للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات شرعية

مفاهيم ودروس من صلح الحديبية

(الحلقة الثانية)

د.محمد بن عبد الله الشباني

تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى أحوال ما قبل صلح الحديبية، وبيّن كيف

استفاد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- من هذه الأحوال موضحاً الأسس والمبادئ

التي ركز عليها، وخطواته التي اتبعها، وأسلوب مفاوضاته، ومحاولات قريش

المضادة، وذكر الكاتب أن قريشاً رضيت من الصلح بهيبة زائفة ومكاسب شكلية،

وهذا ما يلاحظه المتابع للمعاهدات المعاصرة مع اليهود، ويواصل الأخ الكاتب

عرض مزيد من المفاهيم والدروس حول الموضوع.

- البيان -

دروس من شروط صلح الحديبية:

الدراسة المتأنية في شروط الصلح الذي تم بين رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- وقريش ترشد إلى أمور ينبغي الأخذ بها عندما يواجه المسلمون حالات من

عقد صلح أو معاهدات مع أعداء الأمة، وتتمثل هذه الأمور فيما يلي:

أولاً: التركيز على الغاية والهدف القريب والبعيد من الهدنة، وعدم إعطاء

أهمية قصوى للأمور الشكلية على حساب المصلحة الجوهرية للطرف المسلم، ومن

أمثلة ذلك: إصرار قريش على عدم البدء في الكتابة بذكر صيغة البسملة

والاستعاضة عنها بلفظ ذي دلالة للمعنى نفسه وهو باسمك اللهم، وكذلك عدم ذكر

صفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقرونة باسمه، إن هذه الأمور الشكلية يمكن

المماحكة فيها لإبعاد الخصم عن جوهر هدف الصلح، ومن ثم: استنزاف قواه

ومهاراته التفاوضية في معالجة هذه الأمور الشكلية، وكان واضحاً أن الرسول -

صلى الله عليه وسلم- فوّت عليهم هذه الغاية بالرغم من عدم انتباه بعض الصحابة

لذلك.

ثانياً: أن الصلح لم يكن مانعاً أو عائقاً لحركة الرسول -صلى الله عليه

وسلم-، فلم يرد في الصلح الحد من حرية حركة الرسول، بل إن أهم نقطة في

هذا الصلح هو توفير المجال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحركة في

الجزيرة العربية، وتحييد العدو الرئيس وهو قريش، ولهذا: فقد ذُكر أن عقد

الاتفاقية هو هدنة ومهادنة يُقصد منه وقف الحرب عشر سنين، يأمن فيه الناس

ويكف بعضهم عن بعض، وعدم إظهار العداء أو ما يعرف في الوقت الحاضر

وقف الحملات الإعلامية؛ وهذا الشرط هو محور وغاية الصلح؛ فإن منع إظهار

العداء يسمح للمسلمين بالحركة والدعوة للأفكار التي يحاربون من أجلها، كما أن

إيقاف الحرب بين قريش وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- سوف يهيئ

الظروف للمسلمين للانتشار مع تحييد قوة قريش ونفوذها المعنوي من التأثير في

بقية العرب.

إن من المفارقات التاريخية العجيبة في هذا العصر أن يتبع اليهود المقاصد

نفسها التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع قريش، وذلك حينما

استطاعوا عند توقيع معاهدة كامب ديفيد إخراج مصر (القوة العربية الكبيرة) من

الصراع واستخدامها أداة لتفتيت القوة العربية والإسلامية، ثم استخدامها أداة لتنفيذ

وتحقيق المصالح اليهودية، وذلك باستغلال هذه المعاهدة لإلغاء أو تخفيف الحصار

السياسي والاقتصادي والإعلامي مع بقية العالم، وقد تمكنوا من الحصول على

الاعتراف من قِبَل كثير من الدول وتنمية علاقاتهم الاقتصادية معها بسبب تلك

المعاهدة، بل لقد حققت معاهدة كامب ديفيد غايتها باعتراف الزعامة الفلسطينية

بشرعية دولة اليهود، ثم سقطت آخر أوراق التوت عندما وقّعت منظمة التحرير

الفلسطينية قبولها بما عرف بالحكم الذاتي الجزئي! لغزة وأريحا.

وقد كان من النتائج المباشرة لصلح الحديبية أن تفرغ رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- لحلفاء قريش في غزوة الخندق (اليهود) ، فبعد عودة الرسول من

الحديبية بشهر أو أقل استنفر من شهد الحديبية، ومنع من لم يشهدها من الغزو معه، فالله الذي يعلم خفايا النفوس منح أولئك الذين اختاروا الآخرة على الدنيا حسن

ثواب الدنيا والآخرة، وفي هذا عبرة أن من يتجرد في عطائه لله قد يعطيه الله ما

يشتهي في دنياه قبل آخرته بجانب ما يدخره له في آخرته.

ثالثاً: أشارت وثيقة الصلح إلى أمر يثير التساؤل ويهز النفوس، لقد حدث

ذلك للمسلمين المصاحبين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث أشارت وثيقة

الصلح إلى أن مَن أتاه من قريش ممن هو على دينه بغير إذن وليه رده محمد -

صلى الله عليه وسلم- إليه، ومن أتى قريشاً ممن كان مع محمد لم يردوه إليه، إن

ظاهر هذا الشرط غبن على المسلمين، فكيف يتخلى المجتمع المسلم عن أفراده

المستضعفين فيردهم إلى أعدائهم، وفي الوقت نفسه لا يرد من نكص على عقبيه

وهرب مرتداً من المجتمع المسلم؟ ، ولكن المتأمل لهذا الشرط يجد أن قبوله في

غاية الحكمة؛ فلا شك أن المجتمع المسلم لا يرغب في ضم الأفراد ضعيفي العقيدة

أو المهزومين، فمن يرتد ويهرب من المجتمع المسلم فهو شر تخلص منه المجتمع، فوجوده يشكل الطابور الخامس، ولهذا: فإن الحرص على ضم أولئك الذين في

قلوبهم مرض حيث فضلوا النكوص لا فائدة منه، أما أولئك المؤمنون بالعقيدة من

المعسكر الآخر الذين اشترطت المعاهدة إعادة من يهرب منهم إلى المجتمع المسلم

فقد كان في بقائهم مصلحة ظاهرة، إذ إن قبول مثل هذا الشرط سوف يفتح

للمسلمين مصالح كثيرة، مثل أن يجعل هذا المعسكر على الحياد والتفرغ

لمعسكرات أخرى، بحيث يمكن أن يتم القضاء على تلك المعسكرات بإضعاف

التحالف بينها، فقبول ذلك الشرط ممكن من قِبَل الدولة المسلمة تشجيعاً لتلك الفئات

على القيام بالمقاومة؛ أي: بوجود تشكيلات عسكرية حرة الحركة تقلق العدو

وتجعل هذا الشرط عبئاً عليه بدلاً من أن يكون معيناً له، وهذا ما حدث بعد

ذلك [١] ، فقد تكونت خلية تعلن الحرب ضد قريش عندما قاد أبو بصير المسلمين المستضعفين الهاربين من مكة للتصدي لرحلات قريش الاقتصادية على طريق الشام الحيوي، مما دفع قريشاً للكتابة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلبون إليه إلغاء هذا الشرط.

رابعاً: أعطت وثيقة الصلح الحق لأي قبيلة من قبائل العرب أن تتحالف مع

أي طرف من أطراف الصلح؛ فدخلت (خزاعة) في عهد الرسول وعقده، ودخلت

(بنو بكر) في عهد قريش وعقدهم، وقد كان لهذا التحالف دوره في نقض العهد

وفتح مكة فيما بعد.

ومن هذه الجزئية في شروط عقد الصلح يمكن إدراك أهمية وضرورة أن لا

يَحُدّ الصلح مع العدو من إمكانية تكوين الأحلاف؛ لأن ذلك من أساسيات الاستقلال

السياسي، فإن أي صلح ينقص من هذا الحق أو يمنعه أي: يمنع حرية التصرف

من عقد المعاهدات مع الآخرين أو تحديد إطار من التعامل يحدده العدو إنما هو

انتقاص لحرية وكرامة الأمة، ويعتبر استسلاماً وتسليماً للعدو، فهذا صلح لا يجوز

في عرف وقواعد الإسلام؛ فعندما تحتوي بنود المعاهدات على فقرات تمس حرية

الحركة والتصرف، أو الحد من السيادة، كما حدث في اتفاقيات المصالحة في

(كامب ديفيد) و (غزة وأريحا) والصلح مع الأردن التي سعت إلى تقليص وإضعاف

سيادة الدول والجماعات التي وقع اليهود معها الصلح.

ولقد بليت الأمة في هذا الزمن برجال مهمتهم قلب الحقائق وتفسير التاريخ

وأحداثه ليواكب الرغبات والأهواء، فبرز رجال يَدّعون العلم والمعرفة أخذوا

يفسرون أحداث السيرة النبوية لتتناسب ورغبات القادة الذين أسلموا أمورهم إلى

أعدائهم، وتولوا تطبيع الأمة وفق ما يشتهي أعداؤها.

لقد استدل بعض الناس على مشروعية الصلح مع اليهود المغتصبين لأرض

فلسطين، بأن هذا الصلح مع اليهود سوف يقلل ويخفف من الأذى الذي يقع من

أعدائهم اليهود والنصارى بحقن دماء المسلمين في فلسطين، وحفظاً لدماء المسلمين

في بقية الدول العربية، لأن واقع الأمة لا يسمح لها بالمقاومة واستعادة حقوقها! !، وأن إدراك بعض الشيء أفضل من فقدان الكل، وتجربة العرب في عدم الصلح

مع العدو منذ قيام دولة اليهود في فلسطين لم تسفر إلا عن مزيد من الهزائم وفقدان

السيادة على كل فلسطين، وأن المقاومة لم تجد، بل أدت إلى قتل وتشريد مئات

الآلاف من العرب المسلمين، وأن الصلح مع اليهود سوف يوقف هذا الضرر، وأن

صلح الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع مشركي مكة يقدم السند الشرعي! ! الذي

يجيز التصالح مع العدو ...

وتنبع هذا المقولة من الهزيمة النفسية التي أصيبت بها الأمة والتشرذم الذي

قسّم بلاد العرب والمسلمين إلى دويلات تبنت أفكاراً ومنهاج وسياسات ومبادئ

عقائدية تصادم الأصول الإسلامية، بل وتحاربها، وما تلى ذلك من إعلام رسّخ في

عقل الأمة الخوف وحب الحياة مع قلب الحقائق والعمل على مسخ الفكر وغرس

الاستكانة والرعب في القلوب بدلاً من غرس حب الشهادة والاستشهاد وتحمل

الشدائد والتضحية والفداء في سبيل نصرة الإسلام بدعوة الناس إليه والعمل على

تطبيقه في واقع الناس.

صلح الحديبية بين الاستدلال والانتحال:

إن الاستدلال بـ (صلح الحديبية) على جواز الصلح مع اليهود والتسليم

بشرعية وجود دولتهم على أرض المسلمين والتمكين لهم بالغزو الثقافي والاقتصادي: أمر لا يتفق مع حقيقة صلح الحديبية، ولا الغايات التي هدف إليها كما أثبت ذلك

التاريخ، بجانب أن الواقع العسكري والتفاوضي يغاير جميع المقاييس للواقع

المعاصر الذي يستدل بصلح الحديبية بوصفه دليلاً شرعياً لإجازة الصلح مع أعداء

الله اليهود، وذلك للأمور التالية:

أولاً: أن واقع الصلح مع مشركي قريش يختلف عن واقع الصلح مع اليهود،

فالنبي قد خرج من مكة إلى المدينة من أجل إيجاد الكينونة للمجتمع المسلم، لينطلق

منها إلى بقية جزيرة العرب، وذلك من أجل العمل على إعادة العرب إلى دين

إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكان -

صلى الله عليه وسلم- بعد فترة قصيرة من استقراره في المدينة استطاع أن يفرض

وجود المجتمع المسلم، فقد مكّن الله له في جزيرة العرب، وألحق بقريش هزائم

متعددة، وانتصر على التحالف بين مشركي قريش والعرب واليهود الذين أوقدوا

حرب الأحزاب، التي انتهت بهزيمة قريش وبقية القبائل العربية المتحالفة معها من

جهة، والقضاء على يهود المدينة قضاءً مبرماً من جهة أخرى، فالصلح تم بعد

انتصار المسلمين والاعتراف بهم باعتبارهم قوة كبرى في الجزيرة العربية.

ثانياً: لقد أوضح الرسول -صلى الله عليه وسلم- النتائج العملية للصلح مع

مشركي قريش، وأن هذا الصلح كان فتحاً للمسلمين بعد أن توهم بعض المسلمين

أن صلح الحديبية لم يكن فتحاً لعدم تحقق الغاية المعلنة وهي الطواف بالكعبة وذبح

الهدي في مكة، ثم نزلت سورة الفتح وهم في طريق العودة [إنا فتحنا لك فتحا

مبينا] [الفتح: ١] وقال عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: لقد أنزلت عليّ

الليلة سورة لهيَ أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، وقال رجل: يا رسول الله،

أفتح هو؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح [٢] ، فانقلبت كآبة المسلمين

وحزنهم إلى فرح ورضا، وطابت نفوسهم بذلك.

إن مما يحز في النفس أن واقع ما أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-

من الفتح للمسلمين هو ما حصل لليهود في هذا العصر، فالعرب المسلمون هم الذين

يسعون إلى الصلح خوفاً من الحرب، ويعلنون في وسائل إعلامهم تلك الخدعة

الكبرى دعوى الأرض مقابل السلام! ! هذه الكلمة التي تحمل معاني كثيرة، ومن

تلك المعاني: إعطاء الأرض مقابل الأمان، أي: التسليم لليهود بفلسطين أو بجزء

منها مقابل أن يترك اليهود العرب في أمان! ؛ يأكلون كما تأكل الأنعام بعد أن

هزموا في جميع معاركهم التي أشعلت مع اليهود مباشرة أو غير مباشرة بقيادة

رجال يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة.

ثالثاً: من عجيب الأمر أن يتم الاستدلال بصلح كان غايته التمكين للمسلمين

بصورة أو بأخرى من دخول دار المشركين (مكة حينئذ) ، على شرعية معاهدات

غايتها التمكين لليهود بكل الصور في ديار المسلمين.

إن صلح الحديبية تم بدون تفريط في الأرض المسلمة وبدون إعطاء حق

للمشركين في أرض المسلمين، وإنما هو توقيف للحرب فترة معينة، أما الصلح

الذي تم مع اليهود فهو صلح أعطى لليهود الشرعية باغتصاب أرض المسلمين

والسماح ليهود العالم بالتجمع فيها، فهو صلح يبيع المقدسات والأرض مقابل وقف

الحرب؛ لينعم أولئك الذين يرغبون في الحياة الدنيا وزينتها في ظل السيطرة

اليهودية النصرانية، بل إن هذا الصلح فرض على العرب المسلمين المساهمة في

تنمية القدرة الاقتصادية اليهودية والتمكين لدولة اليهود بتوسيع رقعتها الاقتصادية:

من خلال فرض الإتاوة اليهودية بالمساهمة فيما يعرف بتنمية الأراضي المحتلة من

خلال ميزانية الدولة اليهودية، والمساهمة في إنشاء بنك للتنمية للشرق الأوسط

تحت زعامة وقيادة اليهود على أن يشارك في أمواله العرب أغنياؤهم وفقراؤهم.

رابعاً: أن صلح الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يمنع المسلمين من

التحرك العسكري وبسط النفوذ، بل إن الصلح كان وسيلة للقضاء على التحالفات

السابقة مع قريش حتى يمكن إضعاف قدرة قريش على المقاومة، ولهذا: فإنه في

أقل من شهر من عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة شن حربه على

اليهود في خيبر (حلفاء قريش في معركة الخندق الأحزاب) ، وقد كانت نتيجة

معركته مع اليهود أن حقق الرسول -صلى الله عليه وسلم- السيطرة الكاملة على

المناطق الشمالية للمدينة، وبالتالي: حقق الأمان للمدينة.

أما الصلح مع اليهود: فقد قيد العرب من العمل على تحقيق القوة العسكرية

بمنع التطوير العسكري؛ وذلك بالعمل على حظر بيع الأسلحة للدول الإسلامية،

وإذا تم بيع معدات حربية فهي ضمن حدود السيطرة النصرانية، ومن ثم: فإن

الأجنبي هو المتحكم في تشغيلها وصيانتها وتأمين قطع الغيار لها، ولا يسمح بوجود

صناعات محلية تؤمن حتى الذخائر وقطع الغيار لهذه الأسلحة، وبالتالي: فإن بيع

الأسلحة للدول العربية والإسلامية ينحصر في نوع الأسلحة الدفاعية المتخلفة بدون

تحقيق تقدم صناعي حربي لهذه الدول، بل إن اقتناءها يُحَمّل الاقتصاد الإسلامي

والعربي أعباءً كبيرة وإهداراً للقدرات المالية المسلمة، بدلاً من أن يكون تنمية

للقدرات الدفاعية المسلمة مرتبطاً بالتنمية الصناعية وبالاستغناء عن الدول

النصرانية، وفي الجهة المقابلة: فإن اليهود يحصلون على جميع أسلحة الدمار

الشامل ووسائل التقدم التقني؛ فعقود التطوير للأسلحة بمختلف أنواعها قائمة، بل

إن دولة العدو اليهودي أصبحت من الدول المصدرة للتقنية العسكرية المتقدمة،

بجانب ذلك: فإن الصلح أعطى لليهود حرية جلب اليهود من مختلف أنحاء العالم

وتقوية الروابط السياسية والاقتصادية مع مختلف الدول، مما سوف يوسع قاعدة

نفوذ العدو اليهودي، ويقلل من قدرة العرب والمسلمين على اختراق النفوذ اليهودي.

خامساً: أن صلح الحديبية لم يقيد الأمة بشن الحرب على قريش من أولئك

المستضعفين الذين كانت قريش تحول دون إظهارهم للإسلام؛ فقد كان من شروط

الصلح أن المسلمين يردون من قدم عليهم مسلماً ولا ترد قريش من جاءها مرتداً،

وقد كان تعليل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبول هذا الشرط: أن من ذهب

منا إليهم: فأبعده الله، وليس منا بل هو أولى بهم، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم:

فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً، فلم يكن هذا الشرط مانعاً للمسلمين من البحث عن

مخرج، وبالتالي: منع القوى المعارضة لهذا الشرط من نقضه، فقد بدأت المقاومة

لهذا الشرط حينما قدم أبو بصير إلى المدينة هارباً من قريش، ووفق شروط الصلح

رده الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش، لكنه استخلص نفسه منهم بقتل

أحد الحارسين له خلال أخذهم له إلى مكة، وكوّن مجموعة أخذت تقطع طرق عير

قريش، بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما استخلص أبو بصير نفسه

منهم وخرج من المدينة بموجب توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال تلك

العبارة المشجعة: ويل أمه! مسعر حرب لو كان له أحد [٣] وهي كناية عن قوة

هذا الرجل وإشعار للمسلمين بضرورة مساعدته واللحاق به، مما اضطر قريشاً إلى

الطلب من الرسول إلغاء هذا الشرط.

أما الصلح الحالي؛ فإن من أهم شروطه: العمل على تأمين وتحقيق الأمان

لليهود ومحاربة كل من يسعى إلى حرب اليهود، وبالأخص من يسعى إلى إعلان

الجهاد ومحاربة اليهود على أساس عقدي.


(١) انظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص٤٩١، ٤٩٦، والسيرة النبوية الصحيحة ج٢ ص٤٥١، ٤٥٢.
(٢) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود مع معالم السنن ج٣، ص١٧٤، والإمام أحمد: ٣/٤٢٠، وعند مسلم أن الرجل الذي سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ؛ مسلم ح/١٧٨٥، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية.
(٣) البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح/٢٧٣١، ٢٧٣٢ وانظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص٤٩١، ٤٩٦، والسيرة النبوية الصحيحة ج٢، ص٤٥١، ٤٥٢.