للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مراجعات أدبية

رؤية في

القراءة النقدية

د. مصطفى بكري السيد

القراءة النقدية: هي نظرية القواعد التي تحكم تفسير نص من النصوص

الأدبية، يتأكد فيها دور القارىء بوصفه أحد منتجي النص عبر علاقة تفاعلية تصل

القارىء بالمقروء لتثمر إنتاج معرفة جديدة تتيح للقارىء توظيفها في إغناء ذاته أو

في إعادة بنائها.

هذه القراءة الإنتاجية هي نقيض للقراءة الاستهلاكية، والقراءة الإنتاجية فعل

حضاري، وهي بعد توفيق الله السبب القوي لتفسير المواقع والواقع ومن ثم

تطويرهما، وهي معيار الحكم في الخلاف في كثير من القضايا التي لا يكون سبب

الاختلاف فيها راجعاً إلى الموضوع بل يعود إلى الكم والكيف القرائي حول هذا

الموضوع.

ومثل هذه القراءة وهي قراءة «التدبر» بحسب المصطلح القرآني لم ولن

تموت في العالم الإسلامي، ولكن الذي مات بل في الحقيقة ولد ميتاً وجمهوره آخذ

في التناقص هو اجترار الكلام والفكر المعلب، والرؤى القَبْلية، وإخضاع التعامل

مع الإبداع إلى قوالب جامدة منغلقة لتصبح ذات صيغة سلطوية وتسلطية على الفكر

الموضوعي، ويكون سقف الفن عندها هو المقنن الجاهز والسلبي المستهلكم،

والمثال الذي أسوقه على هذه القراءة تلكم القراءة اللغوية التي تتعامل مع كل علم

من علوم اللغة تعاملاً مستقلاً دون أن تتمكن من سبكها في سبيكة معرفية تستدرج

النص إلى الحكي والقول، وتكاد تحصر النقد بمرجعية معجمية ويكون اهتمامها

اهتماماً معجمياً في المفردة والتركيب لا اهتماماً بنائياً ودلالياً.

في هذه القراءة تغيب عن القارىء أوليات التعامل مع الشعر والأثر الفني

عامة، فهي تمكنه من الإحاطة بالمستوى الإخباري للنص، ولكنها تحجب عنه

المستوى الإشاري، وهو ما تزخر به اللغة الشعرية فيما وراء المؤدى المباشر

والذي يُكوّن نظام العلاقات الدلالية والإيقاعية في النص، وهو الذي يجعل النص

يُفلت من الظرف المحدد، ويمتلك القدرة على البث المتجدد بحيث يخاطب أجيالاً

عديدة.

تستهدف القراءة النقدية وضع النص في موضع البحث المعرفي استكشافاً

لجمالياته وطاقاته الإبداعية وما يحمله من رؤِى تحول وتحويل، هذه القراءة يحجب

نور شمسها أو يكاد التضخم في الدراسة الاجتماعية أو التاريخية الأدبية التي تجعل

الأدب ملحقاً بالحياة لاحقاً بالأحداث، هل هناك أكثر اغتيالاً للأدب من أن يكون

تاريخ الأدب أوفر حظاً في ساعات التدريس من النصوص، وفي تاريخ الأدب

يغيب النص أو يُغيّب لا فرق، ويصبح شهيداً لا شاهداً، قتيلاً لا مقاتلاً، ويكف

عن البحث المتجدد والدور المتعدد، ولا أمل في استنقاذ النص الأدبي من تقزيمه

وتحطيمه المتمثل بالبحث في ثناياه عن كل شيء إلا أدبيته. لا أمل إلابأن نبذل

جهداً مقابلاً لقراءة الاغتيال ابتغاء بلورة مفهوم ونهج جديدين في قراءة الأثر الأدبي، دون ذلك لن يتم اللقاء بين المبدع والقارىء، وهذه القراءة هي قراءة الكشف لا

الوصف، وبالمناسبة لنتذكر أن الزمخشري أطلق على قراءته للقرآن الكريم اسم «

الكشاف» .

مقتل القراءة الأولى وخطورتها أن تكون أخيرة، وهي تلك التي يتكلس فيها

فهم الأدب كتكلس الشعب المرجانية حيث تُخْضعُ الأدب لطفولية الفهم الذي يكتسبه

الطالب في المرحلتين المتوسطة والثانوية أو تلزمه به البيئة المحلية.

القراءة الأدبية هي التي تَسْتغور النص كما لو كان منجماً، تبحث عما هو

ثمين ومحجوب في طياته، فتعمل على استخراجه، القراءة الأدبية لا تخرج إلينا

قبل أن تدخل هي من خلال الناقد، تدخل إلى العمل الأدبي لتعايشه وتنفذ إلى باطنه، فتكشف عن الأدب قبل الفكرة، فإن لم يكن ثمة أدب فليس بشافع له أدبياً أن

يحتوي على أدق الأفكار.

القراءة الأدبية تتم على مستويين:

في القراءة الأولى يسلم الناقد نفسه للعمل، أي أنه يمارس قراءة النص

بوصفه قارئاً متذوقاً للأدب ومدرباً على هذا التذوق، وعادة ما يخرج من هذه

القراءة بانطباعات تختلف من عمل إلى آخر، فقد يخرج بالشعور باكتمال المتعة،

أو بالشعور بأن شيئاً ما خطأ أو لم يكتمل يحول بين شعور المتعة والاكتمال.

وفي القراءة الثانية يقيد انطباعاته مطبقاً للمنهج التحليلي على العمل الفني

ومتبيناً للعلاقات التي تجمع الجزئيات في كلية فنية.

ومما يساعد على القراءة الأدبية أن يحرص الناقد على الإحساس بالأثر الفني

بعد معايشته والالتصاق به التصاقاً كاملاً، يمكن أن نسميه كمال الاتصال، ذلك

الذي يتم فيه استغراق يُوحد بين القارىء والموضوع، بحيث يصبح الموضوع أي

الأثر الفني ذاتاً وتصبح الذات موضوعاً. بذلك يستطيع القارىء أن يخرج انطباعه

من حيز الخصوص إلى نطاق العموم، وتبيت قراءته وسيلة من وسائل المعرفة

عندما تأطرت بأطروحة ممنهجة تفيد كل مُتَلَق ومُتَلَقّى.

يجب أن يتذكر القارىء الأدبي أن ثمة فرقاً بين أن يقرأ صامتاً لنفسه وبين أن

يقرأ ناطقاً لغيره.

وأخيراً فإن مشكلة النقد ليست معزولة عن مشكلة الفكر عندنا، بل إن مشكلة

النقد هي مشكلة هذا الفكر أو هي وجه من وجوهها.

ونحن نمارس قتل روح النص في حق النصوص الحديثة والتراثية على

السواء، هكذا ما نزال ندرس المتنبي، المادح، ومايزال الموضوع أي سيف

الدولة وحروبه محور شاعريته، ويغيب عنا مناخ القمم الذي يكشف عنه نظام

العلاقات اللغوية في شعره، يغيب عنا جواب المتنبي على عصر تقهقر فيه العنصر

العربي المسلم، يغيب عنا رفعه للصوت العربي في مقابل هيمنة العجم والعجمي

في الفعل والقول، رفعه لهذا الصوت أخاذاً في سماء أخذت فيه النجوم العربية

الإسلامية بالأفول، وآذنت شمسها بغياب العرب المسلمين عن قيادة الأمة التي

سلبتهم إياها، عناصر أعجمية عملت لحسابها أكثر مما عملت لحساب تواصل

الدور الإسلامي وحضوره الدائم.

إن الولوج إلى عالم المتنبي وأمثاله من الشعراء العظام لا يتحقق بقراءة

سكونية سلبية مغلقة، بل بقراءة متحركة فعالة، لأنها تعامل حركي مع أثر يتميز

بالحياة وقابليته للنمو والتوهج، وقدرته على العطاء، إن هذه القراءة تحقق اتصال

الإبداع بالإبداع أي اتصال الإبداع النقدي بالإبداع النصي وتتسع لكلمة الآخر

وسؤالاته.

ومع أننا نعتقد أن المتنبي قد أفرز مكتبة قرائية كاملة، فإن كل قراءة لاحقة

إضاءة للقراءة السابقة، وكشف عن قارة من الطموحات انطوت عليها عبقريته الفذة.

إن النص الأدبي يستحضر إلى ساحته قراءات بعدد الاتجاهات القائمة في

المجتمع، فهناك القراءة المثالية التي تستحضر معها مسطرة القيم المجردة المطلقة

وتريد من الأدب أن يكون موعظة أخلاقية لا يعدوها إلى غيرها، فإن لم تجد فيه

بغيتها أعرضت ونأت بجانبها.

وهناك القراءة الخيالية التي تريد من النص أن يكون ركوباً يحملها بعيداً عن

الواقع والوقائع، لا تريد لغة مفهومة ولا قضية مخدومة، بل تريد هروباً واختباء

بالكلمات وتترساً بالمبهمات، وهناك القراءة السياسية التي لا تبتغي من النص أكثر

من أن يكون نشرة أخبار جوية عفواً بل سياسية.

أما مستويات القراءة فمنها ما يكون استكشافياً، ومنها ما يكون استرجاعياً،

ومنها ما يكون عمودياً، ومنها ما يكون أفقياً، ومنها ما يكون استنطاقياً يقول فيها

النص ولا يُقوّل.

هذه القراءات كلها تشكل مراجع ثانوية للقراءة الأدبية التي هي القراءة

الأساس للنص، والتي تعتمد على منظومة العلاقات الداخلية للبنية اللغوية وغيابها

يعني إفقار النص واختزاله، وبالتالي إلغاءه.

إن هذه القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارىء، ومن

القارىء إلى النص، فبقدر ما يقدم النص للقارىء، يضفي القارىء على النص

أبعاداً جديدة قد لا يكون لها وجود في النص، وعندما تنتهي العملية بإحساس

القارىء بالإشباع النفسي والنصي، عندئذ تكون عملية القراءة قد أدت دورها.

إن من أكبر مهام ومسؤوليات القراءة النقدية أن تؤصل وتؤثل وتوسع من

أمداء قراءة النقد التساؤلي الذي يضيف بالسؤال المهموم أكثر مما يعطي بالجواب

المحفوظ.

وهذه مقاربة لاستنطاق النص القصصي الموجود في العدد (٧٤) من مجلة

البيان والمعنون بـ «حدث في السوق» بقلم د/ محمد الحضيف.

١- تلخيص النص:

ليس بمكنة أحد أن يختزل لغة النص، فإذا كانت علامات الاستفهام والتعجب

مقصودة ومن الدوال فما بالك بالكلمات بَله الجمل؟ إذن سأختصر الحدث.

المكان: سوق مزدحم (عنوان الجزء الأول من النص) ، رجلان من رجال

الحسبة هيئة الأمر بالمعروف يؤديان واجبهما في مراقبة السوق، يشك الأول منهما

برجل ذي مظهر مريب، فيقف منه موقف المتهم، الرجل الآخر يرفض التهم

المعلبة. يتمسك كل من عضوي الهيئة برأيه بعد حوار مقتضب. يتابع الثلاثة

سيرهم، يلقي الرجل ذو المظهر المريب برقم هاتف على عنقود من النساء،

تتحقق رؤية الأول في الرجل المريب، ويمسك بالرجل، ويدور بينهما حوار،

ويجتمع الناس، منهم من يريد الدنيا فيقول: (حرام عليكم اتركوا الناس وشأنهم) ،

ومنهم من يريد الآخرة، ويوافق على اعتقال المريب: (جزاكم الله خيراً) ، الرجل

الثاني يحاول أن يمحو صورة العنف في نفس المتهم يحاوره ويناوله شيئاً سقط منه، ولا يتركه إلا بابتسامة تضيء وجهه.

المكان: مجلس مزدحم بعشرات الضيوف: انتهى الحدث في السوق، يبدأ

التعليق عليه في مجلس واسع (مزدحم بعشرات الضيوف) .. يجمع الحاضرون على

فظاظة بعض رجال الهيئة، ويصفونهم بنعوت قاسية (.... .) أو (وحوش) ،

ويتفنن الحاضرون في السرد والقص وإلقاء التهم جزافاً. صوت واحد في المجلس

إن الكرام قليل يقطع على الحاضرين حديثهم مفاجئاً إياهم بالرواية الصحيحة عما

حدث. وهكذا يفاجأ الحاضرون بمن يقلب سحرهم عليهم، ويرد سهمهم إليهم فيكون

هذا السؤال: ما هي القصة إذن؟ إنه سؤال يعيد الحدث إلى درجة الصفر.

الصراع في النص: الصراع بين عضو الهيئة وزميله حول مدى اتهام الرجل، وما إمكان براءته. عضو الهيئة الأول يقول عن الرجل المريب: (حليق،

والثوب طويل ... والدخان، والنظارة الشمسية) .

العضو الثاني: (هذه ليست أدلة إدانة) .. (الحكم الأول) .

الصراع بين الجمهور والمشاهدين: بعضهم وقد رأى الصراع والاشتباك

بالكلام والأيدي بين عضو الهيئة والمتهم يقول: حرام عليكم اتركوا الناس وشأنهم.

البعض الآخر: (جزاكم الله خير، يا جماعة نظفوا البلد من ها العينات) .

مسافة واسعة بين الدعوة إلى حرية العبث ووصف التعرض لهؤلاء العابثين

(بحرام) ، والدعوة إلى تطهير البلد من هؤلاء (الحكم الثاني) .

الصراع في منزل (مجلس مزدحم) : حيث يرمي الحاضرون وهم (عشرات)

يرمون الهيئة عن قوس واحدة، وذلك بنسج (إسرائيليات) عن تجاوز رجال الهيئة،

وإخراج قصة من لا شيء، ثم تنويع السرد في القصة الملفقة: (قبل أسبوعين في

أسواق.... .) وأمام الناس كلهم هجم اثنان من رجال الهيئات) (إن أولئك الوحوش

طلبوا من الشاب أن يثبت أن المرأة التي بصحبته هي زوجته) (كان مشهداً لا ينسى

حينما وضع أحدهم قدمه على وجه الشاب وقال له: أين لحيتك يا فاسق، أو يا

كافر على ما أظن! !) . تقابل هذه النصوص والشهادات المعنعنة بشهادة من شهد

الوقيعة، فيرد الأمر إلى نصابه ولعل المتحدث الأخير (هو الذي يمثل الكاتب) ،

وهو ليس بعيداً أن يكون الرجل المتهم الذي يظهر في أول النص، فهو يقول

للحاضرين الذين لا يهضمون طعامهم إلا بهاضوم من الباطل: (أنا الذي كنت في

السوق، وأنا الذي حدث لي ذلك الموقف مع رجال الهيئة.. سوء فهم حدث وتمت

تسوية القصة بطريقة ودية) .

٢ -القضية التي تموضع النص حولها:

يطرح النص الهيئة موضوعاً لمناقشته قصصياً، الهيئة دوراً لا خلاف عليها

نفى الخلاف ظاهراً على الأقل ولكن الخلاف على أداء هذا الدور.

فعضو الهيئة الأول أشعل معركة أكبر من طاقة القضية، ولقد استعمل «

مطرقة» لكسر «جوزة» ، أما الثاني فقد التزم الحوار وسار بالشوط إلى آخر

المشوار، فهو قد طيب خاطر المتهم، ليقلب الطاولة في وجوه عصبة الإفك في

نهاية القصة عندما جعل من خصم الهيئة رجلاً يدفع عنها حجج الحشرات التي

اعتادت أن تمضغ أعراض الطيبين، وإعمال مبضع النقد في ممارسات أهل

الحسبة ظلماً وباطلاً. لقد أدان النص تسرع عضو الهيئة الأول وتشنجه وأظهر

التعقل حلاً مطلوباً وطريقاً آمنة للوصول إلى أفضل النتائج، ممثلاً بعضو الهيئة

الثاني.

كما يطرح النص موقف خصوم الهيئة، فهي لا تتحرك في فراغ إنها تصطدم

بشهوات جامحة، وشخصيات لا تتورع عن إنتاج الكذب وترويجه ومواجهة هؤلاء

كما أشار النص أجدى ما تكون من داخل صفوفهم فصاحب العلاقة تكلم فسكت

الجميع، هل يمكن أن نقول إن نوعاً من التناص (تداخل النصوص) قد حصل بين

هذا النص وشخصية امرأة العزيز في سورة يوسف عليه السلام عندما قالت (أنا

راودته عن نفسه) والرجل هنا أيضاً يقول بملء فيه: (أنا الذي حدث لي ذلك

الموقف مع رجال الهيئة، سوء فهم حدث، وتمت تسوية الأمر بطريقة ودية) .

ينتهي النص بالسؤال: ما هي القصة إذن؟

لم يجب الكاتب، لأن قوة النص ليست فيما يقوله فقط، بل وفيما لم يقله

أيضاً. هل يحق للمرء أن يسأل هل الهيئة هنا رمز للدعوة الإسلامية؟ وهل إن

السوق والمجلس المزدحمين رمز للمجتمع؟ وهل يتعين على الإسلاميين أن يعتبروا

أو يصلحوا بعض أدواتهم (عضو) الهيئة الأول؟ وهل اقتنعوا بأن الحوار وإن طال

أسلم عاقبة وأرخص تكاليف من منازلة (دينكوشوتيه) تؤذي الدعوة، وتحرج الدولة؟ وهل تكون أساليب الدعوة جامدة في عالم متغير؟

أعتقد جازماً أن الحل في الإسلام فقط، ولكن المشكلة في المسلمين كأدوات

لهذا الحل ما مقدرتهم على تحقيقه؟ لا بأس أن تعيد قراءة القصة. وشكراً.