للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

محاضرات إسلامية

فقه النوازل والواقعات

دليل على ارتباط الفقه بالحياة

- ٢ -

د. عبد العزيز القارئ

في الحلقة الأولى من هذه المحاضرة لفضيلة الدكتور عبد العزيز القارئ عضو

هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، تطرق فضيلته إلى حقيقة

الفقه وكيف أبدع الصحابة فيه ونبه فضيلته على خطر ظاهرة الاشتغال بالصناعة

الحديثية على حساب الفقه بمعناه الشامل، ثم تطرق لمسألة الاجتهاد وأثره العظيم

في حياة الناس وبيان الأحكام الشرعية، وكيف كان فقه الصحابة فقه تطبيق وليس

فقه نظريات جامدة، ونواصل معكم بقية هذه المحاضرة المهمة.

- البيان -

نماذج من فقه الصحابة:

وسأضرب لمنهج الصحابة رضي الله عنهم في فقه النوازل والواقعات أربعة

أمثلة:

المثال الأول في العبادات:

الأذان يوم الجمعة: فقد كان الأذان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-

أوله عندما يجلس الإمام على المنبر، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر، وفي عهد

عثمان وعلي، كثر الناس وزاد الأذان الثالث على الزوراء [١] ، الأذان الثالث كما

ورد في النص باعتبار الأذان الذي عند جلوس الإمام على المنبر وباعتبار الإقامة

فإنها تسمى أيضاً أذان، فزاد الأذان الأول على الزوراء، وفي بعض الروايات أن

الزوراء دار كانت في السوق، وفي بعض الروايات أنه أمر بذلك ليعلم الناس

بدخول أو بحضور وقت الجمعة قبل أن يخرج الإمام إلى المسجد أو إلى المنبر.

ما كان هذا الأذان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا على عهد

الصاحبين، وإنما هو سنّه الخليفة الراشد عثمان قياساً على باقي الصلوات، هذا

أذان لإعلام الناس بدخول الوقت في أوله، فقاس الجمعة على باقي الصلوات، هذه

نازلة وهذا ما واجهها به الصحابة من فقه، والصحابة في عهد عثمان عملوا بفعله

في سائر المدن والأمصار، وقد كانوا منتشرين فيها.

المثال الثاني في الطلاق:

فقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الطلاق كان على عهد

النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، أن طلاق

الثلاث كانت توقع واحدة، فقال عمر: «إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم» [٢] ، فأمضاه عليهم بمشاورة من الصحابة، وحقيقة هذه

المسألة كما أفهم والله أعلم أن عمر أولاً كان يسأل المطلق الذي أوقع الثلاث دفعة

واحدة عن قصده ماذا يقصد هل يقصد إيقاعها ثلاثاً أو ما قصد إلا التأكيد وإيقاعها

واحدة، ثم لما تتابع الناس على ذلك، وكثر منهم واستخفوا به صار لا يسأل أحداً

عن مقصده، ولا يفرق بين من يقصد التأكيد وإيقاعها واحدة أو لا يقصد ذلك،

ويمضيه على الجميع ثلاثاً ردعاً للناس الذين كثر منهم هذا واستخفوا بحدود الله عز

وجل.

هذا مثال آخر لطريقة الصحابة في مواجهة النوازل، فإن الحال في وقت

عمر تغير عن الحال في وقت النبي صوأبي بكر.

المثال الثالث حد الخمر:

وهو يشبه هذا المثال، ولكنه في الحدود (حد الخمر) ، فشارب الخمر في عهد

النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضرب بالجريد وبالنعال ويبكت (بمعنى أن يقال

له أما تستحي أما تتقي الله.. ونحو ذلك) ، وفي عهد أبي بكر جلد أربعين، وفي

عهد عمر قال عمر رضي الله عنه: ويبدو أن شاربي الخمر قد كثروا في عهده

فاستشار الصحابة، فقال علي رضي الله عنه إنه إذا شربها سكر وإذا سكر هذى

وإذا هذى افترى، فجلده ثمانين مثل عقوبة القربة، وفي رواية أن عبد الرحمن بن

عوف قال له رضي الله عنه: إن أخف الحدود ثمانون جلده فأمضوا عقوبة شارب

الخمر ثمانين جلدة، فاختلف الفقهاء في فهم ذلك: بعضهم قالوا إن حد الخمر

ثمانون، وبعضهم قالوا حدها أربعون وما زاد فهو تعزير، وللإمام أن يزيد تعزيراً

إذا كان ذلك اجتهاد من إمام عادل.

المثال الرابع في المعاملات:

وهو تضمين الصناع، فالصانع إذا ادعى هلاك المتاع الذي بحوزته وليست

له بينة على ذلك، كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء قبل

علي يُصدّق، وفي عهد علي ألزمهم بالضمان، وقال لا يصلح الناس إلا ذلك.

لماذا؟ لأن الناس في عهد علي رضي الله عنه اختلف حالهم عن حال الناس في

عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وعثمان فإن التزامهم بالصدق

وبالحق صار أخف مما سبق فاختلف حالهم عن ذي قبل، ومن مثل هذا استنبط

العلماء قاعدة اختلاف الفتوى بسبب فساد الناس، كما تحدث للناس أقضية بقدر ما

أحدثوا من أحكام، ففساد الناس وفساد الأحوال تتغير بموجبه الفتوى.

هذه أربعة أمثلة تبين لنا منهج السلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- في مواجهة ما يستجد من واقعات ونوازل، ونستفيد من هذه الأمثلة دروساً

عظيمة لواقعنا ولحالنا أصلح الله حالنا، ومنها:

١- أن الاجتهاد لا يسوغ من كل أحد إنما يسوغ ممن له الأهلية فقط، فإن أبا

بكر أو عمر أو غيرهما من الخلفاء الراشدين ما كانوا يستشيرون كل أحد، بل كانوا

يستشيرون فقهاء الصحابة وأهل العلم والرأي منهم.

٢- ومن هذه الدروس أن الاجتهاد ليس صلاحية مطلقة للمجتهد، بل يجب

أن يكون مقيداً بالقواعد الشرعية والمبادئ الكلية والأصول المعتبرة عند الفقهاء

وعند العلماء، والتي استنبطت من الكتاب والسنة. ولو تأمل الدارس المتفقه كل

مثال من الأمثلة الآنفة الذكر وغيرها من الأمثلة، لوجد هذه الحقيقة فيها، فإن

الصحابة رضي الله عنهم لا يخرجون في اجتهاداتهم هذه عن المبادئ الكلية التي دل

عليها الكتاب والسنة.

٣- ومن هذه الدروس أن مدار الشرع على المصلحة: على جلب المصالح

المعتبرة، وعلى درء المفاسد المحققة فحيث ما تكون المصلحة الشرعية فثم شرع

الله كما يقول ابن القيم رحمه الله فلا أقول كما يقول بعض الكتاب المعاصرين: إن

الشريعة الإسلامية مرنة! ! فكلمة مرنة في عرفهم تحتها ما تحتها، لكن أقول إن

الشريعة الإسلامية، والفقه الإسلامي صالح للتطبيق في كل زمان ومكان مهما

اختلفت أحوال الناس، ومهما استجد من متغيرات ومن تطورات فالمصلحة معتبرة

لكن أهواء الناس غير معتبرة، وشهوات الحكام ورغبات السلاطين غير معتبرة في

الشريعة الإسلامية ولا لدى الفقهاء الذين يتقون الله عز وجل في البيان، وهذه

القاعدة (دوران الشرع على المصلحة) لا يعرفها إلا الفقهاء ولا يقدر على تطبيقها

إلا الفقهاء والعلماء الربانيون.

٤- ومن هذه الدروس أيضاً أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

إضافة إلى عملهم الغزير بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبفهمهم العميق للأحكام الشرعية كانوا كما نوهت على بصيرة كاملة بالواقع ...

وتتعجب من اختلاف فتياهم، فتجد الصحابي في المدينة له فتوى وفي العراق له

فتوى أخرى، وفي حالة له فتوى وفي حالة أخرى له فتوى أخرى، كما ضربتُ

في هذه الأمثلة، وهذا يدل على أنهم متبصرين بالواقع الذي يعايشونه مدركين تمام

الإدراك للوقائع المستجدة التي يواجهونها، وهكذا يجب أن يكون الفقيه.

ومن أعجب الأمثلة على ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال له: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: إلى النار، فلما ذهب وانصرف قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا فما

شأن اليوم؟ قال: إني أحسبه مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً فبعثوا في أثره فوجدوه

كذلك [٣] .

فاختلاف الحالة لدى المفتي كالطبيب يصف لكل مريض ما يناسب حاله فلو

أفتى هذا بأن له توبة كأنه حرّضه على أن ينفذ ما في قرارة نفسه، وفي رواية أنه

سئل يعني أن سائلين سألاه فسأله سائل هل لمن قتل توبة؟ قال: لا وسأله سائل

آخر في مرة أخرى فقال: نعم. فلما سئل عن هذا الاختلاف في الفتوى قال:

رأيت في عيني الأول أنه يقصد القتل فقمعته، وأما الثاني فكان صاحب واقعة

يطلب المخرج.

هل تريدون مثالاً أوضح من هذا على عظم أهمية أن يكون الفقيه متبصراً

بالواقع، عالماً بأحوال الناس، عالماً بملابسات الوقائع التي تطرأ عليه والنوازل

التي تستجد؟ !

٥- ومن أعظم الدروس المستفادة من هذه الأمثلة آنفة الذكرأن في منهج

السلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يمكن أن نسميه بالشورى

العلمية فقد كان أبو بكر الصديق إذا نرلت به نازلة، ولم يجد فيها فيما يعلم سنة عن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى الناس فيسألهم، أخرج البغوي عن

ميمون بن مهران رحمه الله قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب

الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، فإن لم يكن في الكتاب، وعلم من

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل

المسلمين: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فربما

اجتمع النفر كلهم يذكر كل واحد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضاء، فإن

أعياه أن يجد فيه سنة جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم (لاحظ استفتاء ثم

شورى أهل الفقه والحل والعقد) ، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به. وكان عمر

رضي الله عنه يفعل ذلك إلا أنه إن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان

فيه لأبي بكر قضاء فإن وجد أبا بكر قضى به بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس

الناس، فإذا اجتمعوا على أمر قضى به ومع أن هؤلاء هم من هم ومع ذلك لا

يغترون برأيهم ولا يستدلون باجتهادهم، بل يشاورون الناس وتجد الواحد اليوم مع

قلة بضاعته وغلبة الهوى عليه ينفرد بنفسه بين جدران أربعة ويخرج علينا بآراء

عجيبة لا فقه فيها ولا بصيرة ولا يتقي الله فيها، ويريد أن يحمل الناس عليها.

استبداد علمي مع أنه لا استبداد في العلم في الإسلام، كما أنه لا استبداد في السياسة، والاستبداد السياسي والاستبداد العلمي كلاهما مذموم في الإسلام.

معالم على طريق الاجتهاد:

ثم إن الاجتهاد في المسائل الاجتهادية فيما فيه مجال للاجتهاد وإذا وقع من

المجتهدين مهما كان الاجتهاد جزئياً أو كلياً على أنواعه التي يذكرها الفقهاء يجب أن

لا يؤدي إلى التنازع والتناحر والتطاحن. انظرإلى الصحابة وخذ عمراً مثلاً وهو

خليفة أمير المؤمنين كيف كان يناقشه الصحابة ويحتدون ويقولون له هذا ظلم

«أتقف ما غنمناه بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا» ، ومع ذلك لا يغضب ... نماذج رائعة من أدب الاختلاف.

الاختلاف لدى السلف لا يفضي إلى التنازع والتطاحن، ولا يفسد للود قضية

كما يقول العلماء، فإن التناحر والتطاحن في الآراء وفي العلم ورمي المخالف في

الاجتهادات بالتهم من علامات أهل البدع كالخوارج الذين يكفرون مخالفيهم،

فالمبادرة الى تكفير المخالف في مسائل للاجتهاد فيها مجال، من علامات الخوارج، وسب المخالفين ولعنهم والتشنيع عليهم من علامات الروافض، فعلى كل مسلم أن

يتأدب بهذه الآداب، على كل مجتهد، على جميع أهل العلم أن يتأدبوا بهذا الأدب

السلفي إن كانوا وقعوا في مسلك أهل البدع من التشنيع على المخالفين ورميهم بالتهم

وتبديعهم وتكفيرهم وسبهم والتشنيع عليهم، فعليهم أن يستغفروا الله ويتوبوا إلى الله

ويعودوا إلى منهج السلف.

أما أهل العلم والفقه والاجتهاد من علمائنا على مختلف مستوياتهم ودرجاتهم

أكابرهم وأصاغرهم فإننا نطالبهم بأن يواجهوا النوازل التي وقعت بنا والواقعات

التي استجدت علينا، وما أكثرها وما أخطرها مثلاً، نحن نواجه الآن في مجتمعنا

هجمة علمانية، هناك من يحاولون علمنة هذا المجتمع ومحاولة صبغه بصبغة

العلمانية، فيدعون للفصل بين الدين والحياة وبين الفقه والمجتمع، وهذه نازلة

خطيرة جدت في الأمة فالمجتمع المسلم يسير بخطى حثيثة إلى العلمانية بضغوط

خارجية وجهود داخلية، أناس يتكلمون بألسنتكم وهم من جلدتكم وهم يبذلون النفس

والنفيس في سبيل تخريب هذا المجتمع المسلم، وهذا من أعظم النوازل، فعلى

علمائنا أن يواجهوا هذه النوازل بعقلية ناضجة كعقلية السلف، عقلية الصحابة

رضوان الله عليهم أجمعين، عقلية واعية عميقة تتقي الله عز وجل، فإن من أعظم

ما يواجه به هذا المقام أن يبين العلماء الحكم الشرعي لا يخافون في الله لومة لائم،

والحمد لله أنه لاتزال في مجتمعنا بقية من علماء يقولون الحق ولا يخافون لومة لائم، نسأل الله أن يثيتهم ويجزيهم عنا خير الجزاء.

العالم أو المفتي الذي لا يتقي الله في بيان الحكم، وينافق العلماء، لا يصلح

للاجتهاد، وهو والجاهل سواء لأنه أخطر من الجاهل، العالم يقتدى به فإذا لم يتق

الله في بيان حكم الشرع يورد الأمة موارد الهلاك، وهناك علماء للأسف ينافقون

الحكام أو يخافون منهم ولا يبينون الأحكام على وجهها الصحيح، ومن أعجب

الأمثلة على ذلك مفت في بلد مسلم أفتى بإباحة الربا إذا مارسته الدولة وتحريمه إذا

مارسه أفراد الشعب، انظر إلى أي حد يصل النفاق ومداهنة الحكام، هذا فقيه نعم

ولكنه من فقهاء السلطان له سلف، ذلك المنافق الذي رأى حماماً يلعب به الخليفة

فكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالحديث الصحيح لا سبق إلا في

خف أو حافرأو نصل، فزاد أو جناح هذا مثل ذاك فأمثال هؤلاء موجودون نسأل

الله عز وجل أن يكفينا شرهم.


(١) الحديث بنصه البخاري، ج١، ص٢١٩.
(٢) مسلم، ج٢، ص١٠٩٩، كتاب الطلاق، ح/١٤٧٢.
(٣) المصنف لابن أبي شيبة، ج٩، ص٣٦٢، ح/٧٨٠٣.