للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

[نحو فهم صحيح للعقيدة]

عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

أجمعين، وبعد:

لا شك أن العلم بالله تعالى أشرف العلوم وأزكاها وأهمها، فلا حياة للقلوب ولا

نعيم، ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ثم

فإن التفقه في أصول الدين، وتعلم العقيدة وتعليمها، من أعظم المهمات، وأفضل

القربات.

وهذه المقالة تحوي جملة من المعالم والتنبيهات لعلها تسهم في الفهم الصحيح

للعقيدة، وتعين على تحقيق فقهها تعلماً وتعليماً، فإليك تلك المعالم على النحو التالي:

إخلاص النية لله تعالى في دراسة العقيدة وفهمها:

على كل من المتعلم والمعلم أن يصدقا في فهم العقيدة، وأن يسعيا إلى تلقي

العقيدة ابتغاء وجه الله تعالى، وطمعاً في مرضاته، ففقه العقيدة من أفضل العبادات

، والعبادات يجب أن تكون لله تعالى وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: [وما

أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء] [البينة: ٥] وقال النبي -صلى الله

عليه وسلم-: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً

من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة «) [١] ، ويقول الربيع بن خثيم:» كل

ما لا يراد به وجه الله يضمحل « [٢] .

التسليم التام والتعظيم الكامل للنصوص الشرعية الدينية:

يتعين عند تلقي العقيدة وتدريسها أن يخضع القلب لنصوص الوحيين فلا

يعارض النص المنزل برأي، ولا ذوق، ولا معقول، ولا سياسة ... لقد كان نبينا

محمد -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه رضي الله عنهم على التسليم لله تعالى

وتعظيم النصوص الشرعية وإجلالها، فلقد خرج -صلى الله عليه وسلم- يوماً على

أصحابه وهم يقولون:» ألم يقل الله كذا وكذا؟ يرد بعضهم على بعض، فكأنما

فقئ في وجهه حب الرُمّان من الغضب، ثم قال: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه

ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم) « [٣] .

قال الأوزاعي رحمه الله» من الله تعالى التنزيل، وعلى رسوله التبليغ،

وعلينا التسليم « [٤] .

التدرج في تعلم وتعليم مسائل العقيدة:

يلزم البدء بالأولويات، وتقديم الأهم على المهم، فيراعي المتعلم والمعلم

التدرج والمرحلية في التعامل مع كتب العقيدة.

فيبدأ بالمختصرات وينتهي بالمطولات، فيبدأ مثلاً» برسالة الأصول

الثلاثة «للشيخ محمد بن عبد الوهاب، أو أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ حكمي، ثم ينتقل إلى كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم الواسطية لابن تيمية، ثم شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ثم التدمرية ... إلى أن يصل إلى المطولات مثل أصول اللالكائي ونحوها [٥] .

ويعتني بتقديم الأهم على المهم، ومن ذلك أن يبدأ بتحقيق ما يجب عليه في

باب الاعتقاد، فيجب على المكلف أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم

الآخر، وما أمر به الرسول ونهى عنه، بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به،

فلابد من تصديقه فيما أخبر والانقياد له فيما أمر [٦] .

ولذا فإن الاشتغال مثلاً بتعلم وتعليم» الأصول الثلاثة «من آكد المهمات،

فيجب على كل مكلف أن يعرف ربه سبحانه وتعالى، ونبيه -صلى الله عليه

وسلم- ودينه الإسلام، وهذا ما جاء في حديث جبريل المعروف حيث يتعين على

المكلف تحقيقها في دنياه، كما يُسأل عنها حين يوضع في قبره، ويُسأل عنها يوم

بعثه ونشره: ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين؟

الشمولية في تعلم العقيدة وتعليمها:

فلا يقتصر على تقرير مسائل في الاعتقاد مع إهمال نظيرها أو آكد منها كأن

يُشتغل مثلاً بتقرير توحيد الربوبية مع إهمال توحيد العبادة، أو يُحذّر من الشرك

في الدعاء والذبح والنذر، مع إهمال أو تساهل في شرك الطاعة كما هو مشاهد في

واقع كثير من المسلمين الآن.

إن هذه الشمولية تحقق الأخذ بجميع أحكام الشرع، والإيمان بشعائر

الدين كافة، قال الله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة] ...

[البقرة: ٢٠٨] ، وقال سبحانه: [والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا] [ال عمران: ٧] ، وإن هذه الشمولية تورث إيماناً بجميع النصوص الشرعية، وتستلزم وسطية وخيرية بين الطوائف والفرق التي أهملت تلك الشمولية، حيث آمنت تلك الفرق ببعض النصوص وأخذت بها وأنكرت بقية النصوص وأعرضت عنها.

وهذه الشمولية تورث اعتدالاً في التلقي والفهم، فنسلم من ردود الأفعال،

ومقابلة الانحراف بانحراف آخر كما هو حال أهل البدع والأهواء.

هكذا نتعامل مع المخالف:

ومع هذه الشمولية في التعلم والتعليم لمباحث الاعتقاد، فإن الانحرافات ظاهرة

في حياتنا الحاضرة تستدعي مزيداً من التفصيل في سبيل الرد على هذا الانحراف،

وكشف شبهات المخالف وتفنيدها، وهذا مسلك مأثور سلكه سلفنا الصالح رحمهم الله

تعالى.

» فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله هل لهم رخصة أن يقول الرجل:

كلام الله ثم يسكت [٧] ، فقال أحمد: ولمَ يسكت؟ لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه

السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون « [٨] .

فكان الإمام أحمد وغيره من السلف يعتقدون أن القرآن كلام الله تعالى، ولما

أظهر المعتزلة القول بخلق القرآن، لم يجد السلف بداً من مخالفتهم والرد عليهم،

والتفصيل في ذلك، فقالوا: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق فمنه بدأ وإليه يعود.

ومثال آخر:» أن علماء الكوفة القائلين بأن الإيمان قول وعمل أكثر من

غيرهم في بقية الأمصار، حيث إن الإرجاء ابتداء كان فيهم أكثر، كما أن التجهم

وتعطيل الصفات لما كان ابتداء حدوثه من خراسان، كثر من علماء خراسان ذلك

الوقت من الإنكار على الجهمية ما لم يوجد قط لمن لم تكن هذه البدعة في بلده ولا

سمع بها « [٩] .

والناظر إلى واقعنا يرى أنواعاً كثيرة من الانحرافات الظاهرة في باب

الاعتقاد، كتولي الكفار وموالاتهم، وانتشار المذاهب الفكرية والأدبية المنحرفة

وظهور عدة طواغيت وأرباب من أمثال مجددي ملة» عمرو بن لحي «الداعين

إلى عبادة الأوثان والأموات، ودعاة تحكيم القوانين الوضعية والدساتير الأرضية

... وغيرها.

ومع خطر هذه الانحرافات وشناعة أثرها فإن الجهود المبذولة تجاهها قليلة

محدودة، وفي المقابل فإن جهوداً كبيرة ومؤلفات كثيرة تصرف في تحصيل حاصل، وتقرير أمور اعتقادية هي محل اتفاق بين المسلمين الآن.

أهمية تحقيق الحدود والتعريفات:

من المعالم المهمة في فهم العقيدة: الاعتناء بالتعريفات، والعلم بحدود ما أنزل

الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فعلى المعلم والمتعلم أن يهتما

بتحقيق الحدود والتعريفات لمصطلحات الاعتقاد مثل الإيمان والنبوة والمعجزة ...

الخ بحيث تكون جامعة مانعة، فلا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو

داخل فيها، فيتوصل إلى التصور الصحيح لتلك المصطلحات، ومن ثم يعرف

ضرورة ما يناقض تلك المصطلحات.

ومن ثم فإن المعرفة الصحيحة لحد الإيمان مثلاً يورث علماً صحيحاً في

معرفة حد الكفر الذي يناقض الإيمان، فإذا كان الإيمان قولاً وعملاً، فكذا الكفر

قول وعمل، ولما ضل المرجئة في معنى الإيمان فجعلوه تصديقاً فقط أورثهم ذلك

ضلالاً آخر عندما حصروا الكفر في التكذيب فحسب.

وهناك جملة من أقوال أهل العلم في بيان أهمية هذا المَعْلَم:

يقول ابن تيمية:» الألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن

مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته، وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن

نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر ... « [١٠] .

ويقول ابن القيم:» معرفة منازل العبودية ومراتبها من تمام معرفة حدود ما

أنزل الله على رسوله، وقد وصف الله تعالى من لم يعرفها بالجهل والنفاق فقال

تعالى: [الأعراب أشد كفراْ ونفاقاْ وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على

رسوله] [التوبة: ٩٧] ، فبمعرفة حدودها دراية، والقيام بها رعاية يستكمل العبد

ويكون من أهل إياك نعبد وإياك نستعين « [١١] .

ويقول أيضاً:» فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولاسيما حدود

المشروع المأمور والمنهي، فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود حتى لا يدخل فيها ما

ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها ... « [١٢] .

ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:» اعلم أن

مَنْ تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها

الخاصة، عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى

الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما،

لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة

الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة « [١٣] . ...

مثالان مهمان:

من التنبيهات المهمة في هذا الموضوع: معرفة منشأ النزاع وأصله في أبواب

الاعتقاد التي وقع فيها الافتراق، فإن معرفة ذلك يورث فهماً صحيحاً، ويميز

المذهب الحق من المذاهب الباطلة، كما يعطي تصوراً صائباً لأقوال المخالفين

وأوجه الاتفاق والاختلاف معهم، وأضرب لذلك مثلين: أحدهما مسألة الإيمان

فالأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان هو دعوى أن الإيمان حقيقة واحدة لا

تتبعض ولا تتجزأ، فمتى ذهب بعضه ذهب كله فلم يبق منه شيء.

يقول ابن تيمية:» وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج

والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال

بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه، وبقاء

بعضه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يخرج من النار من كان في قلبه

مثقال حبة من الإيمان) [١٤] « [١٥] .

والمثال الآخر: أصل الضلال في مسألة القدر هو التسوية بين مشيئة الله

تعالى وإرادته، وبين محبته ورضاه، فسوى بينهما الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا،

فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً وقالت القدرية

النفاة ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة فهي خارجة عن

مشيئته وخلقه [١٦] .

هذا ما تيسر إيراده من معالم وتنبيهات في فهم العقيدة، راجياً من الله تعالى

أن يعين على استكمالها، وبالله التوفيق.


(١) صحيح ابن ماجة ج١، ص ٤٨؛ المسند ج٢، ح/٢٣٨؛ وصحيح أبي داود ج٢، ص ٦٩٧، وقال الألباني صحيح.
(٢) سير أعلام النبلاء ٤/٢٥٩، وجاء في حلية الأولياء (٣/١٧٦) عن محمد بن الحنفية.
(٣) أخرجه أحمد والترمذي.
(٤) التمهيد لابن عبد البر ٦/١٤.
(٥) انظر: كتاب برنامج عملي للمتفقهين، لعبد العزيز القارئ، ص ٤٠.
(٦) انظر تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى لابن تيمية ٣/٣١٢، ٣٢٧، ودرء تعارض العقل والنقل ١/٥١، وشرح الطحاوية ١/٧.
(٧) يعني حال الواقفة الذين يقولون: القرآن كلام الله، ويسكتون فلا يقولون مخلوق كالمعتزلة والجهمية ولا يقولون غير مخلوق كأهل السنة، وقد عدهم السلف من الجهمية، بل شر من
الجهمية، لما يتضمنه سكوتهم من اللبس والتضليل.
(٨) مسائل الإمام أحمد لأبي داود، ص ٢٦٣.
(٩) مجموع الفتاوى ٧/٣١١.
(١٠) مجموع الفتاوى ١٢/١١٣.
(١١) مدارج السالكين ١/١٤٠.
(١٢) الفوائد: ١٣٣.
(١٣) منهاج التأسيس: ١٣.
(١٤) البخاري ج١، ص ١١، كتاب الإيمان ح/١٥، مسلم كتاب الإيمان ح/١٤٨.
(١٥) مجموع الفتاوى ٧/٥١٠.
(١٦) انظر مدارج السالكين ١/٢٥١، شرح الطحاوية ١/٣٢٤.