للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قصة قصيرة

[عبد الإله وحبات الرمل]

علي محمد

لم يكن للمساءات نكهة حاذقة المرارة في حلق عبد الإله مثلما كان ذلك المساء، فقد اقتحمته المرارة من أذنيه وكل حواسه طوال النهار، فانسكبت في قلبه، ومن

ثم: إلى كل جسمه، حتى إنه عندما وضع طرف إصبعه في فمه كالعادة ليشعر

بالمرارة أكثر، وجد أن لسانه أشد مرارة من إصبعه.

التفت وراءه ليرى بقايا أضواء الشارع الأخير وهو يتجه إلى الصحراء لعله

يبوح لها بآلامه، وانتابه شعور بالمرارة طالما راوده وهو يتأمل ذلك الشارع

الأصفر الذي يحيط بالمدينة من كل جانب.

إنه بالنسبة له ولأمثاله لا يعدو كونه قيداً من نار يقيد المدينة ومن بداخلها،

ويمنع في ذات الوقت خروج آهاتهم أو دخول الفرح إليهم، فكان حاجزاً من النار

يخنق أنفاس المدينة وأسرارها، وتذكر وهو يلقي عليه النظرة الأخيرة أنه قرأ ذات

مرة عن ذلك الشارع أنه الحزام الذهبي الذي يزين خصر المدينة النائمة على تلال

الرمال الناعمة، فتفجر في رأسه سؤال عاصف: لماذا يرونه كذلك وهو لا يراه؟

حاول تناسي ذلك السؤال، وأدار رأسه تجاه الصحراء، واستنشق كمية كبيرة

من هوائها الذي ظن أنه نقياً لعله يزيل ما بداخله من أتربة المدينة الممتزجة برائحة

عرق المسحوقين وبعض الدم الذي يقطر من قلبه، ولعله يقتلع في طريقه أشجار

القهر التي نمت بداخله، ليقذف بها على تلك الوجوه المتأنقة رغم بشاعتها الفاضحة.

واستنشق مرة أخرى، لكن كل ذلك لم يحقق له ما كان يحلم به، فتمتم

بكلمات لم يفهمها هو نفسه.

وتساءل مرة أخرى: لماذا اختار الصحراء بالذات لتكون مستقر أسراره

وراحة نفسه؟ ، وسرعان ما تذكر كلام جاره سعيد؛ بأنها مليئة بالأسرار، وتَمثل

أمام ناظريه في تلك اللحظة ظهر جاره المنحني انحناءته العجيبة التي حيرته، فهي

لم تكن بسبب كبر سنه، وليست لمرضه، وكثيراً ما يهرب جاره من الأسئلة حولها، لابد أن خلفها ما يخشى أن يتحدث عنه ذلك الرجل.

ابتسم عبد الإله في مرارة، وقال محدثاً نفسه: لعلها من ذلك السور الناري

الذي حبس أهل المدينة.

لكن عبد الإله لم يكن ليقتنع أن الصحراء لا تملك إلا الأسرار فقط، بل

وداخلها دُفِن الكثير من الأكاذيب التي خبّأها أصحابها واستعاروا ماضٍ يرون أنه

يناسبهم.

آهٍ أيتها الصحراء، كم أنت أمينة على أسرار الجميع، وكم أنت مصغية لكل

ثرثرات الموجوعين وأباطيل المخادعين.

واصل عبد الإله حديثه مع الصحراء وهو يتأمل وجهها الكبير الناصع

البياض في هذه الليلة المقمرة.

كم أتمنى أيتها الرمال أن تكشفي لأهل المدينة زيف البطولات التي يدعيها

المزيفون القادمون منك، أولئك الذين يتلبسون بمظاهر المدينة، ونسوا أن يزيلوا

ملامح الصعاليك التي لم تزل تفترش وجوههم، وعلى ظهورهم آثار نعل كبيرة لا

تصنع في مدينتهم، لأنها تحمل علامة غريبة عن الصحراء والمدينة التي تنام على

أطرافها.

واصل عبد الإله رحلته إلى قلب الصحراء في ضوء القمر الساطع، وأكوام

الرمال تبدو كالجمال الرابضة، وعلى قممها كانت تتراءى له تلك الرؤوس المقززة

وكأنها مغروسة عليها، ولم يدر لماذا بدأ يشعر كأنه إنما دخل إلى مقبرة، وإذا

بالهدوء الذي كان ينشده قبل قليل قد أصبح موحشاً مخيفاً، وإذا به يحس أن هناك

من يتعقبه ويقترب منه حتى كأنه يشعر بأطراف أصابع من خلفه تلامس كتفيه،

وإذا بحبات الرمل تُصَبّ على ظهره، وخالجه شعور بهلع شديد.. هل تراهم

سمعوا حديثه للصحراء؟ .. وبدأ يفتش في جسمه لعله يجد شيئاً ليس منه.

ازداد خوفه، وكذلك سيره، حتى إنه لم يعد يعرف مصدر تلك الأنفاس

اللاهثة: هل هي أنفاسه أم أنفاس الذي يتعقبه من خلفه، وكلما زادت سرعته كلما

زادت كمية الرمل على ظهره، ولم يعد يملك من الأعصاب ما يمنعه من الركض،

فأطلق ساقيه للريح وهو لا يرفع بصره عن الأرض، ولا يستطيع في الوقت ذاته

الالتفات إلى الخلف، وبينما هو منطلق بأقصى ما يملك من قوة أحس بضربة قوية

على رأسه، فسقط على وجهه، وأدرك أنه هلك لا محالة، فانقلب على ظهره في

محاولة بائسة لتفادي الضربة الثانية، لكنها لم تصبه، لأنه لم يكن هناك من يقوم

بها، وأغمض عينيه مستسلماً، لكنه لم يعد يسمع وقع تلك الأقدام.. وبعد لحظات

من الانتظار القاتل فتح عينيه بقوة حتى لا يتردد فلا يستطيع فتحها بعد ذلك، فلم

يجد أحداً، ووضع يده على رأسه ليتلمس الدم الذي بدأ يسيل، وتلفت يميناً وشمالاً

فلم تقع عيناه على أحد، فزاد خوفه، هل يملكون هذه القدرة على ضربه دون أن

يراهم؟ ! وتذكر على الفور كلام جاره صاحب الانحناء، فتفقد ظهره فوجده كما

هو، لم ينحن بعد، فاستلقى على الأرض، فإذا هو تحت شجرة كبيرة يتخلل

أغصانها ضوء القمر، وإذا بها قد أهملت أحد أغصانها اليابسة، ونظر إلى رجليه

فإذا بنعلي أخيه الأكبر صاحب الأرجل الطويلة فيهما، ولفرحته لم يتمالك نفسه

حيث انفجر ضاحكاً ودموعه تتساقط، حيث اكتشف أن ذلك الصوت خلفه لم يكن

سوى صوت النعلين الطويلتين اللتين كانتا تقذفانه بالرمل على ظهره! ، وتلمس

رأسه في ألم وهو ينظر مبتسماً إلى غصن الشجرة المتدلي، الذي كان صاحب

الضربة التي على رأسه.

ألقى نظرة على تلال الرمل، فإذا بتلك الرؤوس لا تزال عليها، إنها وجوه

أولئك الصعاليك، لابد أنهم هربوا من هذه الصحراء خوفاً من حبات الرمل،

وتركوا وجوههم الحقيقية هنا، وتذكر مرة أخرى العلامات التي على ظهورهم،

وتلمس ظهره فلم يجد عليه تلك العلامة، فحمد الله على ذلك، ونظر إلى غصن

الشجرة اليابس فدنا منه وخاطبه قائلاً: يالجهل الناس عندما يظنون أن غصن

الشجرة عندما ييبس أنه مات، وهو في الواقع إنما وصل إلى مرحلة النضج،

فيكون أكثر فائدة من الأغصان اللينة.

استنشق من هواء الصحراء، فإذا به يشعر بحيوية ونشاط ورغبة عارمة في

العودة إلى المدينة، فانطلق مسرعاً والرمل يتساقط على رأسه وكتفيه، لكنه لم يكن

خائفاً؛ فهو عرف بعض الأسرار، وعندما غاب القمر لم يكن عبد الإله قد وصل

إلى المدينة، فلم يفقده أحد من أهلها، وعندما أطل الليل مرة أخرى بوجهه الأسود

القاتم ابتسم الشارع الأصفر ابتسامة صفراء، والصحراء لم تزل تحفظ الكثير من

الأسرار.. ومنها سر عبد الإله الذي لم يصل بعد ...