للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

دراسة المستقبل

- مدخل تأصيلي -

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

مدخل:

علم الإدارة من العلوم القديمة قدم الإنسان، أخذ أشكالاً وأنماطاً متعددة تختلف

باختلاف العصور والأنشطة، وهو حصيلة تجارب وخبرات متنامية للاستفادة من

الطاقات والموارد المتاحة البشرية منها على وجه الخصوص للوصول إلى أهداف

محددة بأسرع وقت ممكن، وأقل جهد مبذول، وأقل تكلفة ممكنة.

فعلم الإدارة وسيلة من وسائل ضبط العمل وإتقانه وتوجيهه الوجهة الصحيحة، ولهذا قال الكاتب فورست في تعريف الإدارة: إنها فن توجيه النشاط الإنساني.

ويعتمد الفكر الإداري لبناء أي عمل من أي نوع كان على العناصر التالية:

١- التخطيط. ٢- التنظيم. ٣- التوجيه. ٤- الرقابة (المتابعة) .

فالتخطيط أحد العناصر المهمة لإنجاح أي عمل بشري، وهو يعني: التصور

المستقبلي المبني على الدراسة والتحليل للوقائع والإحصائيات الثابتة للعمليات

المستقبلية، ويكون عادة قبل التنفيذ [١] .

* ويشمل التخطيط ما يلي:

١- رسم الأهداف العامة والخاصة. ٢- دراسة المستقبل (التوقع) .

٣- رسم السياسات واللوائح. ... ٤- تحديد الجداول الزمنية للتنفيذ.

٥- دراسة الموازنات المالية المتوقعة.

فالتخطيط إذن وسيلة من وسائل بناء العمل على الدراسات والأبحاث العلمية،

وليس على أساس العواطف والرغبات الشخصية، وبه يعرف الإنسان إلى أين هو

ذاهب.. وما الطرق التي سوف يسلكها.. والوسائل التي سوف يستخدمها..!

وبهذا يتبيّن أنّ دراسة المستقبل أحد العناصر الرئيسة لنجاح التخطيط، حتى

إن الكاتب فايول اختزل علم الإدارة كله في هذا العنصر تأكيداً لأهميته وحيويته،

فقال في تعريف علم الإدارة: بأنّه النظر إلى المستقبل.

وفي هذه المقالة لن أتحدث عن عناصر الفكر الإداري، أو عناصر التخطيط، وإنّما سوف أخصصها لدراسة المستقبل وتوظيفه في العمل الإسلامي.

(١)

إن الدعوة الإسلامية من أجلّ وأشرف الأعمال التي تقوم بها الأمّة، وهي من

أولاها بالتخطيط والدراسة، وما لم تبن بناءً علمياً صحيحاً، وترسم لها الخطط

العلمية والعملية فإنّها سوف تبقى ذات أثر محدود الفاعلية زماناً ومكاناً، ولا يكفي

أن يكون العمل ناجحاً في مرحلة ما من المراحل، ولكن من المهم أن نحافظ على

ذلك النجاح وننميه بصورة مطردة.

لقد ولدت الصحوة الإسلامية المعاصرة في وسطٍ مُسْتَلَبٍ حضارياً وفكرياً،

ومتخلف إدارياً وسياسياً واقتصادياً، ورجال الصحوة جزء من هذه الأمة، ولهذا

امتدت إلى بعضهم العدوى لتصيب برامجهم التي تبنى على العفوية والارتجال

والاجتهادات الفردية المتخبطة، وتتأثر بردود الأفعال الآنيّة، وتنطلق من

أطروحات وعظية وتعميمات مبنية على فراغ علمي، والنتيجة المتوقعة إزاء ذلك:

ظهور بعض الإنجازات الغثائية الهشة التي لا تقوى على الثبات أمام الأعاصير

الفكرية والسياسية.

إنّ الدارس لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد أنّ خطواته المباركة في

كلّ مرحلة من المراحل الدعوية تسير وفق خطة محكمة مستبصرة؛ قال الله

(تعالى) : [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله

وما أنا من المشركين] [يوسف: ١٠٨] .

ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى المستقبل دائماً حتى في

أحلك المواقف وأحرجها، فها هو ذا يقول لخباب بن الأرت لما شكى له الشدة التي

أصابت الصحابة في العهد المكي: ... والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من

صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم

تستعجلون [٢] .

ويقول لسراقة بن مالك (رضي الله عنه) وهو يطارده يوم الهجرة: كيف بك

إذا لبست سواري كسرى؟ ! [٣] .

ويقول وهو يحفر الخندق، عندما اجتمعت عليه الأحزاب: أعطيت مفاتيح

الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة.. أعطيت مفاتيح فارس، والله

إني لأبصر قصر المدائن أبيض.. أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب

صنعاء من مكاني هذه الساعة [٤] .

والعجيب أن بعض الناس يبحث هذه النصوص ونحوها من زاوية واحدة فقط، وهي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، وأن هذا من

الغيب الذي أظهره الله عليه تأكيداً لنبوته ورسالته، وواجبنا التسليم والتصديق،

وهذا حق بلا ريب، ولكن لهذه النصوص زوايا وأبعاد كثيرة، من أجلّها: أنّ

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضع بين عينيه أهدافاً جليلة بعيدة المدى، ثم

استحث النفوس الحية والهمم العالية للوصول إليها، دون أن تصاب بالإحباط أو

اليأس لعارض طارئ من العوارض القريبة، فهي دعوة لتوسيع الأفق وتعميق

النظر والانطلاق إلى تلك الرحاب الواسعة لاستشراف آفاق المستقبل غير المنظور، ومن ثم: السعي الحثيث لاستثمار الحاضر بكل إمكاناته لبناء المستقبل وترسيخه

وإزالة عوائقه ومشكلاته.

إنّ سعة الأفق والنظر إلى المستقبل تجعل الإنسان يدرك تماماً: ماذا..

ومتى.. وكيف يعمل، فهو يتحرك برؤية واضحة وخطى مرسومة، وها هو ذا يوسف (عليه الصلاة والسلام) يرسم خطته الاقتصادية بالاستفادة من سنوات الرخاء المشهودة، لمواجهة سنوات الشدة المتوقعة؛ قال الله (تعالى) : [قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً ممَّا تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدَّمتم لهنَّ إلا قليلاً مما تحصنون]

[يوسف: ٤٧-٤٨] .

وإن شعار (المستقبل لهذا الدين) شعار صحيح بلا شك، دلت عليه الدلائل

الشرعية المتواترة، ولكنّه ليس شعاراً وعظياً، تحشد له القصص وتستثار له

النفوس فحسب، بل لابد من معرفة شروط التمكين وموانعه، والعمل على إعداد

الأمة وبنائها، ورسم الخطط المستقبلية الكفيلة بتيسير سبيل ذلك وإنجازه، فنصر

الله (عز وجل) لا يتنزّل على العجزة القاعدين؛ قال الله (تعالى) : [إن الله لا يغير

ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم] [الرعد: ١١] ، قال ابن الجوزي: إن الله لا

يُغير ما بقوم من الكروب، حتى يغيروا ما بأنفسهم من الذنوب، فلا يكون التغيير

إلا بعد التغيير، فبظلمنا وذنوبنا صبّت علينا المظالم، وهكذا ينتقم الله من الظالم

بظالم [٥] .

إن استشراف المستقبل ليس رجماً بالغيب، أو تعلقاً بالظنون والتخرصات،

أو اشتغالاً بالخيالات المجردة الهلامية، وإنما هو توظيف لمعطيات الماضي

(المدروس) والحاضر (الملموس) ومسبباتها، لتوقع نتائجها ولوازمها، ومن ثم:

رسم خطط العمل وتنظيمها بناءً على ذلك.

(٢)

إذا أردنا للدعوة الإسلامية أن تنهض من كبوتها، وتقدم برامج أكثر فاعلية

ونماءً وتأثيراً في الأمة، فلابد من وجود مراكز بحثية جادة يستقطب لها أهل العلم

والبصيرة والخبرة، ليتم من خلالها: دراسة المستقبل وتغيراته المتوقعة، ورسم

الخطط وتنظيمها.

وتتم دراسة المستقبل بالمواءمة بين العناصر التالية:

١- دراسة النواميس والسنن الكونية، فسنن الله (تعالى) ثابتة لا تتحول ولا

تتبدل؛ قال (تعالى) : [فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا]

[فاطر: ٤٣] ؛ ولهذا أمر الله (تعالى) بدراستها والاعتبار بها: [قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين]

[آل عمران: ١٣٧] .

٢- دراسة تاريخ الأمم وتجارب الشعوب والدول في قديم الدهر وحديثه؛

ففيها عبرة وعظة لكلّ معتبر، ولهذا قصّ الله (تعالى) لنا قصص الأمم الغابرة،

وقال: [لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن

تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون]

[يوسف: ١١١] .

٣- دراسة وتقويم تجارب الحركات الإسلامية المعاصرة بكلّ تجرّد بعيداً عن

التعصب لها أو ضدها، والحذر من عقدة التفرد والتميز التي قد تصاب بها بعض

تلك الحركات التي تؤدي في الغالب إلى الدوران حول الذات واعتقاد الكمال

(الزائف!) ، وتقزيم الحركات الأخرى، ومن ثم: إهمال تاريخها وتجاربها، مع

أنّ الحكمة تقتضي دراسة حتى الحركات التي نرى أنّها هزيلة وذات تجارب ضعيفة، لكي لا نقع فيما وقعت فيه، والسعيد من وعظ بغيره.

٤- دراسة الإمكانات والقدرات المتاحة الموظفة والمستثمرة حالياً، أو التي

يمكن توظيفها مستقبلاً.

٥- التعرف على مواطن القوة لاستثمارها ودعمها، ومواطن الضعف

لتصحيحها وعلاجها، ويتطلب ذلك مكاشفة بينية في غاية الوضوح والصراحة،

بعيداً عن المجاملة أو التسويغ.

٦- دراسة الاحتياجات الآنيّة التي تتطلبها المرحلة الحالية، (الأهداف

القريبة) .

٧- دراسة التطلعات والطموحات المستقبلية (الأهداف البعيدة) ، من خلال

الإمكانات والقدرات المتاحة، ومن ثم: السعي إلى التوفيق بين الأهداف القريبة

والبعيدة، بحيث يكمل بعضها بعضاً ولا يطغى جانب على جانب آخر.

٨- ترتيب سلم الأولويات العلمية والعملية بمقتضى النصوص الشرعية

ومتطلبات الواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية.

٩- دراسة الظروف المحيطة، والتحديات التي تواجهها الأمّة، والعقبات

المتوقعة من داخل البناء أو خارجه والحذر من داء التبسيط المفرط للمسائل الذي

يؤدي غالباً إلى الغفلة والتهاون وعدم المبالاة، وداء التصعيب المفرط الذي يؤدي

إلى تعقيد المسائل وتضخيمها حتى يصاب المرء بالإحباط واليأس، وهما اللذان

يُعبر عنهما الأستاذ مالك بن نبي بذهان السهولة وذهان الاستحالة..! ! .

ويضمن ذلك نسبياً حساب المواقف قبل وقوعها، ومعرفة البدائل الممكنة،

ممّا يجعل تقدير القرارات أكثر دقة وفاعلية.

وبهذا التكامل والشمول تتحرك الصحوة الإسلامية وفق خطط علمية محكمة

مدروسة، تنتقل فيها الدعوة من مرحلة إلى أخرى، تتفادى أو تستعد من خلالها

للأزمات المفاجئة، وتساهم مساهمة فاعلة في صناعة الأحداث وتوجيهها، ولا تقف

دائماً موقف ردود الأفعال التي تفرض عليها فرضاً..! ! ؛ قال الله (تعالى) :

[وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله ... وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم] [الأنفال: ٦٠] ، وقال (تعالى) : [يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثباتُ أو انفروا جميعاْ] [النساء: ٧١] . ...

وعلى الرغم من إدراك كثير من الإسلاميين لخطورة هذا الأمر وأهميته، إلا

أنّ التفاعل العملي مع هذه الحقيقة يسير بتثاقل وتباطؤ غريب..!

إن كثيراً من الدعاة يُستهلكون في الأمور الوقتية والأعمال اليومية وهي من

الخير إن شاء الله ولكنهم لا يجدون وقتاً لتقويم أعمالهم وتاريخهم، كما لا يجدون

وقتاً لرؤية ودراسة مستقبلهم، وقصارى ما يفعلونه النظر تحت أقدامهم.

وإن مستقبل الأمة له علاقة وطيدة بإعداد الأمة وتربيتها تربية شرعية متكاملة، فإلى متى يستمر مصير الأمة ألعوبة بأيدي الساسة الذين ينظرون إلينا بازدراء

شديد ومهانة، ويمارسون في حقنا مختلف ضروب الاستبداد والتعسف،

ويستخدمون العصا الغليظة التي تُلهب الظهور، بل وتقطع الأعناق..! !

إن عملاً جباراً ضخماً مثل العمل الإسلامي الذي يُراد منه انتشال الأمة،

الأمة كلها، من حمأة الجاهلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. ونحوها لا يقوى عليه

آحاد من علماء الأمة ومفكريها مهما بلغت إمكاناتهم وقدراتهم، كما لا يقوى عليه

فصيل واحد من فصائل العمل الإسلامي مهما بلغ مفكروه وقواعده وجماهيره؛ فهو

يحتاج إلى جهود جبارة تُستنفر لها كل الخبرات والطاقات المتوافرة، أو التي يمكن

توفيرها، وتوجّه بخطط مدروسة وأعمال محكمة؛ قال الله (تعالى) : [أفمن يمشي

مكباً على وجهه أهدى أمَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم] [الملك: ٢٢] .


(١) الإدارة في التراث الإسلامي، محمد البرعي وعدنان عابدين، ص٢٥.
(٢) أخرجه: البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (٦/٦١٩) ، رقم (٣٦١٢) وفي كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- من المشركين بمكة (٧/١٦٤ ١٦٥) رقم (٣٨٥٢) .
(٣) ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (٢/١٢٠) وابن حجر في الإصابة (٢/ ١٩) ، وفي إسناده نظر؛ انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله أحمد (ص٢٨٠) .
(٤) رواه أحمد والنسائي بإسناد حسن كما قال ابن حجر في الفتح (٥/٢٨٠) ، والطبراني في المعجم الكبير (١١/٣٧٦) ؛ انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (ص٤٤٨-٤٤٩) .
(٥) انظر: أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب، محمد محمود الصواف، ص٧.