد الاقتصادي والجهاد العقدي والثقافي

بتحصين الأمة من خطر الغزو الثقافي الذي يمثل الخطر الأكبر على جهاز المناعة

لدى الأمة.

من مظاهر الجهاد الفردي:

يستطيع الفرد المسلم ممارسة الجهاد الفردي في زمن الانهزام من خلال

ممارسة دوره الاقتصادي، وتنمية الوعي الثقافي لأفراد الأمة الآخرين من خلال

موقعه مستهلكاً للسلع، وموجهاً لأسرته وممارساً لحقه الطبيعي في إبداء التعبير

وإزالة المنكر والأمر بالمعروف من خلال أداء واجب الكلمة في محيطه الاجتماعي

وتتمثل الوسائل التي يمكن للفرد أن يمارس دوره الجهادي في محاربة أعداء الأمة

من خلال موقعه في المجتمع في عدة أمور يمكن تلخيصها في الآتي:

الأمر الأول: المقاطعة الاقتصادية بالامتناع عن شراء السلع سواء أكان

الشراء للاستهلاك أو الاقتناء، والتي تنتج وتُصَدّر إلى بلاد المسلمين من الدول

الغربية بعامة والعدو الصهيوني بخاصة، والاستعاضة عنها بشراء السلع المنتجة

في البلاد الإسلامية، فهذه المقاطعة الفردية لا تكلف الفرد المسلم أي جهد ما عدا

تغيير نمط الاستهلاك، وإحلال سلع منتجة ومصنعة في البلاد الإسلاميةمحل السلع

المنتجة في بلاد أعداء الإسلام، وبهذه المقاطعة يتحقق أمران الأول: تشجيع

منتجات البلاد الإسلامية وتقوية اقتصادياتها، والثاني: محاربة العدو اقتصادياً

بالامتناع عن شراء السلع المنتجة في تلك البلاد ومحاربة كل تاجر مسلم يستورد

السلع الاستهلاكية من بلاد أعداء المسلمين وعلى كل فرد رفع شعار «قاطعوا

الأعداء» بالامتناع عن شراء أي سلعة منتجة وموردة من بلاد النصارى،

وبالأخص الدول التي تتولى قيادة دول النصارى في عصرنا الحالي وتفضيل الدول

الأخرى من غير الدول الإسلامية في حالة عدم وجود تلك السلع لديها بشراء السلع

المنتجة مثلاً من الصين واليابان وجنوب شرق آسيا مثلاً وإن امتناع كل فرد مسلم

عن شراء أي سلعة منتجة أو ذات علاقة تجارية أو اسم تجاري مرتبط بالشركات

الغربية، سوف يؤدي إلى وجود غضب شعبي تجاه ما تمارسه القوى الصليبية

الحاقدة، إن على كل فرد مسلم الامتناع عن شراء هذه السلع ودعوة الآخرين لذلك.

الأمر الثاني: أن يقوم كل فرد إذا كان صاحب شركة أو مؤسسة تمارس

الأعمال التجارية بالامتناع عن الاستيراد من الدول الغربية والاستعاضة بالاستيراد

من الدول الإسلامية، أو الدول التي يمكن أن تكون يوماً عدواً للدول النصرانية،

كما أن على كل فرد يمتلك القدرة على الاستقدام للأيدي العاملة أن يمتنع عن

الاستقدام من تلك الدول، وأن يمارس كل فرد إذا لم يكن صاحب شركة أو مؤسسة

الضغط الاجتماعي من خلال النقد وإثارة الإحساس الديني لدى أصحاب هذه

الشركات.

الأمر الثالث: أن يقوم كل فرد وبخاصة العاملين في حقل التعليم باستخدام

التعليم وسيلة للجهاد بالكلمة بغرس القيم والمبادىء والأفكار الإسلامية التي تحمي

أفراد الأمة وبخاصة الطلبة والطالبات من الغزو الثقافي، فالدول النصرانية تسعى

إلى طمس الهوية الإسلامية، فقد تكالب الأعداء وسخروا جميع الإمكانيات من أجل

هدم مقومات الأمة بإضعاف مفهوم الولاء والبراء من خلال الدعوة إلى التقارب بين

الأديان، الذي أصبح مصيدة وقع فيها كثير ممن ينتسبون إلى العلم والثقافة،

فالقصد من التقارب بين الأديان هو الاعتراف بالديانتين اليهودية والنصرانية

المحرفتين وكأنهما صحيحتان، مع أن الله أخبر أنه لا يقبل غير الإسلام ديناً في

قوله تعالى: [ومن يبتغ غير الإسلام ديناْ فلن يقبل منه] [٧] ، وإن مبدأ الحوار

مع الأديان المحرفة قد حدده الله، فلا يجوز الحوار إلا وفق القاعدة القرآنية في قوله

تعالى: [قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا

نشرك به شيئاْ ولا يتخذ بعضنا بعضاْ أرباباْ من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا

بأنا مسلمون] [٨] ، كما إن الغرب النصراني يسعى إلى إبعاد الأمة عن تحكيم

شرع الله في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وتبني سلوكيات الغرب النصراني من

حرية مزعومة، وإباحية وإلحاد وكفر بالله، ولهذا فإن للمعلم أو المعلمة دوراً كبيراً

في الجهاد من خلال جهاد الكلمة، وتزويد الطلبة والطالبات بالقيم السليمة،

ومحاربة جميع المظاهر السلوكية المنافية لقيم الإسلام وتعاليمه.

الأمر الرابع: أن يمارس الفرد المسلم من موقع عمله في غير حقل التعليم

دوره في محاربة الخطط التي تسعى لتقويض مقومات المجتمع، وبخاصة في حقل

الأمن والإعلام، فالدور الجهادي للفرد المسلم الذي يعمل في هذه الأعمال كبير

وخطير، وبخاصة ما يتعلق بمحاربة المفسدين الذين يعملون على إفساد الشباب من

خلال نشر الرذيلة بينهم، فإن هدف الأعداء هو نشر المخدرات والزنا وغير ذلك

من الإفساد الأخلاقي، وبالتالي فإن على المسلم الذي يعمل في الأمن مسؤولية

تفويت الفرصة على الأعداء من خلال القضاء على أوكار الفساد، وكذلك بالنسبة

لمن يعمل في حقل الإعلام فإن عليه واجب نقل الصورة الصحيحة عن واقع

المسلمين واستخدام المنبر الإعلامي بقصد توعية المسلمين بواقعهم وكشف أساليب

الأعداء ومنع كل وسائل الهدم والتخريب لعقائد الأمة وقيمها، وبالتالي فلو أن كل

صحفي أو كاتب في جريدة أو صاحب دار نشر امتنع عن نشر أي كتاب أو مقالة

فيها إساءة للإسلام أو تساهم بنشر فكرة إلحادية، أو تسويغ الفاحشة، فإنه بهذا

يمارس دوره الجهادي في حماية الأمة والمجتمع الإسلامي من الوقوع في مصيدة

الأعداء، وتوفير الأرضية لاتساع الصحوة الإسلامية.

إن للفرد دوراً كبيراً في محاربة الأعداء وإفشال خططهم، وبالتالي فالجهاد

الذي هو ذروة سنام الإسلام لا يقتصر على حمل السلاح فقط، بل يشمل جميع

أوجه الجهاد، فالتفاعل مع هموم الأمة وقضاياها يمثل لوناً مهماً من ألوان الجهاد

فالمسؤولية الفردية هي مناط التكليف في الشريعة الإسلامية ففي الحديث المشهور:

(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) «، فقد شملت المسؤولية جمع أفراد الأمة،

ويؤكد هذا المفهوم حديث ابن عباس الذي رواه البخاري، فقد قال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيه وإذا استنفرتم

فانفروا) [٩] والاستنفار في زمن الانهزام يتمثل في قيام كل فرد بواجبه الفردي تجاه حماية الأمة من خلال استخدام الإمكانات المتاحة له لصالح الأمة، وأن يكون قدوة للآخرين بممارسة دوره الفعال، ودعوة الآخرين للاقتداء به.


(١) رواه الترمذي، كتاب الفتن ح٧٦.
(٢) رواه أبو داوود، كتاب الأدب ح٤٩.
(٣) رواه البخاري، كتاب الإيمان ح٥١٤، الرقاق ح٣٦؛ مسلم، كتاب الإيمان ح١٢.
(٤) سورة المائدة: ٨٢.
(٥) سورة البقرة: ١٢٠.
(٦) سورة البقرة: ٦٤.
(٧) سورة آل عمران: ٨٥.
(٨) سورة آل عمران: ٦٤.
(٩) رواه البخاري، كتاب الصيد ج١٠، كتاب الجهاد ح١٩٢٢٧؛ مسلم، كتاب الإمارة ح٨٦.