للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية قرآنية

صور من لبس الحق بالباطل

(٣)

عبد العزيز بن ناصر الجليل

مدخل:

بعد بيان معنى اللبس والتلبيس وأنه إلباس الهوى والشهوة لبوساً شرعياً

بتحريف الأدلة أو كتا، ثم بيان الأسباب التي تؤدي إلى لبس الحق بالباطل والمؤدية

بدورها إلى الضلال والإضلال، نذكر هنا بعضاً من صور اللبس والتضليل، وذلك

لنحذر من الوقوع فيها بأنفسنا، ونحذر إخواننا المسلمين من الوقوع فيها والانخداع

بها، ولم أراع في ترتيبها الأهمية، لكن حسب ما عنّ في الخاطر، أسأله (سبحانه)

التوفيق والسداد في القول والعمل، ومن هذه الصور ما يلي:

١- الاحتجاج على شرعية الأنظمة المبدلة لشرع الله والمستحلة لما حرم الله بآثار عن السلف (رضي الله عنهم) أنه: كفر دون كفر:

وهذا، والله تحريف للأدلة عن مواضعها، وإنزال الحكم في غير محله، وافتراء وتجن على سلفنا الصالح وخير القرون في هذه الأمة، فما كانوا عن عصرنا يتحدثون ولا أنظمته المبدلة لشرع الله يقصدون، فالله المستعان، ومن أحسن ما رأيت من الردود على هذا التلبيس ما كتبه الشيخ أحمد شاكر (رحمه الله) ، ومما قاله: وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب به المضللون في عصرنا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين، يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الوضعية التي ضربت على بلاد المسلمين [١] .

فاللهم إنا نبرأ من هذا اللبس ونبرئ صحابة رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- والتابعين لهم بإحسان من هذا التلبيس وهذه المغالطات، وإنه لا أحد ينزل

قول ابن عباس (رضي الله عنه) أو غيره من السلف على المبدلين لشرع الله في

زماننا هذا إلا رجل سيطر عليه الجهل بالواقع فلا يعلم ما يدور من حوله، أو رجل

منافق ملبس يعلم واقعه وعدم مشابهته للواقع الذي كان يتحدث عنه ابن عباس

(رضي الله عنه) ، ولكنه يغالط ويخلط الحق بالباطل اتباعاً للهوى وطمعاً في دنيا

يصيبها؛ فإنه لم يحدث قط في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة

يتحاكم إليها الناس.

٢- الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، والرضى بالذل والمهانة:

وهذه الصورة من صور اللبس والمغالطة ليس القصد من إيرادها هنا الرد على المحتجين بالقدر على ضلالهم ومعاصيهم، وإنما المقصود التنبيه على أن من يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه إنما هو مغالط وملبس ومدلس، وموضوع الرد على المحتجين بالقدر موجود في مظانّه من كتب العقيدة الصحيحة لدى سلفنا (أهل السنة والجماعة) ، مثل: العقيدة الواسطية، ومعارج القبول، والعقيدة الطحاوية.. إلخ، والمراد هنا: كشف اللبس الحاصل بين الحق والباطل في هذه المسألة، حيث إن المحتج بالقدر على فعل المعاصي والإصرار عليها قد وقع في لبس عظيم، ويعلم هو بنفسه أن احتجاجه ليس في محله، وإنما أورده لتبرير شهوته وضعفه بدليل أنه في أمور الدنيا وكسبها لا نجده يقعد محتجاً بالقدر، وأن الله (سبحانه) كتب عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج، بل إنا نجده يسعى ويفعل الأسباب الممكنة لدفع كل ذلك، فلماذا لا يوجد هذا الدفع أيضاً في أمور الدين وأمور الآخرة فيسعى للآخرة سعيها، ويأخذ بأسباب الهداية وأسباب النجاة من النار، وهي ميسرة لمن أرادها؟ ! ، لماذا هو جبري في أمور الدين والآخرة، وقدري في أمور الدنيا؟ .

وقريب من الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي والرضى بالواقع أولئك

الذين يتجرؤون على فعل المعاصي اعتماداً على رحمة الله (سبحانه) ، نعم إن الله

غفور رحيم، ولكن ليس مقتضى هذه الرحمة أن يتجرأ هذا الملبس على المعصية،

وإنما المقصود منها: فتح باب التوبة والرحمة لمن وقع فيها وانتهى وندم، فيقال له: لا تيأس؛ فإن الله غفور رحيم.

٣- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله

خوف الابتلاء وتعريض النفس للفتن:

هناك من يترك الأمر والنهي عجزاً وكسلاً وجبناً وبخلاً، لكن لا يريد أن يعترف بهذه الصفات الذميمة، فبدلاً من الاعتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية، منها: الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد، معتمداً على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والضوابط الشرعية في ذلك، فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على النفس وعلى الناس في أن النكول عن الأمر والنهي قد تم من منطلق شرعي وضوابط شرعية، والأمر في حقيقته ليس كذلك، وإنما هو الخوف والجبن وإيثار السلامة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله (عز وجل) ؛ يقول الإمام ابن تيمية (رحمه الله) : ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة: صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال [تعالى] عن المنافقين: [ومنهم من يقول: ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا] [التوبة: ٤٩] [٢] . ...

فلا يصح لقائل أن يقول أنه يجب الابتعاد في الدعوة إلى الله (سبحانه) عن

كل ما من شأنه أن يجر على الداعية الأذى والمحن! ، إن صاحب هذا القول قد

نسي أو تناسى سنة الله (عز وجل) في الصراع بين الحق والباطل، وسنته

(سبحانه) في الابتلاء والتمحيص؛ قال (تعالى) : [ومن الناس من يقول آمنا بالله

فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله، ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا

كنا معكم، أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين* وليعلمن الله الذين آمنوا

وليعلمن المنافقين] [العنكبوت: ١٠، ١١] .

نعم إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم، بدليل عدم

الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ولو كان قليلاً، وإنما مادام الأمن

والسلامة والراحة فهو نشيط ومتحرك، فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء

والتمحيص آثر السلامة والراحة، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد.

ولا يعني ما سبق من الكلام أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء، كلا،

فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلاء، كما لا يفهم منه أيضاً الدعوة إلى

التهور والطيش معاذ الله، فلابد من وجود المنطلقات الشرعية في كل التصرفات،

لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله (سبحانه) في ابتلاء المؤمنين، وأن نوطن

أنفسنا على هذه الأمور، لأنه لابد منها لكل من ادعى الإيمان وتصدّر للدعوة

والجهاد، ولابد منها ليتميز الخبيث من الطيب، ولابد منها لتمحيص القلوب

والصفوف، ولو قلبنا تاريخ الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وتاريخ الدعاة

والمصلحين لرأينا ذلك المعلَم ظاهراً وقاسماً مشتركاً عندهم جميعاً.

وقريب من هؤلاء أولئك الذين يبررون كسلهم وحبهم للراحة وضعف همتهم

بالتواضع البارد والزهد في المسؤولية، لأنه يعرف أن الدعوة إلى الله (سبحانه) لا

يعرف صاحبها الراحة، وتحتاج إلى همة عالية، لكنه عوضاً من أن يعترف

بضعفه هذا، فإنه يغالط نفسه وغيره، ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا الضعف على

الخوف من المسؤولية واحتقار النفس، وأن هناك من هو أولى وأتقى وأفضل..

إلخ.

٤- المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة

والتسامح ومصلحة الأمة:

إن الخلط بين المداراة والمداهنة، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح، كل ذلك ينتج عنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة.

وإيضاحاً لهذا الأمر: أنقل كلاماً لأهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة

والمداهنة ومسألة الولاء والتسامح.

قال البخاري (رحمه الله) في باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم، وعن عائشة (رضي الله عنها) أنه

استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة

أو بئس أخو العشيرة فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلت ثم

ألنت له في القول، فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله مَن تَركه أو

ودعه الناس اتقاء فحشه [٣] .

ويعلق ابن حجر (رحمه الله) على حديث عائشة بقوله: قال ابن بطال:

المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ

في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة

فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من

الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة

الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق

بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا

يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك [٤] .

ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة، وأنهما ضدان لا يجتمعان،

إذ إن المداراة صفة مدح وهي لأهل الإيمان، بينما المداهنة صفة ذم وهي لأهل

النفاق، فهل بقي بعد هذا البيان مجال للالتباس في هذا الأمر؟ ! .

ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق وأهل المعاصي من

المسلمين فحسب، وإنما الأخطر من ذلك هو: مداهنة الكفار بمشاربهم المختلفة

تحت غطاء المداراة ومصلحة الأمة، حتى اهتز جانب الولاء والبراء الذي هو

الركن الركين في عقيدة التوحيد وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله يضعف، بل اهتز

عند بعضهم، والسبب في ذلك: الجهل بحقيقة المداراة والمداهنة، أو المغالطة

فيهما عن علم وهوى.

٥- الانفتاح على الدنيا والركون إليها، بحجة التعفف عن الناس وإنفاق المال في وجوه الخير:

وفي هذه الصورة مدخل خفي للشيطان يتسرب منه إلى نفس الإنسان، يبلغ اللبس في هذا الأمر من الخفاء بحيث لا يفطن له إلا المجاهد لنفسه، المفتش لقلبه، الحذر الخائف من الدنيا وغرورها، ومكمن اللبس هنا في أن التعفف عن الناس أمر مطلوب، ويحث عليه الشرع في أكثرمن آية وحديث، وكذلك الإنفاق في سبيل الله وبذل المال في أوجه البر المختلفة، كل هذا حق لا ريب فيه، لكن الشيطان لا يألو جهداً في إغواء بني آدم وجرهم إلى حزبه خطوة خطوة، ولهذا: فهو يبدأ مع الإنسان ليجره إلى الدنيا وغرورها من باب التعفف عن الناس، ومساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف.. إلخ، ثم بعد ذلك، وبعد إشغاله بالمال وطرق جمعه ومشاكله وشبهاته نبحث عن صاحبنا الذي كنا نراه في لقاءات الخير والدعوة إلى الله (سبحانه) فلا نراه إلا قليلاً، وهكذا، حتى ينفتح على الدنيا، ويركن إليها، ويضع له الشيطان في كل وادٍ من أوديتها شغلاً وهماً يتشعب فيهما الفكر، ويتشتت فيهما الذهن ويتحول المال المكتسب إلى استثمارات جديدة وتوسع في المباحات وإسراف في المآكل والمراكب والمساكن، وقد كان الهدف في البداية هو التعفف والإسهام في وجوه الخير والبر، والغريب في الأمر أن هذا المغالط عندما يذكّر بالآيات التي تحذّر من الدنيا، وسرعة زوالها، وخطر الركون إليها، فإنه بدلاً من أن يشعر بالخطر ويسعى لتدارك الأمر؛ فإنا نجده يصر على المغالطة واللبس، ويقول: إن التعفف عن الناس مطلوب، ولابد للداعية أن يكون له مصدر يستغني به عن الناس وينفع به دعوته، ويساهم في الخير، وهو يعلم أن ليس هذا قصده، وإنما أراد تغطية حبه للدنيا والركون إليها بهذا الغطاء الشرعي الذي لم يراع الضوابط الشرعية فيه.

وقد يقول قائل: إذن، ما العمل في مثل هذه الحالة وبخاصة لمن أراد صادقاً

أن يتعفف عن الناس وأن ينفع دعوته بالمال؟

والجواب لا أملكه، لأنها معادلة صعبة يختلف حلها من شخص لآخر، ويكفي

في حلها أن يعلم الله (سبحانه) من أنفسنا أننا نريد التعفف والبذل بصدق في سبيل

الله (سبحانه) ، فعندئذ يحمينا برحمته من الدنيا وزخرفها، ويخرجها من قلوبنا لتبقى

في أيدينا، وكل إنسان على نفسه بصيرة.

٦- الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع:

إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد، وصدق الله العظيم: [ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاْ عظيماً] [النساء: ٢٧] . ...

ومن رحمة الله (عز وجل) أنه لم يكل مصالح العباد إلى أهواء البشر

وشهواتهم، بل وضع (سبحانه) شريعة كاملة مبرأة من الجهل والهوى، ومبرأة من

النقص والقصور، لأن مصدرها منه (سبحانه) الذي له الأسماء الحسنى والصفات

العلا، ولو أن تقرير مصالح العباد كان في أيدي البشر لحصل من ذلك شر وفساد

كبير، وذلك لما عليه البشر من الجهل والنقص والهوى والشهوة، وهذا مشاهد في

الواقع؛ فالمجتمعات التي لا يحكمها شرع الله (سبحانه) وتحكمها أنظمة البشر

وقوانينهم نرى فيها من الفساد والشرور والظلم والاستعباد والضنك والضيق ما تعج

منه الأرض والسماوات، وتبرأ منه الوحوش في البريات، وصدق الله العظيم:

[ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، بل أتيناهم بذكرهم

فهم عن ذكرهم معرضون] [المؤمنون: ٧١]

إن الذين يتشدقون بالتيسير ويغالطون به بغير علم ولا هدى من الله (سبحانه) ، لو كان الأمر بأهوائهم لعطلوا كثيراً من أحكام الشريعة التي قد يُظَن فيها المشقة

والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين، فالله (سبحانه) الرحيم بعباده، هو

الذي يعلم ما يصلح شؤونهم، وييسر أمورهم، ويعلم ما يشق عليهم وما لا يشق،

إنه حكيم عليم.

٧- التشهير بالدعاة والمصلحين واغتيابهم بحجة النصيحة

والتحذير من الأخطاء:

عن أبي برزة الأسلمي، والبراء بن عازب (رضي الله عنهما) ، قالا:

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان

قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم،

تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته [٥] .

والمقصود من إيراد هذه الصورة هو الحذر من تزيين الشيطان وتلبيسه في

إظهار الغيبة أو النميمة أو التشهير في قالب النصيحة، والتحذير من الأخطاء

والغيرة على دين الله وتعظيم حرمات الله (عز وجل) ، إن هذا هو الخطير في الأمر: إذ لو أن الواقع في الغيبة أو النميمة أقر بذنبه، واعترف بتقصيره، واستغفر

ذنبه لكان الأمر أهون، أما أن يكابر ويلبس على نفسه وعلى الناس بأن قصده

النصيحة للأمة وتحذيرها من الأخطاء، وهو يعلم من نفسه غير ذلك من التشفي أو

الحسد أو التهوين من شأن من وقع منه الخطأ وتنفير الناس عنه، فكل ذلك من

المغالطة وتلبيس الشيطان وتزيينه؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) :

ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول:

ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم

بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت، وربما

يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه، وهضماً لجنابه،

ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون

مخلوقاً، وقد رأينا فيهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، إلى أن قال: وربما يذكره

عند أعدائه ليتشفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله

ولخلقه، ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا

الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان [٦] .

فلا مدخل لملبّس ومغالط في إظهار حقده وتشفيه وحميته لنفسه في قالب

النصح والديانة، وكل إنسان أدرى بنفسه وقصده.

ولكن يبقى هناك بعض القرائن التي تكشف هذا اللبس والخداع في نفس

المدعي للنصح والديانة، منها:

١- التشهير والتعيير بالمنصوح، خاصة إذا كان من المصلحين وأهل العلم.

٢- الظلم، وعدم الإنصاف مع المنصوح، وبخسه حقه، وإخفاء خيره

وحسناته.

٣- عدم التثبت، والأخذ بالشائعات، وتصيد الأخطاء والفرح بها.

٤- تغليب سوء الظن، وتفسير المقاصد بدون دليل وبرهان.

٥- أن يكون قد عرف عنه الكذب وقلة الورع.

٦- المداهنة للظالمين والركون إليهم.

٨- التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها

الكيد للدين وأهله:

إن من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع، فلا ترى الحق بصورته المضيئةولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة إليه، وباطنها الكيد والمكر والخداع، ويحصل من جراء ذلك: أن يُخدع كثير من ... المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويثنون على أهلها بدلاً من فضحها وكشف ... عوارها وتعرية باطلها، وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، يقول ابن القيم (رحمه الله) : فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو ... أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ ... في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر (رضي الله عنه) ، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله [٧] .

وقد قص الله (سبحانه) علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا

خداع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين برفع لافتة إسلامية

على صرح من صروح النفاق، لكن الله (عز وجل) فضحهم وفضح لافتتهم وعرّى

باطلهم، ليكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم، وعبر التاريخ الطويل لمن يأتي بعدهم

ممن يرفع لافتة إسلامية يخفي وراءها خبثه ومكره، ويكيد بها المسلمين في أي

زمان ومكان، وهذه القصة ذكرها الله (سبحانه) في سورة التوبة بما يعرف بمسجد

الضرار، حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، قال (سبحانه) : [والذين

اتخذوا مسجداْ ضراراْ وكفراْ وتفريقاْ بين المؤمنين وإرصاداْ لمن حارب الله ورسوله

من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبداْ.

لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن

يتطهروا، والله يحب المطهرين] [التوبة: ١٠٧١٠٨] ، واللافتات المرفوعة اليوم

كثيرة وماكرة، أقتصر منها على بعض الأمثلة:

ما يرفعه الذين بدلوا شرع الله (عز وجل) ورفضوا التحاكم إليه في بلادهم

من لافتات يخدعون بها شعوبهم المسلمة، مثل إقامة الذكرى السنوية لإحراق

المسجد الأقصى المبارك، فترى هؤلاء المجرمين الخائنين لله (سبحانه) ورسوله -

صلى الله عليه وسلم- يخدعون المسلمين بإحياء ذكرى حرق المسجد الأقصى كأنهم

يهتمون بالمسلمين ومقدساتهم، وهم قد خانوا الله (سبحانه) من قبل بتنحية شريعته

واستحلال محرماته، وخانوا أمتهم بعد ذلك بالتذلل لليهود والنصارى، وما أصدق

ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري (رحمه الله) في محاضرة له مسجلة: إن

إحراق المسجد الأقصى بل إحراق مساجد الدنيا كلها ليس أعظم جرماً من الاعتداء

على شرع الله وحكمه وسلطانه في الأرض من قبل الأنظمة التي تتباكى على

الأقصى وإحراقه.


(١) عمدة التفسير، ج٤، ص١٥٦١٥٨.
(٢) مجموع الفتاوى، ج٢٨، ص١٦٨.
(٣) البخاري، كتاب الأدب، وانظر: فتح الباري، ج١٠، ص٥٢٨.
(٤) فتح الباري، ج١٠، ص٢٨.
(٥) رواه الترمذي وأبو داود، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (٥٠٤٤) .
(٦) مجموع الفتاوى، ج٢٨، ص٢٣٧٢٣٨.
(٧) الفوائد، ص١٠٩.