للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات اقتصادية

الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة

المشكلة الاقتصادية وعلاجها من المنظور الإسلامي

(الحلقة الأخيرة)

د/ محمد عبد الله الشباني

في الحلقات السابقة أشرنا إلى جانبي الندرة والأهمية النسبية لعناصر الإنتاج

ودور كل عنصر وأهميته في العملية الإنتاجية وارتباطه بالمشكلة الاقتصادية وفي

هذه الحلقة سوف نتطرق إلى كيفية معالجة الإسلام لتوزيع الدخل العام، أي إيجاد

التوازن في الثروة بين أفراد الأمة وذلك فيما يتعلق بتوزيعها وفق المبدأ القرآني

[كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم] [الحشر: من الآية ٧] .

إن قضية التوزيع للثروة تمثل روح وجوهر الاختلال في الأنظمة الاقتصادية

المعاصرة حيث نجد التفاوت بين مختلف أفراد الأمة فيوجد الأشخاص المعدومون

الذين لا يجدون المأوي أو المأكل أو الملبس والفئات المتخمة، فالإسلام أوجد نظاماً

لمعالجة الاختلال الاقتصادي سواء أكان ما يتعلق بتوفير الوسائل المالية اللازمة

لحفز عناصر الإنتاج أو إعادة التوازن من خلال التشريع المالي الإسلامي الذي

عالج قضية التفاوت بأسلوب يحقق العدالة ويساعد الفئات غير القادرة على المساهمة

في نمو الدخل العام.

تمثلت معالجة الإسلام للتفاوت في تملك الثروة باتباع نظام مالي فريد في

نوعه يتحقق من خلاله تحقيق عدالة التوزيع وإيجاد التكافل بين مختلف أفراد

المجتمع ضمن إطار تنظيمي متكامل، بحيث إذا اختل جزء منه ظهر الاختلال في

بقية الأجزاء، فالنظام المالي الإسلامي مكمل للنظام الاقتصادي في إطاره العام

والاجتماعي بمختلف جوانبه بحيث لا يمكن تحقيق أهداف النظام المالي الإسلامي

إذا اختلت بقية أنظمة الإسلام المتعلقة بتنظيم شؤون الإنسان الحياتية.

مميزات نظام توزيع الثروة في الإسلام:

يتميز نظام توزيع الثروة في النظام الإسلامي بخصائص مهمة تتمثل في الآتي:

أولاً: وضع نظام للجباية المالية من المكلفين حيث يشمل هذا النظام جميع

مصادر الدخل، ويتمثل ذلك في نظام الزكاة فقد خصص هذا المورد للإنفاق منه

على تلبية احتياجات الفرد الأساسية وتنمية قدرته الذاتية من خلال منح الزكاة

للمحتاجين من أفراد المجتمع، لقد حدد القرآن الكريم مصارف الزكاة بحيث لم

يجعل لآراء الأفراد دوراً فيمن تصرف له يقول تعالى: [إنما الصدقات للفقراء

والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله

وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم] [التوبة: ٦٠] ، فهذه الآية تحدد

نوعية من تصرف لهم الزكاة ومن خلالها يتضح أن الزكاة تهتم بتوفير الحاجات

الفردية لأفراد الأمة، ولقد اهتم العلماء المسلمون بتحديد الكفاية التي تحدد من

يستحق الزكاة ممن لا يستحقها، يقول الإمام النووي في هذا الخصوص: «المعتبر

المطعم والملبس والمسكن وسائر ما لابد له منه على ما يليق بحاله بغير إسراف ولا

إقتار لنفس الشخص ولمن هو في نفقته» [١] ، وهذا الفهم الذي أشار إليه الإمام

النووي قائم على فهم ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي

هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعلي قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته» [٢] .

إن المفهوم الذي يمكن استخلاصه من هذا الحديث هو اتساع نطاق الحاجات

العامة التي تقوم الدولة باتباعها بحيث تتكفل الدولة برعاية أفرادها في أمورهم

الخاصة ممن لا يستطيعون أن تكون لهم القدرة على توفير احتياجاتهم، وهذا الأمر

ليس متروكاً للأفراد من الناس وإنما هو واجب من واجبات الدولة عليها القيام به.

وإن تحقيق العدالة في توزيع الثروة بين مختلف فئات المجتمع وبالتالي

إضعاف تأثير الجوانب الأخرى المسببة للمشكلة الاقتصادية يقوم على مفهوم أن

المسلمين كالجسد الواحد.

خصائص الزكاة:

ولهذا فإن الزكاة تمثل الأداة التي شرعها الإسلام لتحقيق عدالة التوزيع والتي

تتميز بالخصائص التالية [٣] :

١- فصل حصيلة الزكاة عن الموارد المالية الأخرى التي يتم جبايتها للإنفاق

على المصالح العامة وتخصيصها بالإنفاق منها على الفئات الثمان التي حددها

القرآن في آية الصدقات: على أن يكون الإنفاق على احتياجات الأفراد بالشكل الذي

يجعل مستحق الزكاة يستغني عن الزكاة مستقبلاً بحيث يكون مساهماً في زيادة

موارد الزكاة، يقول الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) في هذا

الخصوص «فيدفع إلى كل واحد منهما (الفقير والمسكين) إذا اتسعت الزكاة ما

يخرج به من اسم الفقر والمسكنة إلى أدنى مراتب الغنى، وذلك يعتبر بحسب

الحالات فمنهم من يصير بالدينار الواحد غنياً إذا كان من أهل الأسواق يربح فيه

قدر كفايته فلا يجوز أن يزاد عليه، ومنهم من لا يستغنى إلا بمائة دينار فيجوز أن

يدفع إليه أكثر، ومنهم من يكون ذا جلد يكتسب بضاعته قدر كفايته فلا يجوز أن

يعطى وأن كان لا يملك درهماً» [٤] ، وهذا الفهم للإمام الماوردي لنطاق صرف

الزكاة إنما هو مبنى على توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي

رواه الترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «قدم علينا مصدق النبي -

صلى الله عليه وسلم- فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا وكنت غلاماً يتيماً

فأعطاني منها قلوصاً» [٥] .

٢- في حالة عجز الزكاة عن كفاية احتياجات الأفراد فإن لولي الأمر فرض

مبالغ إضافية لسد حاجة المحتاجين من الأغنياء بشكل مؤقت لإشباع الحاجات، وقد

أوضح الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك في الحديث الذي رواه الترمذي عن

فاطمة بنت قيس قالت سألت أو سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الزكاة فقال

(إن في المال حقاً سوى الزكاة ثم تلى هذه الآية التي في البقرة [ليس البر أن تولوا

وجوهكم] « [٦] ، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي رواه الطبراني

في الصغير موقوفاً أنه قال» إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر

الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعسروا إلا مما يضيع أغنياؤهم،

ألا وإن الله عز وجل يحاسبهم يوم القيامة حساباً شديداً، ثم يعذبهم عذاب أليماً.

٣- اعتماد عدم المركزية في الجباية والصرف بالنسبة للزكاة فلا يجوز نقل

حصيلة الزكاة من وحدة إدارية معينة إلى أخرى مالم يتم إشباع حاجات أفراد هذه

الوحدة الإدارية، وقد أوضح الرسول ذلك كما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن

عباس الذي جاء فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذ بن جبل

رضي الله عنه إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن

لا إله إلا الله وإني رسول الله.. إلى أن قال: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة

في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم» [٧] ، وقد أوضح الإمام الماوردي

واقع صرف الزكاة على الأصناف الثمانية حيث قال: «وإذا قسمنا الزكاة في

الأصناف الثمانية لم يحل حالهم بعدها من خمسة أقسام: أحدها أن تكون وفق

كفايتهم من غير نقص ولا زيادة، فقد خرجوا بما أخذوه من أهل الصدقات وحرم

عليهم التعرض لها، القسم الثاني: أن تكون مقصرة عن كفايتهم فلا يخرجون من

أهلها ويحالون بباقي كفايتهم علي غيرها، والقسم الثالث: أن تكون كفاية لبعضهم

مقصرة عن الباقين فيخرج المكتفون عن أهلها، ويكون المقصرون على حالهم من

أهل الصدقات، والقسم الرابع: أن يفضل عن كفاية جميعهم يخرجون من أهلها

بالكفاية ويرد الفاضل من سهامهم على غيرهم من أقرب البلاد إليه، والقسم الخامس

: أن تفضل عن كفايات بعضهم ويعجز عن كفاية الباقين فيرد ما فضل عن المكتفين

على من عجز عن المقصرين حتى يكتفي الفريقان» [٨] .

٤- استخدام الزكاة أداة لتحريك الفوائض المالية الناتجة عن عنصر العمل

باستغلالها، فالزكاة ليست واجبة على الناتج أو صافي الربح وإنما على رأس المال، وما ينتج عنه إذا تجاوز النصاب، والنصاب يتفاوت حسب طبيعة المال بجانب

أن شمولية الزكاة لجميع أفراد المجتمع وأن الحد الأدنى لما يعفى من الزكاة ضئيل

سواء أكان لرأس المال أو الناتج وفرض الزكاة وفق ذلك يهدف إلى التقليل من

تراكم المال في يد فئة معينة محدودة، فالزكاة تدفع المدخرات الجامدة إلى الاستثمار

المنتج وليس إلى الاستثمار غير المنتج حيث حرم الإسلام الربا أو الاستثمار في

إنتاج سلع أو تقديم خدمات محرمة مثل إنتاج الخمور أو آلات الطرب أو خدمات

المتع المحرمة.

ثانياً: لعنصر العمل تأثير في العملية الإنتاجية كما أنه المصدر المساعد في

تكوين الثروة بجانب أنه وسيلة التملك الأساسيةفي الإسلام واختلاف نصيب العمل

من الناتج القومي يؤثر في عدالة توزيع الثروة كما أنه العنصر الذي يساعد على

تفاقم المشكلة الاقتصادية، ولهذا فقد اهتم الإسلام عند معالجته للمشكلة الاقتصادية

بأن أعطى لهذا العنصر من عناصر الإنتاج أهمية خاصة وراعى - عند توزيع

الناتج القومي على عناصر الإنتاج - هذا العنصر لما له من دور سلبي أوإيجابي في

الوضع الاقتصادي لأي مجتمع، فعنصر العمل هو العنصر المتحكم والمؤثر في

تحديد تكاليف الإنتاج، وبالتالي في قيمة الناتج القومي وتوزيعه بين عناصر الإنتاج

الأخرى.

إن معالجة الإسلام عند توزيعه للناتج القومي بين مختلف عناصر الإنتاج قد

راعى أهمية عنصر العمل باعتباره عاملاً منتجاً أو مستهلكاً في الدورة الاقتصادية،

فوضع قواعد وأسس ينبغي الاسترشاد بها عند تحديد مقدار الأجر الذي يعطى

للعامل: وقد ارتكزت هذه الأسس على قاعدة ضرورة كفاية الأجر في توفير

الضروريات الأساسية لحاجات الفرد بحيث لا يقل الحد الأدنى للأجر عن توفير هذه

الضروريات، وبالتالي فإن هذا الحد يتغير بتغير الظروف ويفهم هذا من حديث

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المستورد بن شداد قال سمعت رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- يقول: «من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة وإن لم يكن له

خادم فليكتسب خادماً فإن لم يكن له مسكن فليكتسب سكناً قال أبو بكر أخبرت أن

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق» [٩] .

ثالثاً: يقر الإسلام لرأس المال بأحقية الحصول على جزء من الناتج القومي

باعتبار أن رأس المال عنصر من عناصر الإنتاج الذي يتحقق من خلال استغلاله

زيادة الناتج القومي، بالتالي فإن لرأس المال حق في الحصول على جزء من الناتج

القومي على شكل ربح أو إيجار، ويمكن فهم ذلك مما ورد عن رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- مما رواه ابن ماجة والبيهقي والنسائي وأبو داود عن رافع بن فريج

قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمزابنة» [١٠] ...

وكذلك ما رواه مسلم وأبو داود عن حنظلة بن قيس الأنصاري «قال سألت رافع بن

خديج - رضي الله عنه - عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به إنما

كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الماذيانات

وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم

يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك أجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا

بأس» [١١] ، فمن جملة ما يفهم من هذه الأحاديث أن الإسلام يعطى لرأس المال نصيباً من الناتج القومي باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج يؤثر في تحديد تكلفة المنتج وبالتالي في قيمة الناتج القومي ولكنه استبعد وضع قيود لأحقية رأس المال في جزء من الناتج القومي، وهذه الأحقية مرتبطة بطبيعة دور رأس المال في الحصول على الناتج القومي: ولهذا فإن حق رأس المال في جزء من الناتج القومي إنما يتحقق إذا تمثل في أصل ثابت يمكن استغلاله بتحقيق الإنتاج مثل الريع للأرض أو المساهمة مع عنصر آخر مثل دخول رأس المال النقدي أو العيني مع العمل في تحقيق الربح، ولهذا نجد أن الإسلام استبعد أن يكون للنقود - التي هي أداة

للتداول - أن يكون لها جزء من الناتج.

ولهذا فقد حرم الربا بأي صورة كانت سواء أأطلق على الربا الفائدة أو العائد

أو العمولة أو أي تسمية كانت، لهذا فإن نظرية التوزيع للناتج القومي التي تمثل

جانب من جوانب المشكلة الاقتصادية في النظام الاقتصادي المعاصر، كما يمكن

فهمها من القرآن والسنة أنها تقوم على قاعدة المشاركة الفعلية في عملية الإنتاج،

ولهذا فإن عملية التوزيع وفقاً لذلك تتحدد في عنصر العمل من خلال دفع الأجور

والربح لرأس المال المساهم في عملية الإنتاج الذي يتحمل المخاطرة بالفقدان في

حالة الخسارة وأحقية الحصول على عائد يتمثل في الربح أو الإيجار لرأس المال

العيني الذي تم تكوينه من خلال استغلال الموارد الطبيعية والاستفادة منها في تكوين

أصول رأسمالية منتجة يتم الانتفاع بها فتنال جزءاً من الدخل الناتج عن استغلالها.

هذه هي المشكلة الاقتصادية:

مما سبق من مناقشات لجوانب متعددة للمشكلة الاقتصادية يتضح لنا أن

المشكلة الاقتصادية من وجهة النظر الإسلامية هي جزء من واقع حياة الإنسان

وبالتالي فلا يمكن القضاء عليها، ولكن يمكن الحد من تأثيراتها السلبية، وأن

معالجة الإسلام للمشكلة الاقتصادية يقوم على تجنب الأسباب بالمواجهة لهذه المشكلة، والالتزام بالمنهج الإسلامي في التنظيم الاجتماعي والسياسي والمالي الذي رسمه

الله في كتابه وعلى لسان نبيه، وأن تحقيق الرخاء يرتبط بالإيمان بالله سلوكاً

واعتقاداً كما أشار إلى ذلك ربنا في كتابه في قوله تعالى: [ولو أن أهل القرى

أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض..] [الأعراف: ٩٦] .


(١) مطالب أولي النهى.
(٢) البخاري، كتاب النفقات ح/١٥.
(٣) لمزيد من الإطلاع على نظرية الإسلام في التنظيم المالي للدولة بما يتلاءم مع الواقع المعاصر ومع مبادئ الشريعة يراجع كتابنا مالية الدولة على ضوء الشريعة الإسلامية دراسة نظرية وعملية تكيفية تطبيقاً للشريعة في مجال تمويل الدولة ومناهج صرف الأموال - عالم الكتب ١٤١٣هـ.
(٤) الأحكام السلطانية.
(٥) الترمذي، كتاب الزكاة ح/٢١.
(٦) الترمذي، باب ما جاء أن في المال حقاً سوى الزكاة ح/٦٦٢.
(٧) البخاري، كتاب الزكاة ح/١.
(٨) الأحكام السلطانية.
(٩) أبو داود، كتاب الإمارة، باب أرزاق العمال ح/٢٩٤٥، قال الألباني: صحيح، صحيح أبي داود ح/٢٥٥٢.
(١٠) البخاري، كتاب البيوع ح/٨٢.
(١١) مسلم، كتاب البيوع ح/١١٣.