للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تاريخية

عبد الله بن سبأ

في ميزان البحث العلمي

- ٢ -

د. محمد آمحزون

تمهيد:

سبق الحديث عن اصل هذه الدراسة وبيان خطأ بعض المنطلقات التي بنى

عليها د/عبد العزيز الهلابي دراسته تلك، وهي أن (سيف بن عمر لم ينفرد

بالروايات الواردة في ابن سبأ، إنما سبقه الكثير من المؤرخين والعلماء في مصادر

معروفة وأن السبئية ليست للذم والتعيير فقط) ويواصل الأخ الكاتب المزيد من

الكشف عن تهافت تلك الدراسة.

- البيان -

للسبئية منطلقات خطيرة:

أما قول الأستاذ الهلابي: إن السبئية لا تعني جماعة معينة لها عقيدة محددة،

بل هي مجرد كلمة تعني الذم والتعيير، فهذا ينافي الواقع التاريخي لهذه الطائفة

التي تزعم أنها هديت لوحي ضل عنه الناس [١] ، ويزعم رئيسها أن القرآن جزء

من تسعة أجزاء وعلمه عند علي [٢] ، كما أن السبئية يقولون برجعة الإمام وأن

الأموات يرجعون إلى الدنيا [٣] ، ويقولون بالوصية [٤] ، ويسبون الصحابة [٥] ،

ويزعمون أن علياً دابة الأرض [٦] ، وأنه شريك النبي في النبوة بل منهم من يقول

بأن محمد -صلى الله عليه وسلم-رسول علي، يقول ابن حزم عنهم: وهذه الفرقة

السبئية باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد، منهم كان إسحاق بن محمد النخعي

الأحمر الكوفي، ويقولون: إن محمد -صلى الله عليه وسلم-رسول علي [٨] .

وتقول السبئية كذلك بالحلول والتناسخ [٩] ، ويعللون اختفاء علي بالغيبة [١٠] .

ويجزم قتادة بن دعامة السدوسي بأن السبئية كغيرها من الفرق الضالة مثل

النصرانية واليهودية، لها أفكارها ومعتقداتها الخاصة بها، التي تعد بدعة تتناقض

مع جوهر الدين المنزل من عند الله، يقول: والله إن اليهودية لبدعة وإن

النصرانية لبدعة، وإن الحرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة مانزل بهن كتاب ولا

سنهن نبي [١١] .

ومن السبئية المغيرة بن سعيد البجلي الذي قال عنه ابن قتيبة: وأما المغيرة

فكان مولى لبجيلة وكان سبئياً [١٢] .

وقال فيه ابن عدي: لم يكن بالكوفة ألعن من المغيرة بن سعد فيما يروى عنه

من الزور عن علي، هو دائم الكذب على أهل البيت، ولا أعرف له حديثاً

مسنداً [١٣] .

وجابر بن يزيد الجعفي الذي ذكره ابن حبان في عداد السبئية حيث قال: كان

جابر سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: إن علياً يرجع إلى

الدنيا [١٤] ، وروي عن سفيان بن عيينة أنه يعني جابر كان يقول: علي دابة الأرض [١٥] .

ومنهم أبو النصر محمد بن السائب الكلبي الكوفي الذي قال فيه ابن حبان:

وكان الكلبي سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ [١٦] . ويقول عنه الحافظ ابن

زريع البصري: رأيت الكلبي يضرب صدره ويقول: أنا سبئي، أنا سبئي [١٧] .

وأبعد في الخطأ من الزعم السابق بأن السبئية ليست طائفة لها عقيدة محددة

قول الدكتور الهلابي بأن السبئية مجرد كلمة تطلق للتعيير والذم [١٨] .

وإذا كانت كذلك، فلابد أن يكون لها أصل في اللغة، وعند الرجوع إلى

معاجم اللغة وجدنا أن سبأ تعني: من حلف على يمين كاذبة غير مكترث بها

والخمر اشتراها ليشربها، والجلد سبأه أي أحرقه [١٩] .

ولم يقل أحد من علماء اللغة أن السبئية تعني الذم والتعيير، بل قال صاحب

لسان العرب: وسبأ اسم رجل يجمع عامة قبائل اليمن، وهو اسم مدينة بلقيس

باليمن، والسبأية أو السبئية من الغلاة، وينسبون إلى عبد الله بن سبأ [٢٠] .

وقال الزبيدي: وسبأ والد عبد الله المنسوبة إليه الطائفة السبئية بالمد كذا في

نسختنا، وصحح شيخنا السبئية بالقصر كالعربية وكلاهما صحيح، من الغلاة،

جمع غال وهو المتعصب الخارج عن الحد في الغلو من المبتدعة، وهذه الطائفة

من غلاة الشيعة [٢١] .

رابعاً - موقف الإمام علي من السبئية:

يقول الدكتور الهلابي: وهذه الروايات التي تروي بأن السبئية قالت لعلي:

أنت خالقنا ورازقنا لا يمكن أن يقبلها المنطق السليم، إذ لا نعرف أحداً من العرب

عبد إنساناً واعتقد أنه هو الخالق الرزاق، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، بل لا

نعرف أن أحداً من المسلمين ارتد عن دين الله ارتداداً صريحاً بعد الردة التي حدثت

بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-مباشرة ... لماذا يعاقبهم علي بالإحراق في

النار وهي عقوبة غير مألوفة لا في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-ولا في

عهد الخلفاء الراشدين قبله؟ ألا يمكن أن يضربهم بالسياط ليستتيبهم فإن لم يتوبوا

قتلهم بالسيف؟ [٢٢] .

إن خبر إحراق علي رضي الله عنه لطائفة من الزنادقة المرتدين تكشف عنه

الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمعاجم، فقد ذكر الإمام البخاري

في كتاب استتابة المرتدين في صحيحه عن عكرمة قال: أتي علي رضي الله عنه

بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي -

صلى الله عليه وسلم-: (لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول الرسول -صلى الله

عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه) [٢٣] .

ولفظ الزندقة ليس غريباً عن عبد الله بن سبأ وطائفته، يقول ابن تيمية: إن

مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ [٢٤] . ويقول الذهبي: عبد الله

ابن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل [٢٥] ، ويقول ابن حجر: عبد الله بن سبأ

من غلاة الزنادقة ... وله أتباع يقال لهم السبئية معتقدون الإلهية في علي بن أبي

طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته [٢٦] ، ويقول في موطن آخر بأن أحد

معاني الزندقة الادعاء بأن مع الله إلهاً آخر [٢٧] ، وهذا المعنى قال به ابن سبأ

وأتباعه، وجزم بذلك أصحاب المقالات والفرق والمحدثون والمؤرخون.

وروى خبر الإحراق أيضاً أبو داود في سننه: في كتاب الحدود باب الحكم

فيمن ارتد [٢٨] ، والنسائي في سننه: في كتاب الحدود [٢٩] ، والحاكم في ...

المستدرك، في كتاب معرفة الصحابة [٣٠] ، والطبراني في المعجم الأوسط من

طريق سويد بن عقلة أن علياً بلغه أن قوماً ارتدوا عن الإسلام، فبعث إليهم

فأطمعهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم

ورماهم فيها، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال: صدق الله ورسوله [٣١] .

وروي من طريق عبد الله بن ثريد العامري عن أبيه قال: قيل لعلي إن هنا

قوماً على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟

قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما

تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت

أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا: فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال:

قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم، فقالوا كذلك فلما كان اليوم الثالث

قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك فخد لهم أخدوداً بين باب

المسجد والقصر وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض وجاء بالحطب فطرحه بالنار في

الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا فأبوا أن يرجعوا فقذفهم فيها حتى إذا

احترقوا قال:

إني إذا رأيت الأمر منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا

قال الحافظ ابن حجر: وهذا سند حسن [٣٢] .

خامساً - سيف بن عمر في الميزان:

يتحامل الدكتور الهلابي على الإخباري سيف بن عمر التميمي تحاملاً شديداً،

ويقول بأن سمعته باعتباره محدثاً سيئة للغاية، فقد حكم أصحاب الجرح والتعديل

عليه بالضعف واتهموه بوضع الأحاديث على الثقات وبالزندقة، كما يتهمه بالتحيز

والتعصب، وأنه عبث بروايات التاريخ الإسلامي، خصوصا ما له صلة بالفتنة

وما تلاها [٣٣] .

والحقيقة أن هذا الكلام مبالغ فيه، إذ يجب أن نفرق بين سيف بن عمر

باعتباره محدثاً من جهة وباعتباره إخبارياً من جهة أخرى، فالطعن فيه من جهة

الحديث وهو أمر صحيح لا ينسحب بالضرورة على الأخبار التي يرويها.

أثنى الحفاظ على سيف بالخبرة والمعرفة في التاريخ، فقال الحافظ الذهبي:

كان إخبارياً عارفاً [٣٤] ، وقال الحافظ ابن حجر: ضعيف في الحديث عمدة في

التاريخ [٣٥] .

على أن الحافظ ابن حجر لم يرض باتهامه بالزندقة وقال: أفحش ابن حبان

القول فيه [٣٦] .

ولسنا ندري كيف يصح اتهامه بذلك وروايته في الفتنة وحديثه جرى بين

الصحابة رضوان الله عليهم أبعد ما يكون عن أسلوب الزنادقة، وكيف يستقيم

اتهامه بالزندقة وهو الذي فضح وهتك سر الزنادقة!

ويمكن القول: إن رواية سيف بعيدة كل البعد أن تضعه موضع هذه التهمة،

بل هي تستبعد ذلك، إذ إن موقفه فيها هو موقف رجال السلف في احترامه

للصحابة وتنزيهه لهم عن فعل القبيح، فقد انتحى جانباً عن أبي مخنف والواقدي

فعرض تسلسلاً تاريخياً ليس فيه تهمة للصحابة، بل يُظْهِر منه حرصهم على

الإصلاح وجمع الكلمة، وهو الحق الذي تطمئن إليه النفوس، إذ يسير في اتجاه

الروايات الصحيحة عند المحدثين.

وإذا كان المحدثون يتساهلون في الرواية عن الضعفاء إن كانت روايتهم تؤيد

أحاديث صحيحة موثقة، فلا بأس إذن من الأخذ بهذا الجانب في التاريخ وجعله

معياراً ومقياساً إلى تحري الحقائق التاريخية ومعرفتها، ومن هذا المنطلق تتخذ

الأخبار الصحيحة قاعدة يقاس عليها ما ورد عند الإخباريين مثل سيف والواقدي

وأبي مخنف، فما اتفق معها مما أورده هؤلاء تلقيناه بالقبول، وما خالفها تركناه

ونبذناه.

ومما لا شك فيه أن روايات سيف في أغلبها مرشحة لهذه المعاني، إذ تتفق

وتنسجم مع الروايات الصحيحة المروية عن الثقات فيما يتعلق بوجود ابن سبأ

علاوة على أنها صادرة ومأخوذة عمن شاهد تلك الحوادث أو كان قريباً منها.

أما وصف سيف بالتحيز فأمر غير صحيح، إذ أن تعصب سيف المزعوم

ترده أحوال قبيلته بني تميم وموقفها من الفتنة، فمن المعروف أنهم ممن اعتزل

الفتنة مع سيدهم الأحنف بن قيس يوم الجمل [٣٧] ، وبالتالي فإن روايته للفتنة

تشكل من خلال مضمونها على العموم مصدراً حيادياً ومطلعاً في آن واحد.

سادساً - تحميل روايات سيف ما لا تحتمل:

يقول الدكتور الهلابي: وما يهمنا هنا هو الرواية الأولى، إذ أن سيفاً أراد أن

يقول بطريق غير مباشر: إن الخليفة علياً لم ينضم إليه أحد من المهاجرين

والأنصار، وإنما فقط سبعمائة من الكوفيين والبصريين، ومن يكونون هؤلاء

الكوفيين والبصريين في المدينة؟ لابد أنه يريد أن يقول بطريق غير مباشر أيضاً:

إن أنصار الخليفة علي هم قتلة عثمان، مع العلم أنه ذكر في مكان آخر أن قتلة

عثمان من أهل البصرة قتلوا مع حكيم بن جبلة العبدي قبل أن يقدم علي وجيشه

البصرة، فسيف يهدف ضمنياً إلى النيل من الخليفة علي، وفي الوقت نفسه يريد

أن يعارض تلك الروايات التي تبالغ في عدد المشاركين في جيش علي من أهل بدر

خاصة والصحابة من المهاجرين والأنصار عامة [٣٨] .

من الملحوظ هنا أن الدكتور الهلابي يحاول جاهداً أن يحمل روايات سيف ما

لا تحتمل من المعاني، ويتجاهل روايات أخرى لا تتفق مع خطه الذي رسمه مسبقاً

تجاه سيف، فيَحْكُم بلا دليل ظاهر على أجزاء من رواياته ويسكت عمداً عن ذكر

أجزاء أخرى لأنها تؤدي الغرض من فهم الروايات بالشكل المطلوب، وهو مع هذا

يستعمل عبارات غير علمية وغير دقيقة مثل: أراد أن يقول بطريق غير مباشر،

يهدف ضمنياً.

فمن المآخذ على الدكتور الهلابي أنه نسب إلى سيف ما لم يرو بقوله: ... إن

الخليفة علياً لم ينضم إليه أحد من المهاجرين.

فالشطر الأخير من هذه العبارة مأخوذ من رواية سيف: وخرج معه أي مع

علي من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل [٣٩] ، أما

الشطر الأول من العبارة: إن الخليفة علياً لم ينضم إليه أحد من المهاجرين

والأنصار فهو من استنتاج الدكتور الهلابي.

وهذا الاستنتاج ليس في محله، إذ يتناقض مع ما رواه سيف حول هذا

الموضوع، فقد ذكر أسماء الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين انضموا إلى

علي، ومن ذلك قوله فأجابه رجلان من أعلام الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان وهو

بدري وخزيمة بن ثابت [٤٠] ، وقوله: وأرسل علي الحسن وعماراً بعد ابن

عباس ... [٤١] ، فلما نزلوا ذي قار دعا علي القعقاع بن عمرو فأرسله إلى

البصرة [٤٢] .

وهؤلاء من المهاجرين، وقوله: قال الشعبي: بالله الذي لا إله إلا هو، ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة بدريين ما لهم سابع أو سبعة ما لهم ثامن [٤٣] .

والحق أن الصحابة الذين انضموا إلى علي رضي الله عنه أو إلى مخالفيه

(طلحة والزبير وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم) لم يكونوا كثرة كما توحي بذلك

بعض الروايات التي تبالغ في عدد المشاركين من الصحابة في الفتنة، وإنما كانوا

قلة كما جاءت بذلك الأخبار الصحيحة في كتب الحديث.

روى عبد الرزاق في المصنف والإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن محمد

بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عشرات

الألوف، فلم يحضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين [٤٤] .

وروى ابن بطة بإسناده إلى بكير بن الأشج أنه قال: أما إن رجالاً من أهل

بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم [٤٥] .

وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى الحسن البصري أن رجلاً قال لسعد بن

أبي وقاص: هذا علي يدعو الناس، وهذا معاوية يدعو الناس، وقد جلس عنهم

عامة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال سعد: أما وإني لا أحدثك

ما سمعت من وراء وراء، ما أحدثك إلا ما سمعته أذناي ووعاه قلبي، سمعت

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يقول: إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول ولا

تقتل أحداً من أهل القبلة فافعل [٤٦] .

هذا وإن رواية سيف عن الصحابة الذين شاركوا في الفتنة تسير في هذا

الاتجاه ولا تحيد عنه.

أما قول الدكتور الهلابي في تساؤلاته: ومن يكونون هؤلاء الكوفيين

والبصريين في المدينة؟ لابد أنه يريد أن يقول سيف بطريق غير مباشر أيضاً إن

أنصار الخليفة علي هم قتلة عثمان، مع العلم أنه ذكر في مكان آخر أن قتلة عثمان

من أهل البصرة قتلوا مع حكيم بن جبلة قبل أن يقدم علي وجيشه البصرة [٤٧] .

فصحيحة نسبة القول الأخيرإلى سيف [٤٨] ، لكن العبارة الأولى التي فيها

أنه اتهم علياً بأن أنصاره هم قتلة عثمان، فلم يقل بها سيف إطلاقاً، ولا ذكرها

الإمام الطبري في تاريخه، وإنما هي من استنتاج الدكتور الهلابي الذي يتقن علم ما

وراء السطور! ولهذا نقول للأستاذ الهلابي: متى كان المنهج العلمي ضرباً من

ضروب الاستنتاج العقلي المحض في غياب النصوص والروايات؟ !

وللإشارة، فإن أسلوب سيف في روايته لأحداث الفتنة ليس فيه أي نيل أو

تجريح لعلي رضي الله عنه بل أثنى عليه بما هو أهله، إذ نقل عن سعيد بن زيد

أنه قال: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-ففازوا على

الناس بخير يحوزونه إلا وعلي بن أبي طالب أحدهم [٤٩] .

وذكر أن علياً حين انطلق إلى البصرة في إثر طلحة والزبير وعائشة كان

ينوي الإصلاح وجمع الكلمة [٥٠] ، كما أثنى على دور القعقاع بن عمرو رسول

علي في تثبيطه أهل الكوفة عن الاشتراك في الفتنة أولاً [٥١] ، ثم في مساعيه

الإصلاحية بين علي ومخالفيه في البصرة ثانياً [٥٢] .

سابعاً - منهج عجيب إزاء الأحاديث النبوية:

يقول المؤلف: ومع أني أرجح أن (حديث الحوأب حديث موضوع ... [٥٣] .

فمن الملاحظ هنا أن الدكتور الهلابي يتعامل مع الأحاديث النبوية كما يتعامل

مع الروايات التاريخية، فيقبل ويرفض، ويعلل ويجرح حسب اجتهاده الشخصي،

مع العلم أن مصطلح الحديث فن جليل وخطير بلغ من الدقة والإحكام أرقى ما يمكن

أن تصل إليه الطاقة البشرية، فأحكامه ومصطلحاته ذات دلالة واضحة ومحددة لا

تقبل التلاعب فيها، ولذلك يكون الحديث إما صحيحاً وإما ضعيفاً وإما موضوعاً،

وفق الموازين النقدية للرواية.

وبما أن الأحاديث هي غير الروايات التاريخية، فينبغي للتثبت من صحتها

أن يتم الرجوع إلى العلماء المختصين في علم الحديث النبوي.

وحديث الحوأب حديث صحيح قال عنه الحافظ ابن كثير: إسناده على شرط

الصحيحين [٥٤] ، وقال الحافظ الذهبي: هذا حديث صحيح الإسناد [٥٥] وقال

الحافظ بن حجر في الفتح: أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان

والحاكم، وسنده على شرط الصحيح [٥٦] .

ورواية الحديث كما نقلها الإمام أحمد: (حدثنا عبد الله، حدثني أبي حدثنا

يحيى عن إسماعيل، حدثنا قيس قال: لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً،

نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا

راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز

وجل ذات بينهم، قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال لها ذات يوم:

كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب! [٥٧] .

ثامناً - الطبري سمى السبئية:

يقول الدكتور الهلابي: إن الإمام الطبري لم يسم طائفة عبد الله بن سبأ سبئية، وإنما وضع هذه التسمية سيف بن عمر لتنسجم مع رواياته حول ابن سبأ ودوره

في الفتنة [٥٨] .

لقد فات المؤلف بأن الإمام الطبري ذكر السبئية في تفسيره جامع البيان عند

شرحه لقوله تعالى: [فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة

وابتغاء تأويله] [ال عمران: ٧] ، يقول: وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا

أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله ... كان من

أهل النصرانية أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئياً أو حروريا أو قدرياً أو

جهمياً، كالذي قال ص: فإذا رأيتم الذين يجادلون فهم الذين عنى الله

فاحذروهم [٥٩] .

تاسعاً - منهج المستشرقين غير مسلم له على الإطلاق:

يبدو جلياً أن الدكتور الهلابي تأثر بأفكار بعض المستشرقين الذين لا يقرون

بوجود ابن سبأ، إذ نحا منحاهم في إثارة الشكوك حول شخصيته ويقول: بأن

هؤلاء نالوا قصب السبق في إثارة قضية عبد الله بن سبأ [٦٠] .

لكن يا ترى إذا كان المستشرقون قد سبقوا الباحثين العرب إلى دراسة

شخصية ابن سبأ، فهل نحن ملزمون بالتسليم بكل ما كتبوه في هذا الصدد؟

إن المستشرقين كغيرهم من البشر معرضون لعوامل السهو والخطأ، ومنهم

من يشتط في نظرته، ويحمل في نفسه من الأهواء والرغبات ما يجعله يفرض

آراءه المسبقة على النصوص، ويتعسف في تأويلها نظراً للعداء التاريخي في نفسه

للإسلام والمسلمين.

ثم لا يخفى أن المستشرقين الذين أنكروا وجود السبئية كان هدفهم من ذلك

التشكيك والإنكار هو إدعاء أن الفتن إنما هي من عمل الصحابة والمسلمين أنفسهم،

وأن نسبتها إلى اليهود أو الزنادقة هو نوع من الدفاع لجأ إليه الإخباريون والرواة

المسلمون ليعلقوا أخطاء هؤلاء الصحابة على عناصر أخرى، فيقول أحد هؤلاء

المستشرقين: بأن ابن سبأ ليس إلا شيئاً في نفس سيف أراد أن يبعد به شبح الفتنة

عن الصحابة وإنها إنما أتت من يهودي تستر بالإسلام [٦١] .

عاشراً - ثبوت أخبار ابن سبأ:

إذا افترضنا جدلاً أن الروايات والأخبار المتعلقة بابن سبأ غير صحيحة ومن

نسج الخيال، فكيف يعقل أن يسكت عنها العلماء الأقدمون ولا ينتقدوها، وهم الذين

أصّلوا منهجاً علمياً دقيقاً في نقد الرجال وتتبع أحوالهم!

هذا وقد أثبت كثير من العلماء والرواة في كتبهم خبر ابن سبأ، ولم يُستدرك

عليهم في هذا الشأن إلا ما كان من بعض الباحثين المعاصرين الذين أطلقوا لأنفسهم

العنان للخوض في هذا الموضوع بغير سند أو أثرة من علم فأساؤوا بذلك إلى أسس

البحث العلمي التي يدعون أنهم أهلها بغير دليل.

حادي عشر - رأي بلا مصدر أو دليل:

الغريب في الأمر أن الدكتور الهلابي رغم تأكيده على أن شخصية ابن سبأ

شخصية وهمية، فإنه لم يدعم رأيه ولو بمصدر واحد متقدم ينفي وجود عبد الله بن

سبأ، فكيف يكون إذاً صاحب منهج علمي ودراسته قائمة على الآراء والفرضيات،

بينما هي تفتقر أساساً إلى الأدلة العلمية ودعم من المصادر المتقدمة القريبة من هذه

الأحداث؟ !

وفي الختام نقول: إن تشكيك بعض الباحثين المعاصرين في عبد الله بن سبأ، وأنه شخصية وهمية، وإنكارهم وجوده، لا يستند إلى الدليل العلمي ولا يعتمد

على المصادر المتقدمة، بل هو مجرد استنتاج يقوم على فرضيات وتخمينات

شخصية تختلف بواعثها حسب ميول مُتبنيها واتجاهاتهم.


(١) أبو عمر المقدسي: كتاب الإيمان، ص ٢٤٩.
(٢) الجوزجاني: المصدر نفسه، ص ٣٨.
(٣) أبو الحسن الأشعري: المصدر نفسه، ج١ ص ٨٦.
(٤) القمي: المصدر السابق، ص ٢٠.
(٥) النونحتى: المصدر السابق، ص ٤٤.
(٦) الذهبي: ميزان الاعتدال، ج١، ص ٣٨٤.
(٧) الملطي: المصدر السابق، ص ١٥. (هامش ٧ غير مشار إليه في النص - ماس-)
(٨) ابن حزم: الفصل في الملل والنحل، ج٤ ص ١٨٦.
(٩) البغدادي: المصدر السابق، ص ٢٤١.
(١٠) الكرماني: الفرق الإسلامية، ص ٣٤.
(١١) الطبري: جامع البيان، ج٦، ص ١٨٩.
(١٢) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج٢، ص ١٤٩.
(١٣) الذهبي: الميزان، ج٤، ص ١٦٢.
(١٤) ابن حبان: المجروحين، ج١، ص ٢٠٨.
(١٥) الذهبي: الميزان، ج١، ص ٣٨٤.
(١٦) ابن حبان: المجروحين، ج٢، ص ٢٥٣.
(١٧) ابن حجر: التهذيب، ج٩، ص ١٧٩.
(١٨) الهلابي: المرجع السابق، ص ٤٦.
(١٩) العكبري: المشوف المعلم؛ وابن منظور: لسان العرب، ج٢، ص ٧٧؛ والزبيدي: تاج العروس، ج١، ص ٧٥.
(٢٠) ابن منظور: المصدر السابق، ج٢، ص ٧٧.
(٢١) الزبيدي: المصدر السابق، ج١، ص ٧٥.
(٢٢) الهلابي: المرجع السابق، ص ٥٢.
(٢٣) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب استتابة المرتدين، ج٨، ص ٥٠.
(٢٤) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج٢٨، ص ٤٨٣.
(٢٥) الذهبي: الميزان، ج٢، ص ٤٢٦.
(٢٦) ابن حجر: لسان الميزان، ج٣، ص ص ٢٩٠، ٢٨٩.
(٢٧) ابن حجر: الفتح، ج١٢، ص ٢٧٠.
(٢٨) أبو داود: السنن، كتاب الحدود، ج٤، ص ١٢٦.
(٢٩) النسائي: السنن، كتاب الحدود، ج٧، ص ١٠٤.
(٣٠) الحاكم: المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ج٣، ص ٥٣٨.
(٣١) ابن حجر: الفتح، ج١٢، ص ١٧٠.
(٣٢) ابن حجر: الفتح، ج١٢، ص ٢٧٠.
(٣٣) الهلابي: المرجع السابق، ص ص ٣٩، ٤٠، ٦٧.
(٣٤) الذهبي: الميزان، ج٢، ص ٢٥٥.
(٣٥) ابن حجر: التقريب، ج١، ص ٣٤٤.
(٣٦) المصدر نفسه، ج١، ص ٣٤٤.
(٣٧) الطبري: تاريخ الرسل، ج٤، ص ٤٩٨، ٥٠٠، ٥٠١.
(٣٨) الهلابي: المرجع السابق، ص ٤٣.
(٣٩) الطبري: تاريخ الرسل، ج٤، ص ٤٥٥.
(٤٠) المصدر نفسه، ج٤، ص ٤٤٧.
(٤١) المصدر نفسه، ج٤، ص ٤٨٧.
(٤٢) المصدر نفسه: ج٤، ص ٤٨٨.
(٤٣) المصدر نفسه، ج٤، ص ٤٤٧.
(٤٤) رواه عبد الرزاق في المصنف، ج١١ ص٣٥٧؛ وابن كثير عن أحمد في البداية والنهاية، ج٧، ص ٢٥٣.
(٤٥) ابن شبة: تاريخ المدينة، ج٤، ص ١٢٤٢.
(٤٦) ابن عساكر: المصدر السابق (المطبوع) ، ص ٤٨٥، ٤٨٦.
(٤٧) الهلابي: المرجع السابق، ص ٤٣.
(٤٨) الطبري: تاريخ الرسل، ج٤، ص ص ٤٧٠، ٤٧٢.
(٤٩) المصدر نفسه، ج٤، ص ص ٤٤٧، ٤٤٨.
(٥٠) المصدر نفسه، ج٤، ص ٤٧١.
(٥١) المصدر نفسه، ج٤، ص ٤٨٤.
(٥٢) المصدر نفسه، ج٤، ص ص ٤٨٧، ٤٨٩.
(٥٣) الهلابي: المرجع السابق، ص ٤٣.
(٥٤) ابن كثير: المصدر السابق، ج٦، ص ٢٤١ (٥٦) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج٢، ص ١٢٥.
(٥٧) ابن حجر: الفتح، ج١٣، ص ٥٥.
(٥٨) أحمد: المسند، ج٢٣، ص ١٣٧.
(٥٩) الهلابي: المرجع السابق، ص ٦١.
(٦٠) الطبري: جامع البيان، ٣/٣/١٢١.
(٦١) الهلابي: المرجع السابق، ص ٥٨.
(٦٢) عبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين ج٢، ص ٢٢.