للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات اقتصادية

الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة

المشكلة الاقتصادية وعلاجها من المنظور الإسلامي

-٤-

د. محمد بن عبد الله الشباني

في الحلقة السابقة ناقشنا علاقة التوزيع بعناصر الإنتاج، وبالتحديد دور

عنصر العمل باعتباره أهم عناصر الإنتاج تأثيراً في وجود المشكلة الاقتصادية

وكيفية معالجة الإسلام لعنصر العمل من ناحية أهميته النسبية من العملية الإنتاجية،

وفي هذه الحلقة سوف نتتطرق إلى مناقشة عنصر الموارد الطبيعية باعتباره

عنصراً من عناصر الإنتاج وعلاقة هذا العنصر بتوزيع الدخل القومي وتأثيره على

بروز المشكلة الاقتصادية، ومعالجة الإسلام لهذا العنصر من عناصر الإنتاج.

يقصد بالموارد الطبيعية وفقاً للمفهوم الاقتصادي: كل ما على سطح الأرض

من تربة وبحار وأنهار، وما فوقها من ضوء ورياح، وما في جوفها من ثروات

معدنية، إن هذا العنصر من عناصر الإنتاج هو مجال الاستغلال وهو الذي يمارس

الإنسان دوره فيه من خلال العمل للاستفادة مما أودع الله في أرضه وسمائه من

رزق لسد حاجات الإنسان.

الموارد الطبيعية والاقتصاد:

وعلاقة الموارد الطبيعية بالمشكلة الاقتصادية تتمثل في مدى الاستفادة مما في

الأرض من خيرات، وتحريك بقية عناصر الإنتاج لاستغلال هذه الموارد. إن عدم

استغلال الموارد الطبيعية المتاحة بأسلوب اقتصادي سليم يحقق النفع العام وتيسير

حاجات الأفراد يساعد على بروز المشكلة الاقتصادية، فأهمال الموارد الطبيعية

وعدم استغلالها يؤدي إلى تعطل بقية عناصر الإنتاج الأخرى مما يساعد على تفاقم

المشكلة الاقتصادية كما أن أسلوب الاستغلال للموارد الطبيعية وعدم مراعاة التوازن

عند الاستغلال يؤدي إلى استنزاف الموارد أو أهدارها وبالتالي تفاقم المشكلة

الاقتصادية أيضاً.

قواعد وضوابط:

لقد وضع الإسلام قواعد وأرشد إلى مناهج في كيفية استغلال الموارد الطبيعية

بالشكل الذي يخدم اقتصاديات المجتمع، ويحقق التوازن في استغلال الموارد

الطبيعية، ويزيل ويبعد الوسائل المسببة لإهدار الموارد مما يقلل من تأثير عنصر

الموارد الطبيعية في تفاقم المشكلة الاقتصادية.

وترتكز القواعد التي عالج بها الإسلام عنصر الموارد الطبيعية على نظرته

بأن ما في السموات والأرض قد سخر لمصلحة الإنسان ومعاشه، وأن على الإنسان

أن يبذل طاقته للاستفادة مما وهبه الله من موارد خلقت لتوفر احتياجات الإنسان

المادية، ويمكن تحديد القواعد التي يأمر الإسلام بتبنيها عند معالجته لعنصر الموارد

الطبيعية في الأمور التالية:

أولاً: الحث على استغلال الموارد المعطلة بتوجيه ولاة أمر المسلمين بالتدخل

بوضع القواعد والضوابط المؤدية إلى استغلال الموارد المعطلة فقد روى أبو داود

عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري أن عامر الشعبي حدثه أن رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها

فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له» [١] ، وهذا الحديث يرشد إلى عدم ترك الموارد

المعطلة بدون استغلال، وإن للمجتمع المسلم الحق في التدخل في استغلال هذه

الموارد المعطلة حتى ولو كانت ملكيتها ملكية فردية، وعلى ضوء هذا الحديث

يمكن أن تقوم الدولة المسلمة بوضع القواعد الإجرائية فيما يتعلق بالمنشآت

الصناعية، أو الزراعية، أو غيرها من الأصول الثابتة المنتجة عند عجز ملاكها

عن تشغيلها بالتدخل بتشغيلها؛ لأن هذا الإجراء سوف يؤدي إلى التقليل من تفاقم

المشكلة الاقتصادية وذلك باستمرارية الإنتاج واستغلال القوى العاملة في هذه

المشاريع وعدم تعطلها، وبالتالي الحد من إهدارها، وحقيقة المشكلة الاقتصادية في

العالم الإسلامي تكمن في عجز الدول الإسلامية عن ممارسة دورها في استغلال

الموارد الطبيعية، بل إن إهدار الموارد الطبيعية هو السمة البارزة في الممارسات

الاقتصادية لمعظم الدول الإسلامية.

ثانياً: منح الامتياز إذا وجدت علاقة ما بين الموارد الطبيعية وحاجة الناس

لفئة من فئات المجتمع على حساب الفئات الأخرى: فالموارد الطبيعية التي يحتاج

إليها الناس وهي ميسره وفي متناول الجميع لا يحق لشخص امتلاكها وليس للدولة

إعطاء حق الامتياز لشخص أو فئة وبالتالي احتكار منافعها، فحبس مورد طبيعي

يحتاج إليه الناس وجعله في أيدي فئة معينة من الناس من الأمور المسببة لوجود

المشكلة الاقتصادية سواءً بتعطيل الاستفادة من هذا المورد أو من خلال احتكاره

وحرمان فئات من الناس من الاستفادة منه لعدم قدرتهم على دفع الثمن المطلوب لقاء

حق الامتياز أو الإقطاع، ولكن حق منح الامتياز والإقطاع موكول إلى ولي الأمر

ضمن احتياج المورد الطبيعي حتى يمكن استغلاله، أي أن المورد الطبيعي بطبيعته

التي خلقها الله عليها يحتاج إلى جهد ومال للاستفادة منه، منع الامتياز إنما يعود

إلى الموارد الطبيعية الظاهرة التي يمكن لجميع الناس الاستفادة منها مثل الملح

أوالكلأ أو التراب أو الرمال وغير ذلك من الأمور الظاهرة علي وجه الأرض،

التي يمكن للناس الاستفادة منها مباشرة، وقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسلام

فيما رواه ابن ماجه عن ثابت بن سعيد عن جده أبيض بن حمال: «أنه استقطع

رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الملح الذي يقال له ملح سدّ بمأرب فأقطعه له،

ثم إن الأقرع بن حابس التميمي أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا

رسول الله إني قد وردت على الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس بها ملح ومن

ورده أخذه، وهو مثل الماء العدّ، فاستقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أبيض

بن حمال في قطيعتة في الملح فقال أبيض: قد أقلتك منه على أن تجعله مني صدقة

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هو منك صدقة، وهو مثل الماء العدّ من

ورده أخذه» [٢] . وروي ابن ماجة بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلاء والنار وثمنه

حرام» [٣] وفي رواية أخرى لابن ماجة بسنده عن أبي هريرة «ثلاث لا يمنعن

الماء والكلاء والنار» [٤] ، فمن جملة هذه الأحاديث يتضح مراعاة حاجة الناس

الظاهرة البارزة للمورد الطبيعي، وأن الحاجة العامة للمورد الطبيعي تمنع ولي

الأمر من منح امتيازه لأي فئة من الفئات حتى لا يؤدي ذلك إلى إحتكاره والإضرار

بالناس والتأثير على عرض هذه المادة التي يستفاد من أخذها من المورد الطبيعي

مباشرة، حيث إن منح حق امتياز استغلالها لفئة من الناس أو إقطاعها لفئة من

الناس أو لشخص أو لأشخاص سيؤدى إلي قلة العرض، وارتفاع سعرها وعجز

الناس عن تملكها مع حاجتهم الماسة إليها وشرائها من محتكرها الممنوح له حق

امتيازها.

ثالثاً: تدخل الدولة المباشر باستغلال الموارد الطبيعية غير المستغلة وفق

خطط إنتاجية استثمارية يضعها ولي الأمر وفق الظروف والمعطيات المتوفرة

وبأسلوب يدفع أفراد الأمة لاستغلال هذه الموارد الطبيعية المعطلة، أي أن من

السياسات التي يحبذها الإسلام عدم العمل المباشر في استغلال المورد الطبيعي وإنما

العمل على تشجيع الأفراد باستغلال مدخراتهم، وبالتالي المساهمة في حل المشكلة

الاقتصادية من خلال قيام الدولة في توفير رأس المال الخاص باستغلال الموارد

الطبيعية وتوفير الظروف للقوى العاملة في المساهمة في استغلال هذه الموارد، فقد

أخرج البخاري مرسلاً عن قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال: «ما بالمدينة أهل

بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع على وسعد بن مالك وعبد الله

ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي

وابن سيرين، وقال عبد الرحمن بن الأسود كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في

الزرع، وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن

جاؤوا بالبذر فلهم كذا» [٥] ، ومن هذا الحديث ندرك السياسة التوزيعية لعناصر

الانتاج، التي تقوم علي العمل على دفع عوامل الإنتاج الأخرى لتحقيق التوازن بين

مختلف عناصر الإنتاج، وتوزيع الدخل القومي بين هذه العناصر لمعالجة جانب

الإنتاج في المشكلة الاقتصادية.

رابعاً: استغلال الموارد الطبيعية من خلال تدخل ولي الأمر في إعادة توزيع

الفائض من الاستغلال عن طريق وضع التنظيمات الخاصة والقواعد المنظمة التي

تساعد على الاستفادة من مكونات الناتج القومي مع مراعاة حقوق التملك الخاصة

وذلك بالتدخل لتحقيق المصلحة العامة لزيادة الناتج القومي والإقلال من تأثير

العناصر المرتبطة بالموارد الطبيعية من التأثير في إيجاد المشكلة الاقتصادية

واستفحالها، ولقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسلام الجوانب في كيفية تحقيق

ذلك من خلال التوجيه النبوي للأمة فمن ذلك ما رواه البخاري وابن ماجة عن أبي

هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لا تمنعوا

فضل الماء لتمنعوا به الكلأ» وفي لفظ ابن ماجه «لا يمنع أحدكم فضل ماء ليمنع

به الكلأ» [٦] . كما أوضح الحديث الأخر الذي رواه ابن ماجة عن جابر بن عبد

الله رضي الله عنهما قال نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع فضل

الماء وفي رواية له «لا يمنع فضل الماء ولا يمنع نقع البئر» [٧] ونقع البئر هو

الزائد من مائها أو المجتمع، فمن هذه الأحاديث يمكن فهم التوجيه النبوي في

معالجة الاستفادة منها عند عدم توفر المياه، وبالتالي فإنه في حالة وجود بئر مملوكة

لفرد فإن عليه أن يمنح الرعاة ما زاد عن حاجته حتى يمكن الاستفادة من الكلأ في

المناطق المتاخمة للبئر، كما قد يفهم أنه في حالة توفر مياه زائدة عن حاجة مالك

لبئر، فإن عليه أن يمنح ما زاد عن حاجته في زراعته إلى الآخرين ممن لا يوجد

لديهم الماء، وهذا يؤدي إلى قيام الأفراد باستغلال الأراضي المجاورة لمن يتوفر

لديه الماء مع مراعاة عدم الإضرار بمالك البئر، وهذا ينطبق في حالة تعطل

وسائل رفع الماء لدى أحد المزارعين مما قد يحتاج إلى ما زاد عن ماء جاره حتى

لا يخسر إنتاجه ويمكن القياس على ذلك فيما يتعلق، في حالة تعطل مورد من

الموارد الطبيعية عن الاستغلال وإمكانية استغلال هذه الموارد ولو بالتدخل في

تنظيم استغلال الزائد من الموارد الطبيعية.


(١) سنن إبي داود كتاب البيوع، صحيح سنن أبي داود ح/٣٠٠٩ ج٢ص ٦٧.
(٢) سنن ابن ماجه كتاب الرهون، باب إقطاع الأرض والعيون، ح/ ٢٤٧٥، صحيح سنن ابن ماجه ح/٢٠٠٦ ج٢ص٦٤، ٦٥، وحسنه الألباني.
(٣) سنن ابن ماجه كتاب الرهون، باب (المسلمون شركاء في ثلاثة) ، ح/ ٢٤٧٢، صحيح ابن ماجه ج٢/٦٤ ح/٢٠٠٤، قال الألباني صحيح دون " ثمنه حرام ".
(٤) ابن ماجه، كتاب الرهون، (باب المسلمون شركاء في ثلاثة ح/ ٢٤٧٣، صحيح ابن ماجه ح/٢٠٠٥ ج ٢/٦٤.
(٥) أخرجه البخاري، كتاب الحرث والمزارعة - باب المزارعة بالشطر ونحوه وأشار ابن حجرإلى أنه موصول من طريق أخرى.
(٦) البخاري كتاب الأشربةح/٢٣٥٣، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج٥ص٣٩.
(٧) أخرجه ابن ماجه كتاب الرهون، باب النهي عن بيع فضل الماء، ح/ ٢٤٧٩، وصححه الألباني، صحيح ابن ماجه ح/٢٠١٠، ج٢ ص٦٥.