للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مراجعات شرعية

أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ

محمد شاكر الشريف

لقد أصبحت اليوم قضايا الإسلام وأحكامه الشرعية مرعى خصباً وكلأ مباحاً،

ترعاه السوائم من كل لون وجنس، ويشعر المرء بكثير من الضيق والضجر،

والغضب، وذلك عندما يطالع في كثير مما يكتب أو يستمع إلى كثير مما يقال،

فيجد الجهل والجور والحيف في تناول الأمور الشرعية، لكن هذه الحالة التي يكاد

يعيشها المرء يوميا وذلك بفعل الدخلاء والمتطفلين على الكلام في أمور الإسلام

تزداد أكثر وأكثر، ويزداد حرها ولهيبها اللافح، عندما يقع ذلك الخلط والتخليط،

والحيف، والجور، والتحريف من رجل مشهور يشار إليه من بين الناس، أومن

جماعة مشهورة لها رصيدها عند الناس.

وقد يكون الدافع أحياناً لهذه الرغبة في تحصيل منفعة شخصية، أو حفاظاً

على منصب زائل، أو دفعاً لمضرة متوهمة، وقد يكون الدافع أحياناً لذلك هو

الرغبة في عمل ما يسمونه «مصالحه» مع بعض الأنظمة الحاكمة بغير ما أنزل

الله، أو إنهاء أزمة معه، أو الحصول على ما يسمونه «بعض المكاسب» من

مثل السماح بدخول الانتخابات، أو إصدار مجلة، أو غير ذلك.

وبغض النظر عن مناقشتنا لتلك الرغبات، وما إذا كانت مقبولة أو مرفوضة، فإن الذي ينبغي أن يكون واضحاً للجميع أنه لا يمكن أن تكون تلك «المساومات» على حساب الإسلام، وعلى حساب أحكامه، وشرائعه ومناهجه وثوابته، وإلا فإن الحركة الإسلامية الناضجة لن تغفر هذه «المساومات» لأصحابها، وسوف تعزلهم، وفي النهاية سوف تلفظهم، ولن يحصد المرء غير ما زرع أقول الذي دعاني إلى كتابة ذلك، هو ما قرأته في جريدة الحياة يوم الأحد بتاريخ

٣٠/٢/ ١٤١٥ ص٥ العدد ١١٤٩٤ من بيان أصدرته جماعة إسلامية كبيرة، لها رصيدها، ولها ريادتها في مجال العمل الإسلامي.

ولا يعنيني الآن رغم كثرة ما تعرض له بيان الجماعة غير موضعين:

الموضع الأول: قول بيان الجماعة: (إنهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة،

ويعتبرون أنفسهم جماعة من المسلمين، وإن عقيدتهم، وفكرتهم من حيث النقاء

والأصالة لا تشوبها شائبة، كما إن مناهجهم واضحة، ومتميزة من حيث اعتمادها

على الكتاب والسنة، والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات) .

ونحن هنا لا يعنينا أن ننقب وراء هذا الكلام في تراث الجماعة لنرى مدى

صوابه من خطئه، ويكفينا هذا الإعلان الذي يمثل أصلاً قويماً، ينبغي أن يقوم

عليه أي عمل إسلامي، وهو يمثل في الوقت نفسه مقياساً لمدى قرب العمل

الإسلامي أو بعده عن حقيقة الإسلام.

إن إعلان مثل هذا الأصل من أي جماعة تعمل للإسلام، لابد أن يلقى

الترحيب والإشادة، ويستقبل بالسرور والسعادة من أولئك الذين يهمهم أمر الإسلام

ويعيشون له، وينبغي تشجيع أصحابه على التمسك به وإعانتهم عليه وانطلاقاً من

تشجيعنا لتلك الجماعة على الالتزام بهذا الأصل، الذي أعلنوه ومساعدتنا لهم

للمضي فيه قدماً، ننتقل إلى الموضع الثاني لنناقشه انطلاقاً من الأصل المذكور.

الموضع الثاني: فقد جاء في بيان الجماعة أن «الشريعة الإسلامية أباحت

لغير المسلمين حرية العقيدة، والعبادة، وإقامة الشعائر، وحرية الأحوال الشخصية، وعملت على حماية ذلك إلى أبعد مدى» ..

ويمضي البيان إلى أن يقول عن جماعته أنها «ترى أن المواطنة، أو

الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة، وأن هذه

المواطنة أساسها المشاركة الكاملة، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات، مع

بقاء مسألة الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث طبقاً لعقيدة كل مواطن

وبمقتضى هذه المواطنة، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى

» الجماعة «أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل

المناصب الأخرى من مستشارين، ومديرين، ووزراء، ويمثل النصارى مع

المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت

ألوانه، وتماسكت عناصره» ، وقد يتعجب المرء ويتساءل هل من الممكن أن

يكون الذي كتب تلك الفقرة، هو نفسه الذي كتب الفقرة السابقة التي نقلناها؟ !

شيء عجيب حقاً لكن على أي الأحوال ننتقل الآن إلى مناقشة تلك الفقرة الأخيرة

على ضوء الأصل الذي ذكرت الجماعة أنها متمسكة به.

أولاً: هل أباحت الشريعة الإسلامية فعلاً لغير المسلمين حرية الاعتقاد.. إلى

آخر ما قال البيان، مع العلم أن «غير المسلمين» وهو التعبير الذي آثر بيان

الجماعة استخدامه يشمل اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والشيوعيين،

وعبدة الأوثان، وعبدة الأبقار، وكل كافر أو مشرك.

فأين نجد تلك الإباحة في «الكتاب والسنة، والفهم الصحيح، الذي أجمع

عليه أهل العلم الثقات» ؟ إن الشريعة لم تبح قط الكفر بالله أو الشرك به ولم تبح

قط التعبد بالعبادات الباطلة المبتدعة، ولم تبح قط فعل المنكرات والمعاصي، وإنما

الخلاف قد وقع بين أهل العلم في شأن أهل الكتاب: اليهود والنصارى وما سواهما

من الكفار، هل يعاملون معاملة أهل الكتاب، أم ليس إمامهم إلا الإسلام أو السيف؟ لأدلة عندهم في ذلك لامجال للحديث عنها هنا ولم تكرههم الشريعةعلى الدخول

في الإسلام [لا إكراه في الدين] ، أما «الإباحة» فلا، وفرق كبير بين

«الإباحة» وبين عدم الإكراه، فإن «المباح» هو الذي يستوي فيه الأمران: الفعل أو الترك، والكفر والشرك أكبر الكبائر فكيف يقال: إن الشريعة أباحت

ذلك؟ !

لكن لنقل: إن بيان الجماعة لم يقصد «الإباحة» بالمعنى الوارد في أصول

الفقه، وإنما أراد فعلاً عدم إكراه «غير المسلم» على ترك دينه والدخول في

الإسلام، بل تركت له الخيار بين الدخول في الإسلام أو البقاء على دينه.

ثانياً: لنفترض أن أصحاب البيان يأخذون بقول أهل العلم الذين يرون أن

ذلك الحكم غير مختص بأهل الكتاب، وأن جميع الكفار يشملهم الخيار في الدخول

في الإسلام أو البقاء على دينهم، لكن على أي نحوٍ جاء هذا الخيار سواءً أكان

لأهل الكتاب فقط، أو لجميع الكفار؟

إن مقتضى «الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم

الثقات أن ذلك لا يكون إلا بأن يصبح هؤلاء من» أهل الذمة «فيلتزموا بأحكام

» أهل الذمة «،» ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون «أما كتاب ربنا الكبير المتعال ففيه قوله: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] [التوبة: ٢٩] .

وأما سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-المؤيد من ربه، والذي لا ينطق عن

الهوى ففيها الكثير نذكر منها حديث بريدة الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه:

» اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.... . ثم ادعهم إلى الإسلام

فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك

فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.. « [١]

فالكتاب والسنة» يبينان أن السيف لا يرفع عمن يرفع عنه من الكفار إلا

ببذل الجزية عن يد وهم صاغرون، وذلك التزام بأحكام «أهل الذمة» .

وأما «الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات» ، فارجع إليه

وانظر في جميع كتب أهل العلم الفقهية بدون استثناء لتجد الآيات والأحاديث وأحكام

«أهل الذمة» المبنية عليها ولتعلم أن دار الإسلام، لا يقيم فيها كافر إقامة دائمة

إلا إذا خضع لأحكام «أهل الذمة» ، وبمقتضى هذا الخضوع يأمن أهل الذمة على

أنفسهم وأهليهم وأموالهم.

وعلى هذا فقول بيان الجماعة: «إن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة

لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة» ، لم يعتمد على الكتاب ولا على السنة ولا

على الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات، بل جاء مناقضاً لكل ذلك.

إن ما يقوله البيان هنا يعنى أن مصطلح «أهل الذمة» والأحكام المرتبطة به

قد انتهى، وأن بيان الجماعة قد استخرج له شهادة الوفاة، وكفنه ودفنه في ثياب

«المواطنة والجنسية» لكنها شهادة مزورة وثياب دنسة، وستبقى الأحكام الشرعية ثابتة شامخة رغم كل البيانات.

فيا أصحاب البيان: خبرونا ماذا تفعلون بنصوص كتاب ربنا وسنة نبينا

وبعمل الخلفاء الراشدين وأقوال الأئمة وتصانيف العلماء التي تحدثت عن أهل الذمة

وأحكامهم، ماذا تفعلون بهذا؟ أتقولون: إن بيانكم نسخ تلك الأحكام؟ ! وهل يملك

أحد من المسلمين أن ينسخ أحكام الشرع، أو أن يبدلها ويغيرها حسب هواه؟ !

وربما قد يعجب بعض القراء، وقد يستغرقون في الضحك الشديد ويقولون:

(ياعم: أين أنت الآن، وفيم تتكلم، وعن أية جزية أو صغار، وأين هذا الجهاد

الذي تتحدث عنه، وهل نستطيع أن نفرض ذلك على الكفار، ونحن الذين في

الحقيقة نكاد ندفع لهم الجزية عن يد ونحن صاغرون) .

وأنا أقول لصاحب مثل هذا الكلام:

أولاً: أن ذلك ليس كلامي جئت به من عند نفسي، وإنما هو نصوص الشرع

وأقوال أهل العلم، ونحن جميعاً مطالبون بالالتزام بذلك وعدم الخروج عنه.

ثانياً: أن المرء منا قد تمر به فترات ضعف أو عجز وسواء أكان هذا

الضعف أو العجز خارجاً عن إرادته فيكون معذوراً، أو كان ضعفاً وعجزاً ناتجاً

عن تقصير وجبن وخور فلا يكون معذوراً لا يتمكن معها من الصدع بكلمة الحق أو

الجهر بها أو العمل لها وإلزام الآخرين بها، لكن ليس البديل عن ذلك هو التحريف

والتبديل، فإذا لم يتمكن المرء من قول الحق أو فعله فلا أقل من الصمت، أما

النطق بالباطل والدعوة إليه وتزيينه للناس فمن من المسلمين يقبله؟ !

وإذا لم يستطع جيلنا القيام بذلك على الوجه المطلوب، فلا أقل يا أخي من أن

نترك للأجيال القادمة المفاهيم صحيحة غير مبدلة والثوابت غير محرفة فلعل الله

سبحانه يحقق على أيديهم ما عجز جيلنا عن تحقيقه (وإن كان لنا أمل في الله تعالى

أن يحقق نصر الإسلام على يد هذا الجيل) .

ثالثاً: ونمضي مع البيان حيث يذكر: «وإن هذه المواطنة أساسها المشاركة

الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات» وهذه هي النتيجة المنطقية طالما تم

إلغاء أحكام أهل الذمة وهي في نفس الوقت تمثل الطلب الذي طالما ألح الكفار في

الحصول عليه، وهو المساواة التامة في دار الإسلام بين المسلمين والكفار،

فياسبحان الله ما أشد ظلم هذه المساواة التامة وما أكثر مرارتها!

لكننا نمضي مع البيان ليفسر لنا هذه المشاركة الكاملة والمساواة التامة حتى

يكون كلامه هو الشاهد عليه، يقول بيان الجماعة: «وبمقتضى هذه المواطنة

وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده، ترى (الجماعة) أن للنصارى

الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من

مستشارين ومديرين ووزراء.

لقد أصبحت» المواطنة «في فقه تلك الجماعة أصلاً شرعياً، وقاعدة تُفَرّع

عليها الأحكام وتؤخذ منها التفاصيل، فها هو ذا يقول:» وبمقتضى هذه المواطنة «ولم ينس البيان أن يضيف إلى هذا الأصل أصلاً آخر ليناقض به الأحكام

الشرعية ألا وهو قوله:» وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده «

فهل تلك الحجج الباردة التي قدمها البيان:» (المواطنة «) وحتى لا يحرم المجتمع

من قدرات وكفاءات أفراده» هل تصلح تلك الحجج، لمعارضة الأحكام الشرعية

الثابتة!!

وقد نظرت في هذه الفقرة فوجدت أن كاتبها يتعامل مع العواطف وليس مع

أصول ثابتة يرجع إليها، وذلك أنه قصر تولى المناصب علىالنصارى «دون أن

يذكر» اليهود «وهم الذين يشملهم مع النصارى لفظ» أهل الكتاب «باتفاق أهل

العلم، فما هي القاعدة يا أصحاب البيان» التي استندتم إليها لإخراج اليهود من

تولي المناصب؟ ! وما النصوص الشرعية من «الكتاب والسنة والفهم الصحيح

الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات» التي تستندون إليها في التفرقة بين اليهود

والنصارى؟ ! الذي يبدو لي أن الكاتب أهمل ذكر اليهود رغم عدم وجود أدلة يستند

إليها في ذلك لأنه مازال يعيش في أجواء الحرب التي كانت بين المسلمين واليهود،

وربما كان يخشى من ردة الفعل الشعبي عند ذكر اليهود، لكن أقول لك يا أخي: لا

تخشَ شيئاً، فالآن قد انتهت الحرب وحل السلام، ولم يعد بين المسلمين واليهود

حروب، وبالتالي فلا تخشَ من ضياع التأييد الشعبي وكن منطقياً مع نفسك،

وأعلنها قل حتى يستقيم لك منطقك: «وبمقتضى هذه المواطنة، وحتى لا يحرم

المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى (الجماعة) أن للنصارى واليهود الحق أن

يتولوا....» إلى آخر ما جاء في الفقرة، بل وأضف البقية الباقية من غير

المسلمين وأنا أقول لأصحاب البيان: طالما أنكم أقررتم أن المواطنة أو الجنسية

حلت محل مفهوم أهل الذمة، فلماذا لا تقرون للمواطن اليهودي الذي يتمتع بجنسية

إحدى الدول العربية والإسلامية بالحق في تولى المناصب الوزارية والاستشارية؟ !

إنه لشيء ممتع حقاً من وجهة نظر بيان الجماعة أن نرى دولة مسلمة:

رئيسها مسلم، ورئيس وزرائها يهودي، والوزراء خليط من المسلمين واليهود

والنصارى، ولا بأس أن يكون رئيس مجلس الشورى نصرانياً، حتى تكون هناك

عدالة ومساواة في توزيع المناصب العليا لا سيما وأن لهم المشاركة الكاملة

والمساواة التامة في الحقوق والواجبات كما ذكر البيان فتكون رئاسة الدولة للمسلمين، ورئاسة الوزراء لليهود ورئاسة مجلس الشورى للنصارى! !

وعلى كلٍ فنحن نطالبكم بالكتاب والسنة أو الفهم الصحيح الذي أجمع عليه

أهل العلم الثقات أو اختلفوا فيه، والذي يبيح للنصارى جميع المناصب باستثناء

رئاسة الدولة.

أما نحن فنبرأ إلى الله تعالى من ذلك، ولا نقول بظُلم أهل الذمة ولا بالاعتداء

عليهم، ولكن لا ننزلهم إلا حيث أنزلتهم الشريعة، ولا نعطي لهم شيئاً حرمهم الله

ورسوله منه.

ومساعدة منا لكم على الالتزام بالحق، نذكر لكم من النصوص الشرعية والفهم

الصحيح لأهل العلم ما يبين بطلان ما ذكرتموه في الفقرة السابقة، وإن كان المرء

ليس في حاجة إلى ذكر تلك الأدلة، لأن ما ذكرتموه في الفقرة السابقة هو من الكلام

الذي يقال عنه: مجرد حكايته كاف في بيان بطلانه، بل إن الرجل المسلم العامي

صاحب الفطرة السليمة التي لم تدنس بمثل ما جاء في البيان إذا سمع ذلك الكلام

الذي ذكرتموه، فلابد أن يمجه ويرفضه ويستغربه، وإذا لم تصدقوني فانزلوا إلى

الشارع المسلم، وسلوا الناس وسوف تعرفون النتيجة.

يقول الله تبارك وتعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى

أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم..] [المائدة: ٥١]

يقول ابن كثير رحمه الله: «ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود

والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله ... ثم تهدد وتوعد من يتعاطى

ذلك فقال: [ومن يتولهم منكم فإنه منهم] » أليس من الموالاة لأهل الكتاب اليهود

والنصارى، جعلهم وزراء أو أعضاء في مجلس الشورى (مستشارين) ، إذا كنتم لا

توافقون على ذلك فلننظر إلى ذلك الأثر الوارد عن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد

الذي جعل الله الحق على قلبه ولسانه في فقه تلك الآية: «عن عياض الأشعري أن

عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في

أديم واحد، وكان له (أي لأبي موسى) كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب

عمر، وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام؟

فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر أجنب هو؟ قال: لا، بل نصراني، قال:

فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال: أخرجوه ثم قرأ [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا

اليهود والنصارى أولياء ... ] ، قال أبو موسى: والله ما توليته وإنما كان يكتب،

فقال عمر رضي الله عنه: أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب؟ ! ، لا تدنهم إذ

أقصاهم الله، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله، ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله» [٢] فانظروا

كيف رفض الخليفة الملهم اتخاذ كاتب نصراني يطلع على أمور المسلمين واحتج

على ذلك بالآية المذكورة، وأنتم لا تجعلونه كاتباً فقط، بل تجعلونه رئيساً للوزراء

ووزيراً ومستشاراً ومديراً وهلم جرا.

يقول بيان الجماعة في فقرته الأخيرة «ويمثل النصارى مع المسلمين في

مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه

وتماسكت عناصره» ، وإني لأتعجب: هل هذا كلام شرعي يعبر عن رؤية جماعة

إسلامية أم أنه موضوع إنشاء من النوع الذي يقال في المجاملات، وهل من الممكن

أن تكون هناك مجاملات على حساب الدين؟ ، الشيء الغريب والعجيب في آن:

أن النصارى أنفسهم لا يقبلون هذا الكلام ولا يرتضونه؛ لأن هذا الكلام يعنى أن

ذاتية النصارى وذاتية المسلمين قد ذابتا وتداخلتا معاً، وكونتا نسيجاً واحداً مما يعني

ضياع الشخصية المستقلة أو التنازل عنها، وإذا كنت لا تصدقني فسل وأظنك تعلم

قبل كثيرين غيرك ماذا يفعل كبير النصارى في بلدك ضد الإسلام والمسلمين،

وعلى كلٍ أنا لا أمنعك الحق في أن تعبر عن أحاسيسك وأشواقك أنت وجماعتك

تجاه النصارى، وابذل لهم كل ما تستطيع من تنازل أو لين في القول، لكن عليك

ألا تتعدى بهذه الأحاسيس والأشواق إطار جماعتك إلى المسلمين كلهم، فما أظن أن

أحداً خولك الحديث باسم المسلمين في بلدك.

ثم أقول: وهب أن الذي ذكرته أنت صحيح وهو غير صحيح لكن نفترض

ذلك أنه كان هو الواقع فعلاً، فهل وجود الاختلاط وعدم التمايز بين المسلمين

والنصارى يذكر على سبيل المدح أم يذكر على سبيل الذم وعلى سبيل تنبيه

المسلمين على التمايز عن الكفار والابتعاد عن مشابهتهم أو التشبه بهم؟ ! ألم

تسمعوا عن «الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على

أهل الذمة، والتي فيها منع تشبه أهل الذمة بالمسلمين والتي تحول دون حدوث ذلك

النسيج المزعوم.

ألم تسمعوا عن كتاب صنفه العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية» وهو يحذر

فيه أشد التحذير من ذلك النسيج الواحد الذي تدعونه، إنه كتاب «اقتضاء الصراط

المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» فارجعوا إليه فلعله يردكم عن إدعاء ذلك النسيج.

على كل حال إن لم تكونوا قد سمعتم بهذا ولا بذاك، فلا علينا أن نسمعكم

بعض أحاديث الرسول المصطفى التي تحرص على تمييز المسلمين عن غيرهم من

الكافرين سواء أكانوا من أهل الكتاب، أومن غيرهم، وتحول بين المسلم

وحدوث ذلك النسيج (الحضاري والاجتماعي والثقافي) الموحد.

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: منكراً على المسلمين ما يقع منهم من

مشابهة ومتابعة وموافقة لليهود والنصارى، ومنفراً لهم من ذلك وحاضاً على تركه، يقول: «لتتبعُن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا

جُحْر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» [٣] ، قال ابن حجر رحمه الله: «قوله: قال فمن: هو استفهام إنكار، والتقدير: فمن

هم غير أولئك» [٤]

ويقول -صلى الله عليه وسلم- «من تشبه بقوم فهو منهم» [٥] قال ابن

تيمية: «إسناده جيد وأقل أحواله: أنه يقتضي تحريم التشبه بهم» وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» [٦] ولا يُكَمّل رد السلام، بخلاف المسلم الذي يقال له: وعليكم السلام ورحمة الله، أليس في هذه الأحاديث منعٌ للنسيج الثقافي والحضاري والاجتماعي الواحد، ألا يشعر المسلم من مثل هذه التوجيهات حرص الإسلام على إقامة حاجز نفسي بين المسلم وغيره، يمنعه من الانجذاب نحوه، وإذابة الفوارق بينه وبين غيره.

وفي النهاية أقول لأصحاب البيان: ما الغرض، ومن المستفيد، ومن

يرتضي ذلك البيان؟

فإن كان الغرض أن يرضى عنكم «الأسياد» المحليون أو غيرهم، فأنا

أقول لكم تصديقاً لقول ربي مادمتم ترفعون شعار الإسلام، ولو تنازلتم عن أمور

كثيرة، فلن يرضوا عنكم، كما قال تعالى: [ولن ترضي عنك اليهود ولا

النصارى حتى تتبع ملتهم] [البقرة: ١٢٠] أما إن كان الغرض هو الدفاع عن

الإسلام، فإن ذلك لا يمكن أن يتم عبر العبث بأحكامه أو التنازل عنها.

وأما المستفيد، فلا يستفيد من هذا البيان إلا أعداء الله ورسوله والمؤمنين لأن

أي محاولة لتغيير أو تحوير في ثوابت الإسلام ومفاهيمه لن تصب إلا في مصلحتهم، ولن تؤدي إلا إلى تزييف وعي الشعوب المسلمة، وبالتالي رواج الأباطيل بينها،

وسهولة انقيادها للطواغيت.

وأما الرضا، فإن هذا البيان لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين؛ لأنه

لايمكن الرضا بما فيه خروج على أحكام الشريعة.

وأخيراً فلي رجاء: هل أطمع في بيان آخر يتم فيه الرجوع إلى الحق

والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولأن يكون المرء ذيلاً في الحق

خير له من أن يكون رأساً في الباطل، آمل ذلك، لا سيما أنكم إناس مسلمون

تحبون الله ورسوله وتودون خدمة دينكم، وإن شاء الله لن يخيب ظني فيكم ولعل

هذا البيان كان فرصة لنا لنقدم هذه الأمور التي ربما تكون قد غابت عن بعضهم،

لا سيما وأن بعض المناوئين لأحكام الشريعة، يبثون مثل هذه الأقوال في مقالاتهم

وأحاديثهم.

والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم.


(١) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ح/١٧٣١.
(٢) تفسير ابن كثير ٢/١٠٨، فتح الباري ١٣/١٩٦.
(٣) البخاري كتاب الاعتصام بالسنة باب/١٤، ح/٧٣٢٠.
(٤) فتح الباري ١٣/٢٠١.
(٥) أبو داود ٤/٣١٤، مسند أحمد ٣/١٤٢ وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني.
(٦) البخاري كتاب الاستئذان باب ٢٢، ح/٦٢٥٨.