للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

هل المسلمون بحاجة إلى منهج نقدي؟

من عادتنا، عندما نريد أن نتحدث عن مقومات النهوض وأسباب الفشل؛ أن

نلقي باللوم الأكبر على الأسباب الخارجية، كأن نلوم الاستعمار وأعداء الإسلام،

هذا في الغالب، وأحيانًا نحب أن نكون أكثر إنصافًا فنقول: إن هناك أسبابًا داخلية

في المسلمين أنفسهم. ولكن هذه الأسباب تظل في دائرة الكلام العام غير المحدد،

وغير المحلل، والجمل الوعظية التي تستهلك كثيرًا من جهود الدعاة، ويظنون

بعدها أنهم قد قاموا بالواجب، وأزاحوا عبء المسؤولية عن كواهلهم، وكثيرًا ما

يستنيمون لعبارات الإطراء والمديح التي تكال لهم ممن يسمعونهم من عامة الناس،

ويجدون متعة داخلية لا حدود لها وهم يحاطون بمثل هذه الكلمات: ما شاء الله..

سبحان الله.. الله يفتح عليك.. الخ.

وبهذا يتضح أن ما يسمى بـ (النقد الذاتي) القائم على منهج محدد غير متأثر

بالأهواء والعواطف لا زال أمرًا بعيد المنال عند المسلمين، ولازالوا لا يملكون

الجرأة على إحلاله المكانة اللائقة في حياتهم، ولا زالت الطبقة التي تقع عليها

مسؤولية حمل الدعوة - وهي طبقة المثقفين وقادة الفكر - تشمئز من النقد،

وتعتبره عملاً تخريبيًا هدامًا مثبطًا، وتضفي عليه شتى الأوصاف المنفرة، ولا

تنسى أن تسند حيثيات التهرب من النقد بما يصح وما لا يصح من الأدلة الشرعية.

هذه مقدمة لابد منها عند التعرض لبعض أمراضنا التي نعانيها، والتي تعيقنا

ليس عن البناء فقط؛ بل عن التقدم ولو قليلاً في أحيان كثيرة.

وإن من أهم الأمراض التي نتوارثها، وتكاد تكون قد أصبحت ظاهرة

تتحكم بنا، ما نلاحظه عندما تطرح بعض الأسماء المشهورة ومواقفنا منها، فإن

هذه المواقف تكون في الأغلب مطبوعة بطابع المغالاة: حبًا أو بغضًا، اتباعًا أو

نبذًا.

ومن أجل تفصيل هذه المسألة نقول:

إن داء التفرق قد ضرب المسلمين، وسمومه قد مشت في أوصالهم. ومع أن

هذا الداء من أكثر الأدواء التي حذرنا منها ديننا الحنيف قرآناً وسنة، إلا أننا

ماضون فيه، غير ملتفتين إلى العواقب.

ومن أهم الأسباب التي تذكي هذا التفرق، وتؤدي إلى ضياع الجهود؛ الأفكار

المسبقة التي تكون نتيجة للنظرة المتسرعة إلى الآراء والشخصيات. قلِّبْ أفكار

كثير من الجماعات - كل جماعة على حدة -في الأشخاص، فإنك تجد نظرة أحادية

الجانب، قد تكون صدى لآراء شخص مشهور فيها، وهذه الآراء المرتجلة آتية إما

عن عدم تعمق في الدراسة، أو بنظرة شخصية؛ أو بقصور في التحليل؛ أو قيلت

في ظروف معينة اقتضتها.

فمثلاً إذا أحب قوم شخصًا رفعوه إلى درجة التقديس، ولم يعودوا يقبلون فيه

نقدًا، أو يرون فيه أي مجال لأي مأخذ، وحتى إذا كانت له أخطاؤه التي يصعب

الدفاع عنها؛ ترى أنصاره ومحبيه يلوون الحجج، ويلفقون الأدلة، ويعتسفون في

الدفاع، ويجهدون أنفسهم فيما لا طائل تحته، وكان الأجدى عليهم، والأرحم

بالرجل أن يقال: إنه أخطأ في هذا، وتنتهي القضية.

والاعتراف بالخطأ من قبل الشخص أو مريديه لا ينزل من مكانة، ولا

يجحد الفضيلة، ولا يخرج من جنة، أو يدخل في نار، ولكنه التعصب المذموم،

والبعد عن الوسطية.

وقل مثل ذلك في حالة ما إذا كرهوا شخصًا لسبب من الأسباب، فإن الهوى

المتحكم يهوي به وبسمعته إلى الحضيض، ولا تعود نفوس القوم تتقبل ما يمكن أن

يقوله من حق في ذاته، ويصعب عليها أن تستمرئ إنصافه، وينقلب التمحل في

الأدلة لبراءة المحبوب إلى تمحل في اصطياد العثرات للمُبَغَّض، وتًجًنَّ في تلفيق

التهم والإشاعات ضده، حتى يصبح كالمنبوذ الذي إن عاش غير مؤذٍ للمجتمع

بأفكاره التي تجيء نتيجة إحساسه بالنبذ؛ فإنه يعيش عضوًا أشلَّ غير منتج في

المجتمع.

وهكذا، ونتيجة لهذا الاتجاه السائد في تقويمِ الناس والآراء، يفقد المجتمع

التوازن، ويغدو من الصعب أن تجد لك مكانًا في مجتمعات مشطورة إلى شطرين:

أنبياء وشياطين!

وفي مجال الثقافة يتوقف التجديد، وتتجمد الآراء عند نقاط معينة، حيث لا

تبقى حاجة إلى دراسة أو مراجعة، فقد كفى الزعماء والقادة الناس مؤونة التفكير

بإشاراتهم الملهمة! وتوجيهاتهم المعصومة حيال الوقائع والأحداث، مع أن هذه

الإشارات والتوجيهات تلقي بظلالها التربوية السلبية، وتعطي مردودًا سيئًا في

الواقع الإسلامي، وترسخ جذور عبادة الأشخاص، وقتل الطموح من جهة، وغمط

الناس أشياءهم من جهة أخرى.

وإذا أردنا أن نتقدم خطوة في رصد هذه الظاهرة، فإن العجب يتملكنا عندما

نرى أن من المسلمين من ينتحل المعاذير، ويقيل العثرات لغير المسلم، فيأخذ عنه

في بعض جوانب التفكير والاجتهاد - بحجة الانفتاح واتساع الأفق «والحكمة ضالة

المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها» -! مع أنه يختلف عنه في الأصول؛ ويشيح

بنظره، وينأى بنفسه بتاتًا عن أخيه المسلم، وينصب له العداوة، من أجل خلاف

فرعي أو شخصي!

إن ما يميز المسلم الحق عن غيره أنه يدور مع الحق حيث دار، ومن أي

جهة صدر، وإن النظرة النقدية للذات، ومراجعة الأخطاء وتصحيحها هي من

الأساسيات المهمة التي أمر الله عباده بها، وعلمهم إياها حيث يقول، عز من قائل: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ

اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: ١٦٥] .

وإن حياة الصحابة الكرام كانت تطبيقًا عمليًا لهذا المبدأ: نقد للذات،

واعتراف بالخطأ، وإنصاف للخصوم، وبعد عن التعصب. وإننا لنعثر في ... سيرتهم على أمثلة رائعة لا يمكننا أن نقع على ما هو أسمى منها في تاريخ ... البشرية [١] .

ولكن مما يؤسف له أن المسلمين انشغلوا في تفضيل من يعرفون على من لا

يعرفون، واتبعوا الظنون التي لا تغني من الحق شيئًا، وداروا - ومازالوا - في

حلقة مفرغة، يضخمون أخطاء إخوانهم في الدين، ويتجاهلون محاسنهم، في حين

يضيعون الأوقات ويشغلون المسلمين في المدح العريض لبعض من يتعصبون لهم،

مع أن هذا لا يفيدهم ولا يفيد من يمدحون، ومع أن المسلم مطلوب منه أن لا يغلو

في مدح أو ذم، وأن لا يحيد عن القصد في أمره كله. فقد صح عن النبي - ... صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم

التراب» [٢] .

وقال لمن غالى أمامه بالمدح: «ويحك قطعت عنق صاحبك» [٣] .

وما أحكم كلمة الإمام ابن تيمية في هذا المجال حيث أجاب على سؤال حول

قضية تفضيل بعض المشايخ على بعض فقال:

(أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض؛ مثل من يرجح إمامه الذي

تفقه على مذهبه؛ أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره ... فهذا باب أكثر

الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس، فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة

والمشايخ، ولا يقصدون اتباع الحق المطلق، بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح

متبوعه، فيرجحه بظن يظنه، وإن لم يكن معه برهان على ذلك. وقد يفضي ذلك

إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم، وهذا مما حرم الله ورسوله ... )

ثم قال: (فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم؛ فإنه يجب النهي عنه، فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله، وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده كما تنازع المسلمون: أيما أفضل:

الترجيع في الأذان، أو تركه؟

أو إفراد الإقامة، أو إثنائها؟

وصلاة الفجر بغلس، أو الإسفار بها؟

والقنوت في الفجر، أو تركه؟

والجهر بالتسمية، أو المخافتة بها، أو ترك قراءتها؟ ونحو ذلك. فهذه

مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده،

من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطؤه

مغفور له ... الفتاوى [٢٠/٢٩١-٢٩٢] .

إن حال المسلمين اليوم أشد ما تكون حاجة إلى الرجوع إلى منهج علمي محدد

للنقد والمراجعة يستطيع أن يستنقذ الصالح من كل شيء ويضيفه إلى مثله،

ويستبعد الخطأ ويسقطه من حسابه، ونعني بالعلمية والتحديد أن يكون هذا المنهج

غير متأثر بالأهواء والنزوات، قائمًا على أدلة ثابتة، بعيدًا عن ادعاء العصمة

لأحد بعد الأنبياء، قادرًا على بيان مكامن الضعف والتقصير، راسمًا الطريق

للخروج منها، يتجنب طريق التحريض والصراخ والعويل والبكاء على الأطلال

التي يمارسها كثير من الدعاة عن حسن نية.

بذلك يمكننا - بإذن الله - أن نجد لنا مكانًا في أرض الله التي يورثها عباده

الصالحين، وبما عداه فإن النتيجة ليست إلا أصفارا مطروحة من أصفار.

- التحرير -

قال الذهبي في ميزان الاعتدال:

(.. فإن ذكرت أحدًا منهم من (الأئمة المتبوعين) فاذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله، ولا عند الناس، إذ إنما يضر الإنسان الكذب والإصرار على كثرة الخطأ والتحري على تدليس الباطل، فإنه خيانة وجناية، فالمرء المسلم يطبع على كل شيء إلا الخيانة والكذب) .


(١) كمثال على الاعتراف بالخطأ وعدم تلمس الأعذار راجع قصة المخلفين الثلاثة، ورواية كعب بن مالك لها في تفسير ابن كثير: سورة التوبة وكمثال على عدم التأثر بالهوى الشخصي والإنصاف
راجع قصة عمر بن الخطاب مع أبي مريم السلولي قاتل أخيه زيد بن الخطاب في حروب الردة.
(٢) صحيح مسلم، ٨/٢٢٨.
(٣) صحيح مسلم، ٨/٢٢٧.