للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات دعوية

الترف

وخطره على الدعوة والدعاة

-٢-

فيصل البعداني

تطرق الكاتب الكريم في الحلقة السابقة إلى بيان حقيقة الترف وموقف الإسلام

منه وأهم مظاهره وأسبابه وأهم آثاره العامة والخاصة، ونواصل معاً الاطلاع على

المزيد من الإيضاح والبيان لجوانب أخرى من هذا الموضوع.

-البيان-

الآثار السيئة للترف على مسيرة الدعوة:

*أن المترفين من الدعاة حريصون على تقليد تجارب دعوية سابقة، وقل أن

يبرز من أوساطهم قيادات دعوية جديدة تتأمل في تجارب من سبقها وتأخذ منها ما

كان صالحاً في نفسه ومناسباً للمرحلة التي تمر بها الدعوة، وما لم تجده لدى

السابقين كذلك اجتهدت فيه على ضوء تعاليم الشرع وفي ظل متطلبات الواقع.

*عدم تقدم الدعوة إلى مراحل متقدمة، بل تأخرها إن لم يصل الأمر إلى

انشقاقها نتيجة اختلاف الرأي بين المترفين وغير المترفين من الدعاة حيث إن

المترفين غالباً ضعيفو الرأي، والعميق منهم في رأيه يكون الأصل فيه مراعاة

استمرار أسباب ترفه حتى وإن لم يستشعر ذلك في ذهنه وغير المترفين غالباً هم

الأكثر عمقاً في الرأي وسبر حقائق القضايا والمسائل من غيرهم، ولكن زمام اتخاذ

القرار والمبادرة غالباً بيد من بإمكانه مد الدعوة بالمال والقدرة على الإنفاق على

مشاريعها - بيد المترفين -، ورجوع أولئك عن رأيهم إلى ما يراه غيرهم قليل في

الغالب نظراً لما يوجده الترف لديهم من استعلاء وكبر خفي يحجزهم في أكثر

الأحيان عن قبول الحق ممن ليس على شاكلتهم، ولن يعجزوا عن التبرير وسوق

الحجج لأن باب الاستغلال السيء لمصلحة الدعوة مشرع للجميع وليس من عادته

رد أحد.

*كون المترفين أكثر عرضة للفتور والتراجع عما هم عليه من خير ودعوة

أمام الفتن التي تلازم في الغالب الدعاة، والعقبات التي تعترض مسيرة الدعوة، بل

إن بعضهم قد يتحول أمام المغريات والخوف من أفول الترف وانصرام الملذات إلى

الوقوف في وجه الدعوة، وكَيْل التهم لها، وإثارة الشُبَه حولها، ومحاولة الوقيعة

بين حَمَلتها.

*أن الداعية المترف متعود على الإنفاق على خواصه بكثرة وسعة؛ فإذا أوكل

إليه شيء من أموال الدعوة فعل بها كما يفعل بماله غالباً، والأصل أنها لا تصرف

إلا في الأمور الضرورية والحاجية، وما زاد عن مكان فالمكان الآخر في أمس

الحاجة إليه.

*أن الداعية المترف أقل اهتماماً بدعوته والقيام بها من غيره، وذلك لأنه عقد

همته للشهوات والتلذذ بالنعم والملذات وطلب أسباب ذلك، هذا من جهة، ومن جهة

أخرى: هو عاجز عن القيام بأمور نفسه فكيف يقوم بأمور الدعوة وهي ضرب من

الجهاد؟

*أن الداعية المترف أقل إفادة للمدعوين من غيره، وذلك لأن انغماسه في

النعيم وتحصيل أسبابه مانع له من التزود بالعلم الشرعي، مما يعني اكتفاءه بتقديم

ما عنده من معلومات، فإذا انتهت بدأ بتكرارها، وهكذا.

*الترف من أسباب زوال الدعوات وأفولها ما لم يبادر كبار الدعاة إلى إصلاح

الوضع وتسديد الأمر لأن انتشار الترف بين مجموعة من الدعاة من غير نكير يؤدي

إلى اتساع انتشاره بين فئات أخر، نظراً لحب النفوس لذلك واتخاذ كل فئة لمن

قبلها قدوة، مما يؤدي إلى ضعف الأنشطة في البداية نتيجة فتور بعض الدعاة،

وبعد ذلك يبدأ تساقط الفاترين مجموعة بعد مجموعة نتيجة الانهماك بزخرف الحياة

والتشاغل بزينتها.

*الترف يدفع الدعاة إلى عدم نشر الدعوة بقوة وجدية بين كافة فئات المجتمع، كما أنه يؤدي إلى فتور المربين عن ممارسة الأعمال التربوية نظراً لمشقة ذلك

على النفس وما تتطلبه العملية التربوية من وقت وجهد وبذل، وذلك ما يعجز عنه

المترفون نظراً لعدم تعودهم عليه.

علاج الترف وكيفية تجاوزه:

سيكون هناك بسط للحديث - نوعاً ما - في هذا الجانب نظراً لأهميته،

وسيتم تقسيم هذه الفقرة إلى ثلاثة محاور:

أ- من هدي السلف في التعامل مع زهرة الحياة وزخرفها:

لابد للمترف من النظر في هدي السلف في التعامل مع متع الحياة وملذاتها،

للأخذ منه والسير على منواله، ونظراً لكثرة ما ورد عن السلف في ذلك فسأحاول

ذكر أبرز معالم هديهم في ذلك والاستشهاد لذلك ببعض أقوالهم وأفعالهم:

*تربية النفس على عدم تحقيق كل ما تشتهيه مع قدرة العبد على تحقيق

مطلوبها؛ قال رجل لابن عمر (رضي الله عنه) : ألا أجيئك بجوارش، قال: وأي

شيء هو؟ قال: شيء يهضم الطعام إذا أكلته، قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر،

وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثر مما يشبعون [١] ،

وفي رواية: ولكن عهدت أقواماً يجوعون مرة ويشبعون مرة [٢] . وسئل الحسن

عن الرجل يبتاع الطعام ويبتاع اللحم، هل عليه في ذلك؟ فقال: إن عمر بن

الخطاب (رضي الله عنه) قال: كفى سرفاً ألا تشتهي شيئاً إلا أكلته [٣] .

*أن ما يكون ترفاً من رجل قد لا يكون ترفاً من آخر، حيث كان السلف

(رحمهم الله تعالى) يفرقون بين الرجل الغني والرجل الفقير، فيقبلون من الغني من

التوسع ما لا يقبلونه من الفقير؛ عن عبد الله بن حميد قال: مر جدي على عمر

ابن الخطاب وعليه بردة فقال: بكم ابتعت بردك هذا؟ قال: بستين درهماً، قال:

كم مالك؟ قال: ألف درهم، قال: فقام إليه بالدرة فجعل يضربه ويقول: رأس

مالك ألف درهم وتبتاع ثوباً بستين درهما؟ ! [٤] ، وفي حين كان عمر يصنع ذلك

بهذا الرجل ذكر ابن سعد عن سعد بن إبراهيم قال: كان عبد الرحمن بن عوف

يلبس البُرد أو الحلة تساوي خمسمائة أو أربعمائة [٥] ، وذكر الأصفهاني عن

عثمان بن أبي سليمان: أن ابن عباس اشترى ثوباً بألف درهم فلبسه [٦] .

ومما ينبغي أن يلحق بذلك اختلاف البلدان غنى وفقراً، وكذلك اختلاف

الأوقات من حيث نزول النوازل بالمسلمين أو عدم ذلك، ففي البلد الغني في حال

الأمن واستقرار أحوال المسلمين يتساهل في التوسع في استعمال المباحات أكثر من

التساهل بذلك في البلد الفقير، أو في حال نزول المصائب والبلايا على المسلمين.

*النظر إلى ملذات الحياة الدنيا وشهواتها على أساس أنها وسيلة زائلة تقرب

إلى الدار الآخرة لا أنها غاية في ذاتها وهدف يطمح إلى تحقيقه والتشبث به، قال

عثمان ابن عفان (رضي الله عنه) في آخر خطبة له: إن الله إنما أعطاكم الدنيا

لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، لا

تبطركم الفانية، ولا تشغلكم عن الباقية، آثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا

منقطعة وإن المصير إلى الله (عز وجل) [٧] .

*التوسط في الإنفاق على النفس والأهل؛ قال عبد الملك بن مروان لعمر ابن

عبد العزيز: كيف وما يغنيك؟ ، قال: الحسنة بين السيئتين، قال الله (تعالى) :

[والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما] [الفرقان: ٦٧] [٨] ، وقال الحسن: إن من علامة المؤمن: ... ولا يقصر به بيته، ولا يبخل ولا يبذر،

ولا يسرف ولا يقتر [٩] ، وعن سفيان، قال: كانوا يكرهون الشهرتين: الثياب

الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس فيها أبصارهم، والثياب الرديئة التي يُحتقر

فيها ويُستَذَل دينه [١٠] .

*الإنفاق في وجوه البر والخير والحث على ذلك؛ فعن علي (رضي الله عنه)

قال: ما أنفقت على نفسك وأهلك من غير سرف ولا تقتير فلك، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان [١١] ، وعن الزهري، قال: تصدق

ابن عوف على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشطر ماله، ثم تصدق

بأربعين ألف دينار، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على

خمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة [١٢] ، وعن الحسن،

قال: باع طلحة أرضاً له بسبعمائة ألف، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرقاً من

مخافة المال حتى أصبح ففرقه [١٣] ، وعن مغيث بن سمي، قال: كان للزبير

ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منزله وليس معه

منه شيء [١٤] .

*السعي في طلب الرزق بدون مغالاة توصل العبد إلى التفريط في الطاعات؛

ومن ذلك: ما جاء عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: كنت أنا وجار لي

من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول

على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت

بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك [١٥] ، وعن ثابت

البناني، قال: ذكر أنس سبعين رجلاً من الأنصار كانوا إذا جنهم الليل أودوا إلى

معلم لهم بالمدينة يبيتون يدرسون القرآن، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوة أصاب

من الحطب واستعذب من الماء، ومن كانت عنده سعة أصابوا الشاة فأصلحوها

فكانت تصبح معلقة بحُجَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[١٦] ، وقال القاسمي: وكان السلف يبتدرون عند الأذان ويخلون الأسواق لأهل الذمة والصبيان [١٧] .

*الحث على شغل الإنسان وقته بما ينفعه ديناً ودنيا، والتحذير من البطالة

والفراغ، قال عمر (رضي الله عنه) : لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول:

اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة [١٨] ، وقال ابن

مسعود: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته [١٩] ، ... وقيل لأحمد: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئاً حتى

يأتيني رزقي؟ فقال: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي -صلى الله عليه

وسلم-: إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي [٢٠] وقوله -صلى الله عليه وسلم-

حين ذكر الطير فقال: تغدو خماصاً وتروح بطاناً [٢١] ، فذكر أنها تغدو في طلب

الرزق، وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتجرون في البر والبحر

ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم [٢٢] .

*الإكثار من محاسبة النفس عند سعة الرزق وانبساطه، وخشيتهم من أن

يكون ذلك استدراجاً؛ قال عبد الرحمن بن عوف: قُتل حمزة فلم نجد ما نكفنه فيه

وهو خير مني، وقتل مصعب بن عمير وهو خير مني فلم نجد ما نكفنه، وقد

أصبنا منها ما قد أصبنا.. ثم قال: إني لأخشى أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في

الدنيا [٢٣] .

وعاد خباباً نفرٌ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أبشر يا أبا

عبد الله إخوانك تقدم عليهم غداً، قال: فبكى وقال: أما إنه ليس بي جزع ولكنكم

ذكرتموني أقواماً وسميتم لي إخواناً، وإن أولئك قد مضوا بأجورهم كلهم، وإني

أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم [٢٤] .

ب- توجيهات عامة للمترف يمكنه القيام بها:

*معرفة أن الترف مما لا يليق بالدعاة، وأن اللائق بهم هو إيثار العمل بدين

الله والدعوة إليه والذود عنه؛ لأن ما عند الله خير وأبقى، ومن ترك شيئاً لله

عوضه الله خيراً منه؛ قال الله (تعالى) في الحديث القدسي: أعددت لعبادي

الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر [٢٥] ، وقال

ابن القيم (رحمه الله) : قال لي شيخ الإسلام في شيء من المباح: هذا ينافي

المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة، ثم يقول: فالعارف يترك

كثيراً من المباح إبقاءً على صيانته ولاسيما إذا كان ذلك المباح برزخاً بين الحلال

والحرام [٢٦] ، وقال (رحمه الله) في الفوائد: من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على

شهوته [٢٧] .

*على المترف أن ينظر في حوادث الزمان ونوائب الليالي والأيام، وأنه إن

كان غنياً اليوم فقد يكون فقيراً غداً، وبالتالي: فإنه إن لم يردع نفسه في غناه

واغتر بحاله فقد تزول دنياه فجأة ويتحول غناه فقراً وعزه ذلاً، وعندها تضيق به

الأرض بما رحبت وتسوء عاقبته، ولله در الشاعر حين قال:

إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم

فالعاقل يعد نفسه لتقلب الأحوال وتبدل الأزمان.

*على المترف أن ينظر في مدى الخسارة التي يجنيها نتيجة الاشتغال بمظاهر

الترف، ومن تلك الخسائر على سبيل المثال: ذهاب أمواله سدى، وكون الوقت

الذي يفنى في ذلك غير نافع له في الآخرة مع أنه يدنو بصاحبه من الآخرة،

وضعف محبة العبد لربه لأن اشتغاله بملذات الدنيا وشهواتها يؤدي به إلى حبها حباً

يصد عن الطاعة، ومثل ذلك مُضعف لحب العبد لربه، قال ابن القيم (رحمه الله) :

لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة [٢٨] .

*على المترف أن يدرك أن حصوله على وسائل الترف ومغريات الحياة

وشهواتها ليس من أسباب تحصيل السعادة، والواقع خير شاهد على ذلك، فكم من

رجل بلغ الغاية في الاستمتاع بزهرة الحياة ومتعها، ومع ذلك نجده كثير الخوف

والهموم، شارد البال، بل إن الأمر قد يصل به إلى قتل النفس والانتحار، وكم من

رجل مع فقره وصعوبة معيشته نجده في سعادة وهناء وانشراح صدر، قال الحسن: أهينوا الدنيا، فوالله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن هانها [٢٩] ، وقال الشاعر:

ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد

*الحذر من تقليد البيئة التي يعيش فيها في كل شيء، والتنبه لعدم أخذ

التصورات والقيم إلا من طريق الإسلام، لأن من أبرز أسباب الترف -كما سبق -

حب التقليد للمترفين في المجتمع وإرادة مباهاتهم وحب البروز والتعالي عليهم نتيجة

رفع كثير من المجتمعات من شأن الدنيا وزخرفها، وتحويل ذلك إلى غاية وقيمة

بعد أن كان وسيلة وزينة، والطريق لتجاوز ذلك وتلافيه: تعويد الإنسان نفسه

الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة لمعرفة حكمها في الشيء المراد فعله قبل

مباشرة ذلك، وعندما يطبق المرء ذلك ستتضح له القيم والسلوكيات المخالفة لتعاليم

الإسلام في المجتمع - ومنها الترف والتباهي به - فيسعى إلى الحذر منها وتجنبها.

*لابد للعبد من إشغال نفسه بما يعود عليه نفعه في الآخرة، وذلك لأن النفس

إذا رباها صاحبها على جعل ذلك هدفاً، تترتب الأولويات لديها فتقدم الأنفع على

النافع والنافع على ما ليس فيه نفع، وحين تفعل النفس ذلك فإنها ستتعالى عن

التعلق بمتع الحياة؛ قال سليمان الداراني: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان

في قلبه ما يشغله عن الآخرة [٣٠] ، وقال مالك بن دينار: بقدر ما تخزن للآخرة

يخرج هم الدنيا من قلبك [٣١] .

*التأمل في تبعات الترف في الآخرة، وتخيل العبد وقوفه بين يدي الله

(تعالى) ، والأسئلة التي ستوجه إليه في ذلك الموقف عن النعيم الذي يتقلب بين

جنباته في هذه الدنيا دافع له إلى ترك الترف، ولذا: ذكّر النبي -صلى الله عليه

وسلم- أمته بذلك فقال: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما

أفناه وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم

أبلاه [٣٢] ، ولقد كان هذا التأمل من أكبر الأسباب التي دفعت بعض السلف إلى

التقلل من الدنيا وملذاتها؛ قال طاووس: حلو الدنيا مر الآخرة، ومر الدنيا حلو

الآخرة [٣٣] وكان الأسود يقول: من كانت الدنيا أكبر همه، طال غداً في القيامة

غمه [٣٤] .

*النظر في حال أهل الترف قديماً وحديثاً، والتأمل في أوضاعهم وما يعانيه

غالبهم من غفلة، وقلة طاعة، وقسوة قلب، وكثرة هم، وتشتت فكر، بالإضافة

إلى الفجيعة من تقلب الأحوال والخوف من انصرام ما هم عليه من نعيم وملذات:

كفيل بردع العاقل عن التعلق بالملذات، ولله در سفيان الثوري حين قال: إذا أردت

أن تعرف قدر الدنيا فانظر عند من هي [٣٥] .

*إدراك المترف أن القليل من نعيم الدنيا يكفي لعبور هذه الدار والوصول إلى

الآخرة، وبالتالي: فإن عليه التخفيف من الانغماس في الملذات، قال -صلى الله

عليه وسلم- حين دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي

الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا! ، فقال: مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا

كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح

وتركها [٣٦] ، وكان خالد بن صفوان يقول: بت أفكر فكسبت البحر الأخضر بالذهب الأحمر، ثم نظرت فإذا الذي يكفيني من ذلك رغيفان وطمران [٣٧] .

*معرفة مخططات ووسائل أعداء الإسلام في إلهاء الشعوب المسلمة لصدها

عن دينها وسلب خيرات بلدانها، فإن من أسباب لهو بعض المسلمين وتشاغلهم

بالترف والشهوات - كما سبق - سعي أعدائهم من اليهود والنصارى وغيرهم إلى

ذلك، فمتى عرف المرء تلك المخططات واتضحت له وسائل تنفيذها، تحاشى

الوقوع في حبائلها.

*لابد للمترف من النظر في أحوال المسلمين والتأمل في شدة ما يعانون من

فقر وجهل ومرض، بالإضافة إلى ما يتعرضون له من حروب، ليعرف شدة خطئه

في ترفه، وأن الأنفع له تقديم ما يفيض عن حاجته إلى إخوانه.

ج- وسائل يحسن للمربين الأخذ بها للتخفيف من الترف وآثاره:

عندما نتحدث عن ترف بعض الأشخاص المنتسبين إلى طريق الدعوة لابد لنا

من التعريج على الدور الواجب القيام به من قبل المربين والمسؤولين عن المحاضن

التربوية لكي يقوموا بدورهم في تجاوز هذه الظاهرة حتى لا تتراجع مسيرة الدعوة

أو تستمر في مكانها التي هي فيه دون تقدم يذكر، والوسائل التي يمكن أن يقوم بها

المربون في علاج تلك الظاهرة كثيرة؛ منها ما يلي:

*تربية من في تلك المحاضن على الاستقامة والجدية، وتعوديهم على

أخذالإسلام بقوة بحيث يبادرون إلى فعل محبوبات الله (تعالى) سواء أكانت واجبات

أو مستحبات، وإلى ترك مبغوضات الله (تعالى) سواء أكانت محرمات أو

مكروهات. والاستقامة على الإسلام وأخذه بقوة لا يطيقه إلى من صلب عوده وقوي

إيمانه، لأنها تعني القيام بين يدي الله (تعالى) على حقيقة الصدق بحيث يترك

الإنسان شهوات نفسه وملذاتها مع قدرته على إتيانها، ويتحمل ما يلاقيه من جراء

قيامه بمخالفة معهودات المجتمع وعاداته [٣٨] .

*تصريف طاقات المتربين وتوجيههم إلى حسن استثمار أوقاتهم، لأن من

أبرز دواعي الترف وأسبابه ارتفاع نسبة الفراغ في أوقات الشباب، مع وجود

طاقات كبيرة بحاجة إلى توجيه وإرشاد واع من قبل المربين لتصريفها تصريفاً

حسناً ووضعها في المسار الصحيح، ولقد جاء حديث رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- الذي رواه ابن عباس (رضي الله عنهما) : نعمتان مغبون فيهما كثير من

الناس: الصحة والفراغ [٣٩] مبيناً مدى تفريط كثير من الناس في طاقاتهم،

ومنبهاً أصحاب التربية والتوجيه إلى ضرورة ملاحظة تلك الظاهرة والسعي بجد

لعلاجها.

*لابد للمربين أن يبينوا للذين يربونهم وبخاصة في المجتمعات المترفة منهج

الإسلام في التعامل مع النعم، والسعي بجد إلى ممارستهم ذلك المنهج في واقع

حياتهم العملية مع متابعتهم - بأسلوب مناسب - أثناء التطبيق والممارسة من أجل

رفع معنوياتهم، وتشجيعهم حال الإصابة، وتوجيههم إلى الحق حال مجانبته

والوقوع في ضده.

*لابد للمربين من توجيه الشباب وتربيتهم على الجلد والخشونة وترك الدلال

والطراوة، ومن الأمور التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك ما يلي:

-الحديث عن صفات الرجال المجاهدين في الأمة قديماً وحديثاً، وبيان مدى

تركهم للكثير من الأمور التي تؤدي بهم إلى الترف والرفاهية مع تمكنهم من إتيانها

لكي يتخذ المربُّون أولئك الأفذاذ قدوة وأسوة.

-إرشادهم إلى ما كان عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من

خدمة أنفسهم؛ قالت عائشة (رضي الله عنها) : كان أصحاب رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- عمال أنفسهم، فكان يكون لهم أرواح، فقيل لهم: لو اغتسلتم [٤٠] ،

وحثهم على القيام بخدمة أنفسهم قدر الإمكان والاستغناء عن العمال والخدم - في

المنزل وخارجه - وجعل ذلك هو الأصل وخلافه هو الاستثناء.

-اختيار أنواع الرياضة التي تؤدي إلى قوة الجسم وتساعد على التحمل

والخشونة كالجري والسباحة، وأنواع الرياضات التي تساعد في الدفاع عن النفس،

مع ملاحظة وتجنب المحاذير الشرعية والتربوية.

-الإقلال من توفير وسائل الترف، سواء أكان ذلك في المطاعم أو المشارب

أو الملابس أو المساكن أو المراكب أو الألعاب ... إلخ.

-دفعهم إلى إتيان ما يستطيعون من نوافل العبادات وبالأخص العبادات البدنية

كصيام التطوع والحج والعمرة وقيام الليل ... ونحو ذلك من العبادات التي يكون

فيها نوع مشقة على البدن.

-لا بد للمربين من توجيه من تحت أيديهم إلى الاهتمام بمعالي الأشياء وترك

سفاسفها، والبحث عن حقائق الأمور وعدم الاقتصار على ظواهرها، والقيام

بتعريفهم بأن قيمة الإنسان بحسب ما يكون عليه من تقوى لله وعمل لدينه ونصرة

لإخوانه، لا بما هو عليه من زهرة الحياة الدنيا وزخرفها.

*لابد للمربين من تعويد من تحت أيديهم على الإيثار والكرم وحب البذل

ودفعهم إلى المبادرة والتسابق في ذلك إيثاراً للباقية على الفانية، قبل أن يفاجئ أحداً

منهم الموت أو تتبدل به الأحوال ويحدث ما يمنعه من القيام بذلك.

*لابد للمربين أن يحملوا الذين يربونهم بعض المسؤوليات، مع التشجيع حال

الإصابة، والإرشاد مع الرفق حال الخطأ.

*لابد للمربين من تشجيع من تحت أيديهم على الابتكار والسعي إلى اتخاذ

القرار، وحثهم على التفكير والقيام بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وممارسة

النقد البناء ونبذ التقليد الأعمى للآخرين - من مربين وغيرهم - في الصغير

والكبير.

*لابد للمربين من طرق أسماع الذين يربونهم بمعاناة أكثر المسلمين في هذا

العصر مع تقديم ما يرسخ ذلك في نفوسهم من صور ووثائق، ودفعهم إلى المقارنة

بين حياتهم التي يعيشونها وبين الحياة التي يعيشها الآخرون من إخوانهم.


(١) الزهد للإمام أحمد، ١٨٩.
(٢) ، (٣) إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ١٠٦ (٤) السابق، ١١٢.
(٥) طبقات ابن سعد ٣/٩٢.
(٦) حلية الأولياء ١/٣٢١.
(٧) ذم المال لابن أبي الدنيا، ٧٧.
(٨) ، (٩) إصلاح المال لابن أبي الدنيا، ١٠٠.
(١٠) السابق، ١١٣.
(١١) كنز العمال ٦/٥٠٩.
(١٢) سير أعلام النبلاء ١/٨١.
(١٣) حلية الأولياء ١/٨٩.
(١٤) السابق، ١/٩٠.
(١٥) البخاري مع الفتح ١/٢٢٣، ح ٨٩.
(١٦) حلية الأولياء ١/١٢٣.
(١٧) موعظة المؤمنين ١/١٢٥.
(١٨) ، (١٩) موعظة المؤمنين ١/١١٦.
(٢٠) أحمد ١/٥٠، وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/٥٤٦، ح ٢٨٣١.
(٢١) أحمد ١/٣٠، وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/٩٣٢، ح ٥٢٥٤.
(٢٢) موعظة المؤمنين ١/١١٦.
(٢٣) حلية الأولياء ١/١٠٠.
(٢٤) السابق، ١/١٤٥.
(٢٥) البخاري مع الفتح ٦/٣٦٦، ح ٣٢٤٤.
(٢٦) مدارج السالكين ٢/٢٨.
(٢٧) الفوائد لابن القيم، ١٤٦.
(٢٨) السابق، ١٤٧.
(٢٩) ذم الدنيا لابن أبي الدنيا، ١٣٨-١٣٩.
(٣٠) السابق، ١٢٩.
(٣١) السابق، ٦٦.
(٣٢) الترمذي ٤/٦١٢، ح ٢٤١٧، وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/٢٢١، ح ٧٣٠٠.
(٣٣) حلية الأولياء ٤/١٢.
(٣٤) ذم الدنيا، ١٣٢.
(٣٥) السابق، ١٤٥.
(٣٦) أحمد ١/٣٠١، وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/٩٨٩، ح ٥٦٦٩.
(٣٧) ذم الدنيا، ١٤٨.
(٣٨) انظر: منهج السنة النبوية في تربية الإنسان لبدير محمد بدير، ١٠٦.
(٣٩) البخاري مع الفتح ١١/٢٣٣، ح ٦٤١٢.
(٤٠) السابق ٤/٣٥٥، ح ٢٠٧١.