للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

أمتنا ومرحلة الغثائية!

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله

وصحبه أجمعين.. ... أما بعد،،

نتساءل -بكل براءة- ويتساءل معنا كل مسلم مخلص هل وصلت أمتنا

العربية المسلمة إلى المرحلة الغثائية التي حذر منها الرسول الكريم -صلى الله عليه

وسلم- بقوله: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تتداعى الأكلة إلى

قصعتها، قيل: يا رسول الله، فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء

السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب أعدائكم لحبكم الدنيا

وكراهيتكم الموت) [١] .

نعم إن كثيراً من بني قومنا يخطبون اليوم ود (يهود) ، ويطالبون على أصعدة

كثيرة بإعادة العلاقات معهم وتطبيعها والدعوة -بكل حماس- إلى إلغاء مقاطعتهم في

سبيل إنشاء ما يسمى بـ (السوق الشرق أوسطية) ، وليست المسألة مجرد تنشيط

الواقع الاقتصادي المتردي في كثير من البلدان، فلوازم التطبيع أكبر من ذلك بكثير؛ فهناك التطبيع الثقافي الفكري ومن ثم إبعاد كل ما يعكر هذا التوجه ... ألم نسمع

بسياسات تجفيف المنابع التي بدأت فيها بعض الدول العربية فغيرت المناهج

وحذفت كل ما له علاقة بالتحذير من أعداء الإسلام، وحذفت آيات الجهاد وتراجم

الأبطال، ولا ندري هل تصل محاولات الحذف إلى آيات القرآن والحديث، الله

أعلم! ! .

والأعجب في هذه المرحلة أن يُوقَفَ - بكل صفاقة - ضد كل المعارضين

لذلك التوجه ووصمهم بالتطرف والإرهاب، وهذا ما وضحت بوادره في أكثر من

بلد عربي، فإلى الله المشتكى.

ويتواصل المد الغثائي في الأمة بمواقفها السلبية من كثير من قضايا المسلمين

المغلوبين على أمرهم وبخاصة في البوسنة والهرسك، نعم هناك إعلام يعمل ليل

نهار لكشف خلفيات تلك المؤامرة القذرة التي يقوم بها الغرب والشرق ضد هذه

القضية، وهناك جهود إغاثية لمد المسلمين هناك بالدعم والمساعدة، ولكن أين

الموقف الشجاع ضد الصرب (الأرثوذكس المتعصبين) ؟ هل قام المسلمون جميعهم

بتهديد الصرب - ولو بمجرد الكلام - أو بقطع العلاقات الدبلوماسية معهم وقطع

العلاقات الاقتصادية أيضاً؟ إن ذلك مع الأسف لم يحدث! ، والأعجب أن تقوم

الدول الغربية بمؤامراتها المكشوفة ضد مسلمي البوسنة والهرسك وتتواطأ معهم

(هيئة الأمم) ومندوبوها المدنيون والعسكريون، وحينما يتحدى الصرب كل جهودهم

الهزيلة ويعرضون جنودهم للقتل غيلة، لا يحركون ساكناً، بل يقومون بذبح

القضية بمخططات مشبوهة يقصد منها إرضاء الصرب وإعطاؤهم ما يريدونه على

حساب هذه الدولة المسلمة، ولا شك أن ذلك له خلفياته العقدية التي ترفض قيام

كيان إسلامي في أوروبا.

ووجدنا (روسيا) الأرثوذكسية الحاقدة تقف، مواقفها المكشوفة في البوسنة،

تقف ضد أي قرار لتأديب الصرب وفي الوقت نفسه تدعمهم بكل الطرق الممكنة

خارقة بذلك الحصار الدولي الهش على الصرب، وحينما كان التهاون هو موقف

المسلمين بعامة حيال تلك الأعمال: لم تتردد روسيا في التدخل الدموي لإجهاض

استقلال دولة الشيشان بأساليب همجية، ولقد وقف مجاهدو الشيشان ضدها بكل

بسالة وشجاعة؛ مما أدى إلى الفشل الذريع الذي مني به الجيش الروسي والخسائر

الفادحة التي تكبدها، واستيقاظ الغرب مؤخراً على مخالفات (حقوق الإنسان) بدك

(جروزني) بالصواريخ والقنابل المحرمة دولياً.

إن غثائية أمتنا تمثلت حينما عُقد (المؤتمر الإسلامي) وانتهى بغير أن يتطرق

إلى هذه القضية لا من قريب ولا من بعيد! ! وكأن لسان حالهم - ما هو رأي

الغربيين - أن قضية الشيشان مسألة داخلية، وهذا خطأ شنيع ارتكبه الغرب وتُوبع

عليه، مع أن حق الشعوب في تقرير مصيرها مسألة محسومة حسب مواثيقهم

الدولية، أكدتها مواثيق هيئة الأم المتحدة في الفقرة (٢) من المادة [١] ، وكذلك

المادة (٥٥) ، ثم جاءت البروتوكولات الخاصة بحقوق الإنسان لتؤكد أهمية ذلك.

والعجيب أن الغربيين قبل ٢٠ عاماً -عند التوقيع على ميثاق (هلسنكي) -

أصروا على أهمية حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي التي كانت تعتبر شأناً داخلياً، لكن الغرب رفض ذلك الاعتبار بالإجماع، وفي نهاية الحرب الباردة كانت أمريكا

هي القائد أيضاً في مجال تأكيد تلك الالتزامات من خلال (ميثاق أوروبا الجديدة)

الذي تم التوقيع عليه في مؤتمر قمة باريس عام ١٩٩٠، وقد رفض الميثاق - كما

فعل إعلان هلسنكي - اللجوء إلى القوة في حل النزاعات.

وروسيا - باعتبارها وريثة (الاتحاد السوفيتي البائد) - ملزمة بهذه القوانين

الدولية التي تدوسها اليوم وتضرب بها عرض الحائط على مرأى ومسمع من

الجميع.

إن حجة الغرب بأن أحداث الشيشان مسألة داخلية مغالطة وادعاء بلا دليل،

فقد سبق للغرب أن تدخل في شؤون (الاتحاد السوفيتي) السابق في مسألة مواقفه

غير الإنسانية من الكتاب السوفيت المعارضين الذين ما إن يتحدث أحدهم بمعارضة

الدولة حتى يضغط عليها ليخرج بسلام، بل ويعطى جائزة نوبل، وتدخل في

شؤونه أيضاً يوم منع هجرة اليهود لفلسطين المحتلة، وتدخلت أمريكا في الصومال، ومؤخراً في (هايتي) ، وتدخلت فرنسا في (رواندا) ، وحتى يبقى الأمر مقبولاً

تحول ببساطة إلى تدخل دولي! !

أين إنسانية الغرب اليوم مما حدث في البوسنة وما يحدث اليوم في الشيشان؟! لماذا يقال إنها مسألة (داخلية) ، وفي قضايا أخرى يتم التدخل ويحول إلى تدخل

دولي بأساليب مكشوفة؟ ! .

لماذا ضغط الغرب على الاتحاد السوفيتي حتى يمرر استقلال دول البلطيق،

ثم يسكت ويصاب بالصمم والعمى عن أحداث همجية تحدث في بلاد أخرى؟ ! ،

المسألة مسألة عقيدة ونعرات صليبية مهما استبعدها أدعياء التنوير.

وعليهم أن يعوا ما قاله صاحب (الفرصة السانحة) : (إن المصالح وليست

المثاليات هي التي تدفع الدول إلى التعاون) .

إننا - وبكل صراحة - ندعو بني قومنا ساسة ومفكرين وإعلاميين وغيرهم

إلى مراجعة سريعة لحال الأمة، وأهمية الوقوف بكل شجاعة وتَبَنِّي الموقف

الإسلامي وبكل جسارة مع الغرب والشرق، وبخاصة في الموقف من القضايا

الإسلامية ومحاسبتهم بدقة حيال الاستهتار الحاصل إزاءها، وضرورة احترام

الشعوب الإسلامية المغلوبة على أمرها وأهمية إعطائها حق تقرير مصيرها كغيرها.

ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم الذي هو شهر عزة وكرامة وشهر جهاد وقوة

جدير بنا أن نجعل منه منطلقاً لتصحيح أوضاعنا ولمحاسبة أنفسنا على ما فرطنا في

جنب الله من أخطاء وخطايا جعلتنا إلى الغثائية أقرب.

إن هذا الشهر المبارك جدير بأن يشعل في أنفسنا روح الجهاد، وأن يثير في

جوانحنا فعل الخيرات وترك المنكرات وتكفير السيئات.

واللهَ نسأل - كما بلغنا هذا الشهر- أن يوفقنا لصيامه وقيامه، وأن ينصر دينه

ويعلي كلمته، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.


(١) المسند للامام أحمد ج ٥ ص ٢٧٨، وأبو داود ج ٤ ص ٤٨٣، وصححه الألباني: صحيح سنن أبي داود ح / ٣٦١٠.