للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات اقتصادية

الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة

المشكلة الاقتصادية وعلاجها من المنظور الإسلامي

- ٥ -

د. محمد عبد الله الشباني

في الحلقتين السابقتين الثالثة والرابعة ناقشنا علاقة التوزيع بعنصرين من

عناصر الإنتاج وهما عنصر العمل والموارد الطبيعية ومدى تأثيرها في وجود

المشكلة الاقتصادية وكيفية معالجة الإسلام لهذين العنصرين من ناحية أهميتهما

النسبية في العملية الإنتاجية، وعلاقتهما التأثيرية في بروز المشكلة الاقتصادية.

وفي هذه الحلتقة سوف نناقش دور رأس المال باعتباره من عناصر الإنتاج

في العملية الإنتاجية وأهميته النسبية في التأثير في بروز المشكلة الاقتصادية.

والمفهوم الاقتصادي لرأس المال: هو كل ثروة تدخر وتستخدم في إنتاج ثروة

أخرى، فهو بهذا يشمل الكثير من الثروات بل الثروات المدفوعة على الإنتاج

كالأرض والمناجم والمواد الأولية وأدوات الإنتاج كالآلات والمنشآت الصناعية

والزراعية والتجارية والنقد، وينقسم رأس المال إلى ثابت وهو الذي يستخدم أكثر

من مرة واحدة في الإنتاج ورأس مال متداول وهو الذي لايستخدم غير مرة واحدة

مثل البذور والمواد الأولية.

يحتاج تكوين رأس المال إلى توافر ثلاثة عوامل هي الموارد الطبيعية والعمل

والادخار، والادخار ضرورة لتكوين رأس المال حيث إن الادخار عامل يوجد لأنه

يعمل على تحريك بقية عناصر الإنتاج الأخرى، وبالتالي يختلف عن الاكتناز،

الذي يقوم على الاحتفاظ بالثروة من غير تفكير في استثمارها.

لقد أعطى الإسلام لرأس المال دوراً مهماً ومؤثراً، بل إن كثيراً من

التوجيهات النبوية والممارسات التي تمت في عهده عليه الصلاة والسلام ومن بعده

خلفاؤه تؤكد حقيقة أن لرأس المال دوراً في استغلال بقية عناصر الإنتاج وبالتالي

تتخذ السيادة التحويلية للدولة الإسلامية توجها خاصاً فيما يتعلق باستخدام رأس المال

في تحريك الاقتصاد ومعالجة المشكلة الاقتصادية، ومن ذلك ما أشرنا إليه في

الحلقة السابقة من حديث قيس بن مسلم الذي رواه البخاري «وعامل عمر الناس

على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا» [١]

فعمر رضي الله عنه بهذه السياسة المنهجية أوضح ما لرأس المال من دور في

استغلال عنصري العمل والموارد الطبيعية، ورأس المال المتاح سواء من خلال

مساهمة الدولة يكون في تقديم رأس المال التشغيلي أو رأس المال الثابت.

إن المنهجية التي يقوم عليها الإسلام عند معالجته لرأس المال تقوم على أسس

وقواعد تساعد على أن يكون لرأس المال دور في معالجة المشكلة الاقتصادية من

ناحية استخدامه باعتباره أحد الأدوات المهمة في استغلال واستثمار بقية عناصر

الإنتاج، وبالتالي تقليص التأثيرات السلبية للمشكلة الاقتصادية على الناتج القومي

مع تحقيق التوازن فيما يتعلق بتوزيع الدخل القومي.

والقواعد والأسس التي ترتكز عليها المنهجية الإسلامية في معالجتها لاستخدام

رأس المال باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج وأداة لمعالجة المشكلة الاقتصادية

تتمثل في الأمور التالية:

أولاً: الحث على الادخار واعتباره أهم وسيلة من وسائل تكوين رأس المال

وأنه سبب من أسباب انتفاء الفقر فقد روى أحمد في مسنده عن أبي الدرداء رضي

الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: «من فقه الرجل رفقه في

معيشته» [٢] ، والفقه المقصود في هذا الحديث هو جودة الفهم وحسن المعرفة،

والرفق في المعيشة هو القصد في الإنفاق من غير إسراف وفي هذا الحديث توجيه

للأمة بمراعاة القصد في الإنفاق والحث على الادخار، ويساند هذا الحديث ما رواه

أحمد والطبراني في الأوسط عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما عال من اقتصد « [٣] ، والمقصود بالعول

في هذا الحديث نفي الفقر عن من اقتصد في نفقته، فلم يبخل ولم يبذر، وفعل

الرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد هذا المقصد من التوجيه فقد روى البخاري في

صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه» أن النبي -صلى الله عليه وسلم-

كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم « [٤] ، ففي هذا العمل من

الرسول -صلى الله عليه وسلم-إرشاد للأمة إلى العمل على الإدخار ومراعاة

مستقبل الأيام وعدم اكتناز ما زاد عن حاجته من الإنتاج بحيث يساعد في هذا على

توافر السلع في الأسواق.

ثانياً: الاهتمام برأس المال العيني بالمحافظة عليه وإطالة العمر الإنتاجي له

وتجنب أساليب الاستهلاك المضرة، التي تؤدي إلى تقصير العمر الإنتاجي فرأس

المال العيني هو رأس المال الثابت للمنتج، الذي يمثل الأداة التي تحرك بقية

عناصر الإنتاج، ولهذا فإن الإسلام يوجه الانتباه إلى الاهتمام برأس المال العيني

(الثابت) فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه» أن قدح النبي -

صلى الله عليه وسلم-انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة قال عاصم رأيت

القدح وشربت فيه « [٥] ، ففي هذا الحديث توجيه واضح وإرشاد بضرورة ...

الاهتمام والعناية برأس المال المنتج والمستخدم بقصد إطالة الاستفادة منه، فيمكن

قياس الآلات والمعدات المكونة لرأس المال العيني على القدح من حيث العمل على

صيانة الآلات والمعدات لإطالة عمرها الإنتاجي، والاهتمام بعدم تشغيل الآلات

فوق طاقتها الإنتاجية حتى لا تتعطل أو تخرب قبل نهاية عمرها.

ثالثاً: اعتبار رأس المال الثابت الركيزة الأساسية في تكوين رأس المال

الاجتماعي، وبالتالي العمل على الإبقاء عليه وعدم التفريط ببيعه، وإن من الواجب

في حالة بيع رأس المال الثابت استبداله برأس مال ثابت منتج آخر، وذلك بقصد

توسيع قاعدة رأس المال العيني، والأهمية النسبية للمحافظة على رأس المال العيني

تكمن في مجابهة النقص في القيم الفعلية لرؤوس الأموال النقدية، ومحاربة التوجه

إلى الاستثمار في الأصول النقدية مثل شراء الأسهم والسندات الحكومية وسندات

الإقراض بقصد الاتجار بها، لأن هذه الأصول أصول غير منتجة، ولهذا فإن من

المشاكل التي تواجه الدول الإسلامية التي تستثمر فوائضها النقدية في الأوراق

المالية من خلال المضاربة في أسواق المال العالمية النقص في القيم الفعلية لهذه

الأموال نتيجة التضخم المالي، ولهذا فالتوجيه النبوي بالعناية برأس المال العيني

باعتباره الركيزة في تكوين رأس المال ومجابهة النقص في القيم الفعلية للنقود يعتبر

العلاج لكثير من المشكلات الاقتصادية التي تواجه المجتمعات الإسلامية المعاصرة

كما يرشد إليه حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه ابن ماجة بسنده أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم-قال:» من باع داراً فلم يجعل ثمنه في مثله كان قمناً أن لا

يبارك فيه « [٦] وحديث عمران بن حصين الذي رواه أحمد بسنده أنه سمع رسول الله

-صلى الله عليه وسلم-يقول:» من باع عقدة مال سلط الله عز وجل عليها تالفاً

يتلفها « [٧] ، والمراد بعقدة المال أصل المال أي رأس المال الثابت.

فهذان الحديثان يوجهان الأمة إلى ضرورة التركيز على تكوين رأس المال

الثابت وعدم التفريط فيه أو استبداله إلا بمثله أي إعطاء أهمية لرأس المال الثابت

باعتباره الأساس في تشغيل بقية عناصر الإنتاج الأخرى وزيادة الناتج القومي.

رابعاً: توجيه الاهتمام لإحلال واستبدال وتجديد رأس المال الثابت، أي

العمل على استمرارية رأس المال الثابت للمنتج بإحلال الأصول الثابتة الجيدة محل

الأصول المستهلكة، وتوجيه الانتباه إلى مراعاة الطاقة الاستيعابية لرأس المال

المنتج بحيث لا يؤدي توسع رأس المال الثابت إلى إعاقة العملية الإنتاجية بالتأثير

عليها وبالتناقص، ويرشد إلى هذا المفهوم ما رواه أبو داود عن عاصم بن لقيط بن

صبرة عن أبيه قال:» كنت وافد بني المنتفق ...، قال: فبينا نحن مع رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة

تيعر، قال: ما ولّدْتَ يا فلان؟ قال: بهمة، قال فاذبح لنا مكانها شاة، ثم قال: لا تحسبن (بالكسر) ولم يقل لا تحسبن (بالفتح) أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مئة لا نريد أن تزيد فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة « [٨] .

ففي هذا الحديث إرشاد إلى أمرين:

الأول: استبدال الأصل القديم بأصل جديد فالشاة التي تذبح حل محلها بهيمة

صغيرة سوف تقوم بالإنتاج والشاة المذبوحة عادة تكون من الغنم التي بدأ إنتاجها في

التقلص.

الثاني: أشار الحديث إلى أن الطاقة الاستيعابية للحظيرة وقدرة الراعي علي

المحافظة على القطيع هما في حدود مائة رأس من الغنم فالزيادة عن هذا الحد

إضعاف للقدرة الإنتاجية لعنصري الإنتاج، المكان والقوى العاملة (الراعي) ،

ويمكن الاسترشاد بهذا التوجيه النبوي بضرورة وضع قواعد وإجراءات يجب

اتباعها من قبل المالكين لرأس المال الثابت بمختلف مكوناته وقيام ولي الأمر

بالإشراف والمتابعة لتطبيق هذه الإجراءات لما فيه مصلحة الأمة بأجمعها.


(١) البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب المزارعة، بالشطر ونحوه.
(٢) مسند أحمد ٥/١٩٤.
(٣) مسند أحمد ١/٤٤٧.
(٤) البخاري، كتاب النفقات ٦/١٩٠.
(٥) البخاري، كتاب فرض الخمس ٤/٤٧.
(٦) أخرجه ابن ماجة، كتاب الرهون، ح/ ٢٠١٩، وصححه الألباني، صحيح ابن ماجة ح/٢٤٩٠.
(٧) أحمد ٤/٤٤٥.
(٨) أبو داود ١/٩٨ ح ١٤٢، وصححه الألباني، صحيح أبي داود ١/٢٩ ح ١٢٩ (سخلة) : المولود الجديد من الغنم، (يتعر) : أي تصبح المراح مكان حفظ للغنم ليلاً بما يشبه الحظيرة (بهمه) : الأنثى للصغير من الغنم.