للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية قرآنية

الأسباب الواقية من لبس الحق

الحلقة الأخيرة

بقلم:عبد العزيز بن ناصر الجليل

بعد أن تبين لنا خطورة لبس الحق بالباطل من خلال الصور التي أوردناها

في السابق، وما ينتج عنها من الضلال والانحراف الذي يورث العواقب الوخيمة

في الدنيا والآخرة، بعد ذلك: يحق لنا بل يجب علينا أن نسأل: كيف النجاة من

ذلك الخطر؟ وما هي الأسباب الواقية منه؟ وللإجابة على ذلك: نستعرض أسباب

التباس الحق بالباطل؛ فمنها ينطلق العلاج، وبضدها تتميز الأشياء.

فقد مر بنا أن تلك الأسباب لا تخرج عن ثلاثة أمور:

١- شبهة تسببت في أخذ الباطل على أنه الحق، وأصل هذا: الجهل.

٢- شهوة تسببت في أخذ الباطل وترك الحق عن شهوة وضعف واعتراف

بالخطأ.

٣- شهوة وشبهة نتج عنهما أخذ الباطل وإظهاره في صورة حق عن هوى

ومغالطة استناداً إلى شبهة يعلم صاحبها أنها لا تصلح للاستدلال.

وبعد هذه المقدمة التي لابد منها بين يدي الأسباب الواقية من اللبس والتلبيس. يمكن تفصيل وبيان الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل فيما يلي:

١- علم وبصيرة بدين الله (عز وجل) وشرعه، وعلم وبصيرة بما يضاد دين

الله (سبحانه) وشرعه؛ فإذا تحقق هذا الأمر: فإن الاستبانة لسبيل المؤمنين وسبيل

المجرمين قد تحققت، وبهذا: فلا مجال للشبهة هنا أبداً؛ لانتفاء الجهل الذي منه

تنتج الشبهات المؤدية إلى اللبس والتلبيس، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم (رحمه

الله تعالى) : فتنة الشبهات تُدفع باليقين، وفتنة الشهوات تُدفعُ بالصبر، ولذلك جعل

(سبحانه) إمامة الدّين مَنوطةً بهذين الأمرين، فقال: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ

بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: ٢٤] ، فدلّ على أنه بالصبر

واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قوله: [إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: ٣] ، فتواصوا

بالحق الذي يَدْفَعُ الشبهات، وبالصبر الذي يَكُفّ عن الشهوات [١] .

٢- الصبر وتقوى الله (عز وجل) :

فبالصبر وتقوى الله (سبحانه) تدفع الشهوة وينتصر الإنسان على هواه؛ لأنه

قد يحصل للإنسان البصيرة والعلم بدين الله (عز وجل) ، ويتبين له الحق من

الباطل، ولكن إذا لم يكن لديه الصبر عن شهوات النفس، والتقوى التي تحجزه

عن مخالفة الصواب: فإنه يضعف ويقع في المخالفة مع علمه بذلك، أما إذا اجتمع

العلم والبصيرة مع التقوى والديانة فإنه إذا بان الحق ولاح: لم يكن أمام من هذه

صفته إلا الإذعان والتسليم والانقياد، وذلك لانتفاء الشبهة والشهوة في حقه، وإلى

هذا أشار ابن القيم في النقل السابق بقوله: إن فتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة

الشهوات تدفع بالصبر ولكن إذا ضعف الصبر والتقوى، ووجدت الغفلة عن الآخرة، وتنوسِيَ الوقوف بين يدي الله (عز وجل) ، وصاحب ذلك شيطان يزين، ودنيا

تتعرض بفتنها: فالغالب عدم السلامة. ولكن المخالف للحق هنا: إما أن يكون لديه

بقية تقوى وخوف من الله (عز وجل) فيعترف بذنبه، ويستغفر منه ويتوب، أو

يكون (عياذاً بالله) قد رقّ دينه وسيطر عليه هواه فأخذ يلتمس مبرراً لباطله،

ويبحث هنا وهناك عن شبهة يظهر بها باطله ومخالفته في قالب الحق والموافقة

لدين الله، وهذا هو الخداع والتلبيس، ولا علاج له إلا بتقوى الله (سبحانه) ،

واليقين بالرجوع إليه.

نعم.. إنه لا يمنع من الوقوع في الباطل بعد العلم والبصيرة، ولا يمنع من

تلبيسه على الناس إلا الإيمان باليوم الآخر إيماناً جازماً ويقيناً صادقاً، وإن لم يتذكر

العبد هذا اليوم ويحسب له حسابه: فلن يفيده في ذلك العلم والبصيرة؛ فكم من عالم

بالحق تنكب عنه وخالفه، أما إذا انضم إلى العلم والبصيرة: الصبر والتقوى

والخوف من الحساب يوم القيامة، فإن الشهوة ستنقمع وإن الهوى سيُغلب، وعندها: يختفي اللبس والتلبيس والخداع والمغالطة في دين الله (عز وجل) ؛ يقول الإمام

ابن القيم (رحمه الله) في معرض رده على المحتالين على شرع الله بالحيل الباطلة:

فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكَاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر

والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال

والأفعال. [٢] .

ويقول سيد قطب (رحمه الله) في ظلال قوله (تعالى) : [وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ

لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [الأعراف: ١٦٩] :

نعم.. إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي

يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العَرَض الأدنى القريب في هذه

الدنيا.. نعم، إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها [٣] .

أسباب أخرى مساعدة:

وبعد ذكر السببين الرئيسين للوقاية من اللبس والتلبيس، وهما: البصيرة في

الدين الذي تدفع به الشبهة، والصبر والتقوى اللذان تدفع بهما الشهوة: نذكر فيما

يلي بعض الأسباب المساعدة لتثبيت السببين السابقين:

٣- محاسبة النفس ومجاهدتها وتحصينها بالذكر والدعاء والعمل الصالح:

حيث لابد للمسلم من محاسبة دائمة للنفس، ومجاهدة لها في تطويعها لشرع

الله (عز وجل) والحذر من الشيطان الذي لا يفتأ يوسوس ويزين لها الباطل، فإن لم

يتفقد كل منا نفسه، ويسد على الشيطان مداخله المتعددة؛ فإن النفس تكون على

خطر أن تنساق مع شهواتها وهواها، فيحصل من جراء ذلك: اللبس والتلبيس

والتضليل والمغالطة، إما بعلم أو بجهل، وإن مما يؤكد أهمية المحاسبة الدائمة

واليقظة الشديدة للنفس ما يحصل من كثير منا في يومه أو غده من المغالطات

والمعاذير الكاذبة والتبريرات الغامضة، سواء أكان ذلك مع النفس أو مع الناس،

ولكنها تكثر وتقل حسب التقوى وقوتها أو ضعفها في القلب، مع أنه يوجد من

الدعاة والمصلحين نماذج فريدة في إخلاصها وصدقها وبعدها عن المداهنة والمغالطة

والتلبيس، نسأل الله لهم الثبات، ونسأله (سبحانه) للجميع الصدق في المقاصد

والأقوال والأعمال.

ومن الأسباب القوية التي يُتحصن بها من الشيطان ووساوسه: ذكر الله (عز

وجل) في أحوال اليوم والليلة؛ فكلما كان اللسان رطباً بذكر الله (تعالى) والقلب

يواطؤه في ذلك: كلما كان الشيطان بعيداً ولا يستطيع اقتحام الحصن؛ لأن ذكر الله

(سبحانه) يحرقه ويمنعه من الدخول، ولكن ما إن يغفل العبد عن ذكر الله (تعالى)

حتى يكر مرة أخرى للوسوسة، فهذا دأب الشيطان في كره وفره على القلب، فكلما

ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل وسوس.

ومن الأسباب الواقية من التباس الحق بالباطل: مجاهدة النفس في عمل

الصالحات والإكثار منها من غير إفراط ولا تفريط، كما جاء في الحديث القدسي

الذي منه: وما تقرب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب

إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر

به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها.. الحديث [٤] فمن كان يسمع

ويبصر ويمشي ويبطش بنور الله وهداه: فإنه لن يخطئ أبداً؛ قال (تعالى) :

[وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: ٦٩]

وبالضد من ذلك فإن كثرة الذنوب من أسباب الضلال والزيغ؛ قال (تعالى) :

[ ... فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ... ] [الصف: ٥]

٤- مصاحبة أهل العلم والورع:

إن الجليس يتأثر بجليسه وصاحبه، سواءً أكان ذلك في الخير أو الشر، وذلك

عن طريق المؤانسة والمشابهة والقدوة، وعليه: فإن من الأسباب المانعة من

الانحراف ولبس الحق بالباطل: الجلوس مع أهل العلم والتقوى ومصاحبتهم

ومشاورتهم، لأنه بالعلم الذي عندهم تحترق الشبهات، وبالتقوى والورع لديهم

تحترق الشهوات، وبذلك يُسد على الشيطان البابان الرئيسان اللذان يدخل منهما

ليلبس على النفس ويزين لها التلبيس، والعكس بالعكس: ما إن يصاحب المرء

أهل الجهل والجدال ومن لم يؤتوا حظّاً من التقوى والورع إلا ويتأثر بهم وينطبع

بأخلاقهم وتشتبه عليه الأمور لضعف العلم والبصيرة، أو يتعمد ترك الحق وتعميته

على الناس لضعف التقوى والصبر عن الشهوات، وقد روي عن عمر بن الخطاب

(رضي الله عنه) قوله: لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد

الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى

أطايب الثمر.

ولعل مما يدخل في هذا السبب: الإكثار من قراءة أخبار أهل العلم والتقوى

والجهاد من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان؛ ففيهم الأسوة

والقدوة والخير كله.

٥- الحذر من الدنيا، وعدم الركون إليها:

إن من أعظم أسباب الانحراف عن الحق والوقوع في الانحراف والمخالفات:

هذه الدنيا الغرارة؛ فكلما انفتحت على العبد كثرت شبهاتها وانساق مع شهواتها

المختلفة، وعندما يرد ذكر الدنيا فإنه يقصد بها كل ما أشغل عن الآخرة من متعها

المختلفة التي أجملها الله (عز وجل) في قوله (سبحانه) [قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ

وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ

تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ

بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] [التوبة: ٢٤] .

والانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها ينتج عنه: غفلة عن الآخرة، وتشتت

للذهن والقلب، وإعمال الفكر في الاستزادة منها، والخوف على فواتها.. وهذا

يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا: تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين

الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، والذي ينشأ منهما: الكذب،

والتدليس، والتلبيس، والطمع، والجشع.. وبخاصة في مثل عصرنا الذي نعيش

فيه، والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات، ولا عاصم من أمر الله إلا

من رحم، ولذا: كان الأولى لمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها:

أن يتخفف منها قدر الاستطاعة وأن يرضى منها بالقليل؛ لأن هناك تناسب طردي

وخاصة في زماننا هذا بين كثرة الدنيا وكثرة الوقوع في الشبهات والشهوات

المؤديات إلى التدليس والتلبيس.

٦- النصح للأمة والحذر من عاقبة التلبيس والتدليس عليها:

إن الشعور بواجب النصح للأمة يقتضي من المسلم وبخاصة الداعية إلى الله

(عز وجل) أن يبين الحق لأمته، ويعري الباطل ويكشفه لها، ولا يجعله ملتبساً

عليها فتضل؛ لأن الذي يرى أمته تُضلل ويُلَبّس عليها دينها فتعيش في عماية من

أمرها، ثم يتركها وهو يعلم الحق من الباطل إن مَن هذا شأنه: يعتبر خائناً لله

ورسوله وللمؤمنين، وإن الله (عز وجل) سائله يوم القيامة عن علمه: فيم عمل به؟، وهذا فيمن رأى التضليل والتلبيس فلم يُحذّر منه ولم يكشفه للناس، فكيف بمن

باشر التلبيس والتضليل بنفسه (عياذاً بالله) ؟ إن هذا بلا شك أكثر خيانة من سابقه،

وإن وزر وضلال من ضلله بتلبيسه هذا سيحمله فوق ظهره يوم القيامة من غير أن

ينقص من أوزار من ضللهم شيء. والحاصل: أن شعور المسلم بإثم وعاقبة

التلبيس أو السكوت عليه: من أقوى الأسباب المانعة من الوقوع فيه إن كان في

القلب حياة وخوف من الله (سبحانه) والدار الآخرة، لأن من كان في قلبه المحبة

الحقيقية لهذا الدين وأهله: لا يمكن أن يرى التضليل والتلبيس من المفسدين

المنافقين ثم يرضى لنفسه السكوت والوقوف موقف المتفرج، بل لن يقر له قرار

ويهدأ له بال حتى يساهم قدر استطاعته في إبانة سبيل المؤمنين وإسقاط اللافتات

الزائفة عن سبيل المجرمين وتعرية باطلهم وخداعهم كما مر بنا في صور التلبيس،

وعندها: تعرف الأمة من توالي ومن تعادي، وعندها: تتميز الصفوف ويتميز

المؤمن من المنافق، وكل هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة، لكنها رخيصة في

سبيل الله (عز وجل) لأن نصر الله (جل وعلا) الموعود لا يتم بدونها.

وبعد:

فهذا ما يسره الله (عز وجل) في هذه العجالة حول هذا الموضوع المهم الذي

يمس المسلم في عقيدته وأخلاقه ومجتمعه، ولا أزعم أنني أحطت بجوانبه كلها،

ولكن حسبي إثارة هذا الموضوع والتذكير به لعل فضيلة العلماء الكرام والإخوة

الدعاة يكملون ما نقص منه، ويقوّمون ما اعوج منه. وأحب أن أنبه: أن ما ذكرته

من صور التلبيس ذكرته على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فالصور كثيرة

وكثيرة وبخاصة في زماننا هذا الذي قلّ فيه العلم والورع ونجم فيه الجهل والنفاق.

وفي خاتمة هذه المقالات: أوصي نفسي الأمارة وأوصي إخواني المسلمين:

بأن يتفقد كل منا نفسه، ويبحث عن هذا المرض الخطير فيها فإذا وجدنا شيئاً من

ذلك وسنجد فعلينا التوبة الصادقة من هذا المرض، ولنبادر بقطع جذوره قبل أن

يستفحل، ولا نُسوّف في ذلك أبداً؛ لأن التسويف وطول الأمل من عمل الشيطان

وتلبيسه.

والله أعلم، وصلّ الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


(١) إغاثة اللهفان: ج٢، ص١٦٧.
(٢) إعلام الموقعين: ج٣، ص٢١٤.
(٣) في ظلال القرآن: ج٣، ص٣٨٧.
(٤) البخاري: كتاب الرقائق، ح ٦٥٠٢.