للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في إشراقة آية

يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا

صالح بن سليمان العامر

إن المتأمل في كتاب الله تعالى، والناظر فيه ببصيرة، ليدرك تلك المعالم

والسنن والحقائق والنواميس التي يقوم عليها الكون والوجود الإنساني، حتى إنه

ليعلم، بل ويعتقد أن لهذا الكون وهذا الوجود رباً يدبر وحاكماً يحكم ونظاماً واحداً.

ولنتدبر معاً آية من كتاب الله حتى نبرهن على ذلك على سبيل المثال، قال

الله تعالى: [يعلمون ظاهراْ من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون]

[الروم: ٧] ، في هذه الآية ذكر الله صنفاً من الناس على سبيل الذّم واصفاً حالتهم في نظرتهم القاصرة إلى الدنيا، حيث قال: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) ، ووصفهم الله بأنهم يعلمون، إذاً هم ليسوا جهلاء بل من الذين يعلمون، وربما يكون أحدهم عالماً في كثير من الفنون، فقد يكون أديباً كبيراً وربما كان عارفاً بالسياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو التجارة؛ ولذلك قال الحسن البصري - رحمه الله -: «والله ليبلغ من علم أحدكم بدنياه، أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يُحسن أن يصلي» [١] ، فالحسن - رحمه الله - ذكر صنفاً واحداً وإلا فهناك أصناف آخرون يجيدون فنوناً أخرى، فقد قال ابن عباس وعكرمة وقتادة رحمهم الله ورضي عنهم: «يعرفون أمر معيشتهم ودنياهم، متى يزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يغرسون، وكيف يبيتون» [٢] ، وقال ابن خالويه: «ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم» [٣] ، كل هؤلاء نظروا إلى الدنيا من زاوية واحدة وبمقياس واحد وبفهوم ذات منطلقات محددة، والحقيقة التي فهمها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - والصحابة من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هي أن هذا الوجود ما هو إلا سلسلة واحدة وحلقات متصلة، أو بعبارة أخرى صفحات متوالية، أول تلك الحلقات والصفحات هذه الدنيا التي وقف عندها أولئك النفر (الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) ، ويلي هذه الصفحة صفحات أُخَرُ وهي ما سماه الله تبارك وتعالى (الآخرة) .

والذي يجعل الآخرة في حسابه هو المفكر الموفق والحكيم المسدد الذي يضع

الأمور في نصابها، ولذلك قال تعالى: (وهم عن الآخرة هم غافلون) فالغفلة عن

الآخرة تجعل مقاييس الغافلين تختل ويتأرجح في أكفهم ميزان القيم، فلا يملكون

تصوراً صحيحاً، ويظل تصورهم عنها ظاهراً سطحياً ناقصاً « [٤] .

ولقد أجاد سيد قطب - رحمه الله - في ظلال القرآن، حيث عقد مقارنة بين

صنفين من الناس حيث قال:» ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب

حسابها مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينظر ما وراءها لا يلتقي هذا وذاك في

تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها، ولا يتفقان في حكم

واحد على حادث أو حال، فلكل منهما ميزان ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما

ضوء يرى به الأشياء والأحداث والقيم والأحوال، وهذا يرى ظاهراً من الحياة

الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ونواميس شاملة للظاهر

والباطن والغيب والشهادة والدنيا والآخرة.. الماضي والحاضر والمستقبل، وعالم

الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء والأموات، وهذا هو الأفق البعيد الأوسع

الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه، ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق

بالإنسان المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله « [٥] .

وبذلك تعرف الحكمة من ذكر (الآخرة) عند ذكر أي تشريع أو أي خُلُق في

القرآن والسنة مثل قوله تعالى: [الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة

ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر....]

[النور: ٢] وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» ، وفي رواية «ليسكت» ) [٦] ، ففي هذين النصين دليل على أثر الإيمان باليوم الآخر في الإذعان للأحكام والتشريع والتخلق بالأخلاق الفاضلة والمحمودة ... وبالتأمل في الآية تبدو فوائد منها:

إن معرفة أمور الدنيا وعلومها هو أمر محمود، ولكن الاكتفاء به والإكثار منه

بحيث يؤدي ذلك إلى الغفلة عن الآخرة هو المذموم، فمثلاً دراسة الأدب أمر

مطلوب، ولكن الإغراق فيه بصورة تلهي المرء وتعميه وتصمه عن أن يتعلم أمور

دينه وآخرته هو المذموم؛ ولذلك تجد ذلك الكاتب أو الأديب أو الشاعر يجيد هذه

الفنون ويطرب حينما يقرأ عنها، وإذا نظرت إلى حصيلته من العلم الشرعي

الواجب لوجدته خاوياً مع أنه يمتلك الآله من كتابة وفهم وفكر التي تخوله أن يكون

مفكراً إسلامياً يستطيع توظيف تلك النصوص الموجودة في الكتاب والسنة - التي

هي هدفٌ للمسلم في الحياة - لكي يحقق الغاية من وجوده فيها، وهي إرضاء الله

تبارك وتعالِى، فيكون بذلك من السعداء في الدنيا والآخرة، وكذلك إذا نظرت إلى

تأثره بالقرآن وخشوعه عند سماعه، لوجدته غير ذلك المتأثر الخاشع، لعدم

اهتمامه به واطلاعه عليه، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولا أقصد عند ذكر ذلك أن

جميع الأدباء على هذه الوتيرة وعلى هذا المنوال بل هناك من الأدباء من تجده ذا

حصيلة علمية وخشوع وحياة قلب.

ومنها أهمية الإيمان باليوم الآخر وأثره في تقويم الفرد وسلوكه وتفكيره ولذلك

قال الله تعالى في الحديث القدسي - ويسمى بحديث الولي -: «ولسانه الذي ينطق

به وعقله الذي يعقل به» [٧] ، أي أنه ينطق على نور من الله ويفكر ويعقل

الأمور والأحداث على نور من الله.

ومنها كذلك: خطر الغفلة عن الآخرة لأنها تنسي الإنسان نهايته وحياته

الحقيقية، ولذلك كان السلف الصالح يفكرون في الآخرة ويعملون للآخرة ولهم

مواقف في تأملها والخشوع عند تذكرها مما يدفعهم إلى العمل الصالح ولنا مع المفيد

مما هو مسطور في كتب الأدب والزهد والسلوك مما هو في مقامه ويطول المقام

بذكره*.

وفي الآية فوائد كثيرة ومعارف غزيرة أكتفي بهذا القدر منها، والله أعلم،

والحمد لله أولاً وآخراً.


(١) تفسير ابن كثير.
(٢) تفسير القرطبي.
(٣) تفسير القرطبي.
(٤) الظلال، ٢٧٥٨، ج ٥ -ج٥ ص٢٧٥٨.
(٥) الظلال، ج ٥، ص ٢٧٥٩.
(٦) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
(٧) أصل الحديث في الصحيح عن أبي هريرة وهذه الزيادة عند أبي يعلى في مسنده * أنظر كتاب الزهد للإمام أحمد، وكتاب الزهد للإمام وكيع بن الجراح، وانظر مدارج السالكين لابن القيم، وغيرها.