للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أدب وتاريخ (قصة قصيرة)

قهوة أبي صالح

د. مصطفى السيد

-١-

... لم يكن حبهم " لقهوة أبي صالح " وتعلقهم بها صورة من صور الهيام

بالتاريخ التي ألفها العربي، واعتاد الهجرة إلى أيامه الماضية، لاسيما في هذه

الفترة التي سكنت فيها النفوس بالقحط والإملاق، واستعمرها القلق، بل ربما كان

هناك دافع أعمق من ذلك.

لقد كانت " قهوة أبي صالح " أشبه بالمصحات النفسية التي يشعر المختلف

إليها بجواذب عميقة تشده نحوها، كما يخرج المنقلب عنها بغير قليل من العافية،

وبقطرات من التفاؤل. مشرعة الأبواب كحدود المسلمين في وجه العلوج، تسير

بضع خطوات لتبلغ صحنها، ولكنك تشعر بأنك تعبر بكل خطوة قرنًا من القرون

الخوالي! ! ! وما إن تجد نفسك مستقرًا في وسطها حتى تصافح بصرك جُدُر سود

كأنها قطعة من ليل بهيم تخلف في هذا المكان، وفي صدر المجلس كان - أبو

صالح - كثريًا من الكريستال يغمر المكان نورًا بوجهه الآتي من القرن الحادي

عشر الهجري يقلب بصره في وجوه الحاضرين بابتسامة صادقة يحاول كل من في

المجلس أن يختزنها، وكم يود لو حولت إلى فتات من المسك ليودعها خزائن

الذاكرة، ومخازن الأفئدة. وعلى يساره انتصبت خزانة ذات رفوف - أعتقد أن

القرية كلها خلت من نظير لها، إلا ما استقر في أذهان الشيبان عن أثاث المجالس

القديمة - ثبتت هذه الخزانة في الجدار، مزدانة بدلال القهوة مرصعة بأباريق

الشاي، وفي سفح هذه الخزانة كان أبو صالح يستقر مسندًا ظهره إلى جدار توارى

خلفه مستودع (الحطب) وبحركات لتكرارها باتت كأنها آلية (يشب الضو) وهو في

الشتاء مدفأة للجسوم وفي (القيظ) مدفأة للنفوس. ثم يشرع في تنضيد الفناجين

والكؤوس محدثة نغمة موسيقية تشد الحاضرين إلى المجلس، وتنتزع منهم آخر

اهتماماتهم بما هو خارج المجلس، ولا يقطع الصمت إلا كلام (أبي صالح) مرحبًا

بالحضور، متابعًا الأباريق التي تصطلي حر النار دون أن يغفل عن تعليق ينطق

الصمت، ويسيل بحر الكلام.

-٢-

وينصب الزوار في مجلس أبي صالح، على اختلاف طبقاتهم وتشعب

همومهم الدينية والدنيوية والفكرية. كبار موظفي الدولة، مدرسو الجامعات،

التجار، الفراشون، الكل يخلعون جميع ألقابهم ومكاناتهم الاجتماعية ليستقروا في

هذا المطهر الروحي الذي يشعرون فيه بالتخلص من أدران الترف، ومستلزمات

الحضارة الطارئة.

وفي فترات اللقاء المتواصلة الحوار، والمستمرة النقاش يتوحد الجميع في

المناقشة، وكثيرًا ما يصغي حملة الدكتوراه - باهتمام صادق - إلى ملاحظة لأحد

الفراشين بتمعن وتروٍ. وهكذا ظلت (قهوة أبي صالح) المنزل الوحيد الذي يجسد

الماضي حجرًا وبشرًا وقبل ذلك فكرًا.

-٣-

كان للطعام لذة لا يجدها أحدنا الآن كما كان لكل المتع نكهتها المميزة؛ هل

كان السبب في ذلك قلتها؟ أم لأنها كانت لا تحصل إلا عبر جسر من المتاعب،

فتختلط لذة الطعم بنشوة النصر، على أرض شرسة مسِّيْكَةٍ، يتابع أبو صالح حديثه

قائلاً:

لقد بات الإنسان عبداً للمعارض على اختلاف أنواعها، معارض السيارات

ومعارض الأثاث والأطعمة الدسمة، والثياب المتأنقة، ... الخ، ولكن متابعة

الجديد في هذه الميادين لم تشبع الشهوات التي تستبد بالنفوس. بالله عليكم يا جماعة

الخير - تابع أبو صالح حديثه وهو يجمع بين الحديث ومناولة الضيوف فناجين

القهوة - أليس هذا السعار الدنيوي الاستهلاكي خطر على دنيانا قبل آخرتنا؟ وعلى

رجولتنا قبل قلوبنا؟ إنه تدمير لحصون المناعة في النفوس، وغذاء للاسترخاء

والتراخي، بل إنه عبادة للدنيا [مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ

أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وحَبِطَ

مَا صَنَعُوا فِيهَا وبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]

علت الجالسين سحابة من الصمت ثم الاسترجاع والحوقلة سوى ما كان من

الشيخ (أبي سعد) رجل الأعمال الناجح والرحالة الذي لا يكاد يضع عصا التسيار،

فقد أجاب أبا صالح قائلاً:

هون عليك يا أبا صالح، ففي الحاضر من المشكلات والإشكالات ما يتعدى

البكاء على الأطلال، إن العمل من قبلك على مد الجسور بين الجيلين - الشباب

والشيوخ - يحقق للإسلام مصلحة أكبر من نشوة النصر الآتية من نسف هذه

الجسور. لقد أتى على هذه الصحراء حين من الدهر لم تكن شيئًا مذكورًا، ثم

أخذت الحياة تدب في أنحائها، وأخذت الخضرة - إحدى ألوان الحضارة - تنعش

الصمت الرائن على قلبها، وتبعثر السكونية الجاثمة على صدرها؛ وهكذا امتد بنا

العمر حتى رأينا البحر الأخضر موازيًا للبحر الأحمر.

يا أبا صالح - ولا يهون الجماعة - لقد احتفظت هذه الصحراء بالكنوز التي

استؤمنت عليها، ثم أدت الأمانة؛ وما علينا إلا أن نعرف كيف نؤدي دورنا كما

أدت هذه الأرض دورها. مجلسك هذا في كثير من البلدان صار تابعًا لإحدى دوائر

مصلحة السياحة، لأن الإنسان قد غدا إنسانًا آخر، لم يبق من الماضي فيه شيء،

سوى بقية دمع في موانىء العيون، وعاطفة دينية تنبعث من رقدتها في بعض

المناسبات والمواسم فحسب، انقطعت الصلة بين مؤسسات الماضي والحاضر. هذا

رائي، ولا مانع أن نسمع رأي الأستاذ أمين، فما أدري (إيش) رأي الأستاذ أمين

فما قلت؟

- ما عقب كلامك يا أبا سعد.

- هذا تواضع منك يا أستاذ أمين فجهدك ملموس مع أولادنا، بالمدرسة،

والناس يسمونك قنطرة الجيلين، والجسر الذي يعبر عليه الشيوخ إلى عالم الشباب، ويطل منه الشباب إلى عالم الشيوخ.

- لدي إضافة قصيرة لما قلته يا أبا سعد وهي:

إن التاريخ من خلال (قهوة أبي صالح) وأمثالها لم يدخل المتحف، وهو بحد

ذاته مكسب عظيم، والفضل في ذلك لله ثم لأمثال هذه القهوة، لكنني أخشى أن

تتحول النظرة إلى تاريخنا العظيم إلى أنه مجرد تاريخ ماض لا مجال لاستئنافه،

يوفر التفكه بهذا التاريخ مادة دسمة للزائرين يتحدثون فيها اغتيالاً للأوقات التي

أصبحت عبئاً اكثر منها ثروة.

صاح أبو صالح وقد علت وجهه ابتسامة رقيقة موجهاً حديثه للأستاذ أمين

وأبي سعد:

حدثوا الناس حديثًا تبلغه عقولهم.

أجابه الشيخ سعد:

يا أبا صالح حديثنا لم يتجاوز المدركات، ولم يدخل منطقة الإعجاز، كل

الذي أخشاه أن يصبح حضورنا في هذا العصر مظهريًا محضًا، ففي مجلس يتردد

اسم ابن تيمية ما لا يحصى مرارًا، وتتساقط كالسيل الأتي شهادات الثناء المرسلة

إليه، وتتسابق دعوات الترحم عليه، ولكن للأسف لم يتمكن ابن تيمية - عمليًا -

حتى الآن من تجاوز قهوتك إلا في حالات نادرة..

إنني أخشى أن يقتصر دورنا وينحصر في (حراسة) ابن تيمية، مجرد تصور

هذا الدور كارثة حقاً.

ابن تيمية مازال حيًا بالرغم من كل العواصف التي اجتهدت في نسخ اسمه

وطمس فكره من مدرسة المفكرين الكبار والمصلحين الأتقياء.

ولكن يا أبا صالح أخشى أن تسكرنا هذه الفكرة وتلقي في روعنا أن الإشارة

والمدح لهذا المفكر وذلك الفكر هما دورنا نحوه.

ثم التفت أبو سعد إلى الأستاذ أمين قائلاً:

أقرأ في وجهك كلامًا، تفضل يا أستاذ أمين.

إن كلامك يا شيخ يذكرني بما كنت أراه صغيرًا في قريتي، فقد كنت أرى

المصحف معلقًا في الجدار، وقد أودع ثوبًا قشيبًا مطرزًا بقصب، وربما ظل على

تلك الحال أيامًا وشهورًا طوالاً.

موقفنا من ابن تيمية - والحال هذه - يلتقي في النهاية مع موقف أعدائه منه،

وهو أن تظل أفكاره تتنقل بين الأفواه والأسماع، ومن رسالة ماجستير إلى رسالة

دكتوراه، دون أن تتاح لها فرصة العمل، وهنا يحضرني قول أحد شعراء الحداثة

المعاصرين، في وصف مثل هذه الحالة:

الحياة تجف في عينيه، إنسان يموت

والكتب والأفكار مازالت تسد جبالها وجه الطريق

لم يكن (محمد الباحث) معنياً بشيء من النقاش الدائر في (قهوة أبي صالح) إلا

من ناحية واحدة، وربما ضاق ذرعًا به، ولذلك ما أن أتم الأستاذ أمين حديثه حتى

قال بتغيظ لم يقو على إخفائه.

لا أدري هل أبقت تطورات الحياة مكانًا أو دورًا لابن تيمية وأمثاله؟ ثم لماذا

ابن تيمية بالذات؟ فأنا لا أسمع في هذا المجلس إلا اسمه؛ ألا يوجد من مفكري

الإسلام ممن جاءوا بعده من يسد مسده؟

- والله ما مثل ابن تيمية مع غيره من العلماء إلا كما قال أبو نواس:

متى تحطِّى إليه الرَّحل سالمة ... تستجمعي الخَلْق في تمثال إنسان

- إنها مبالغة يا أستاذ أمين.

- لا والله يا أبا سعد لقد شغل ابن تيمية عصره، وكان حضوره لافتًا، لأنه

لم يكن تكرارًا لغيره، ولا مفكر أوراق (الكربون) الذي يواجه مشاكل عصره بعقول

غيره، أو بأفكار (مبسترة) مسبقة الإعداد، لقد كان غواصًا يعود باللآلئ بحاثة لا

يرتضي الحلول الملفقة، وعلى المستوى الاجتماعي استأنف التواصل مع العامة -

بعد أن غاب ذلك التواصل أو كاد - إبان عصره، حتى كانت العامة تعتقد أنه

إمامها وشيخها وأن همومها تقلقه وتشغله، ودعاة الضلال أزعجهم ذلك لأنه اختطف

منهم السيطرة على مواقعهم التقليدية، أما علماء عصره البارزون فلم ير المطالع

لسيرة حياته إلا تلك السيرة الطيبة التي كان يسيرها معهم، وأخيرًا لا آخراً فبلاط

الحكم في دمشق والقاهرة لم يفتقده، مكبلاً بالأصفاد تارة، منذرًا ومحذرًا من أخطار

التتار والطابور الخامس تارة أخرى. إنه الحضور المتفاوت المكان المتكامل الدور..

- جزاك الله خيرا يا أستاذ أمين. إن حضور ابن تيمية هو الذي ذكرت،

وحضورنا الآن حضور باهت ليس له قيمة، لقد بات ابن تيمية ضميرنا الإسلامي،

مبعث راحتنا ومصدر ألمنا في آن معًا.

-كيف ذلك يا أبا سعد؟

نرتحل إلى فكره فنجد للحياة لذة غير التي اعتدناها في عالم الناس، ونحاول

أن نبحر في سفائنه فتنتصب الأمواج عالية حتى تكاد تفقد الربابنة الرؤية، وتنتزع

من الركاب الطمأنينة وذلك مصدر ألمنا.

أردنا أن نطلق ابن تيمية من سجن القلعة، فدخلنا به سجن الغربة.

(طوبى للغرباء) أنهى أبو صالح الحديث بهذه الكلمة، ثم قام الجميع لأداء

صلاة المغرب.