للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

العلاقة بين العلم والخلق

في الفكر التربوي الإسلامي

بقلم: د.محمد عز الدين توفيق

هذا الموضوع من الموضوعات المرتبطة بالتراث التربوي والتعليمي عند

المسلمين، وفي أي تراث لابد أن نجد الجوانب المشتركة ونجد الخصوصيات،

وفي التراث النفسي عند المسلمين وفي تطبيقاته في علم التربية هناك أمور تقنية

ومنهجية تُدرس في إطار علمي محايد، وأمور أخرى تختص بها الحضارة

الإسلامية وتُدرس في إطار المرجعية الفكرية والعقدية لهذه الحضارة وهي الإسلام.

هذه الأمور المشتركة هي الأفكار والآراء التربوية ذات الطابع التقني

والإجرائي، وهذه تخضع للاختبار العلمي التجريبي، فلا يمكن أن نرجع إلى

الوراء؛ فنجمد على آراء تربوية تم تجاوزها علميّاً، ونكون في تمسكنا بها

معتمدين على مجرد انتسابها إلى التراث، فاعتماد المنهج التجريبي لأجل الوصول

إلى أحسن الطرائق وأفضل الأساليب التعليمية منهج إسلامي أصيل، والتخمينات

الذاتية إذا لم تمر بمرحلة التجربة تبقى فروضاً قابلة للصواب والخطأ معاً، وفي

التراث أمثلة لهذه الآراء التربوية التي أصبحت تتمتع بقيمة تاريخية فقط لكنها

متجاوَزة من الناحية العلمية.

لكن الذي يجد امتداده في الحاضر واستمراره في المستقبل: هو تلك القيم التي

تميز حضارتنا رغم التطور الذي عرفته النظريات التربوية في العصر الحاضر،

وهذه القيم يجب التعامل معها بشكل مختلف، فإذا كنا في مجال النظريات نحتكم إلى

المنهج العلمي القائم على وضع الفروض والتحقق منها وفق مراحل مشتركة بين

الباحثين، فإننا في مجال القيم والأخلاق نستلهم مبادئ ديننا ونحتكم إلى العلم الثابت

الذي جاءنا من عند الله.

والعلاقة بين العلم والخلق هي من هذا المجال الثاني، فأخلاقنا متميزة داخل

قاعة الدرس، وفي الشارع، وفي المحكمة، وفي المصنع، وفي الحافلة، وفي كل

مؤسسة من مؤسسات المجتمع.

غير أن استلهام التراث في تحديد العلاقة بين العلم والخلق لا يعني التسليم

بكل ما جاء فيه عنها، فالتراث يُذكر ويُقصد به: كل ما وصل إلينا من الآباء

والأجداد، وهذا معنى عام يشمل الكتاب والسنة، كما يشمل الكتب والمخطوطات

التي ضمت علم المتقدمين وأدبهم وتاريخهم، فإذا استعملنا هذا المعنى العام للتراث

فيجب أن نميز فيه بين الجانب الإلهي والجانب البشري، وذلك حتى تختلف طريقة

تعاملنا مع ما ورد في هذا التراث عن العلاقة التي نحن بصدد دراستها، ففي الوقت

الذي سيكون الوحي أو الكتاب والسنة معياراً ثابتاً تعرض عليه كافة الأخلاق التي

ألح عليها العلماء في مجال العلم والتربية، ستكون اجتهاداتهم في تنزيل هذه

الأخلاق على الواقع محل استفادة واستئناس لاختلاف الظروف والعصور.

إن الحديث عن العلاقة بين العلم والخلق في ظل الحضارة الإسلامية وثيق

الصلة بمشروع التأصيل الإسلامي للعلوم الإنسانية بعامة، هذه العلوم التي ليست

لها صبغة إسلامية، وتحتاج في البيئة الإسلامية إلى وجهة تميزها عن وجهتها

السائدة حالياً في الغرب.

نحن بحاجة إلى ربط الصلة بين آخر ما توصل إليه البحث العلمي في علم

النفس وتطبيقاته في التربية وبين ما يزخر به تراثنا النفسي والتربوي.

إن الإنجازات التي حققها علم التربية الحديث إنجازات لا تنكر، ويكفي أنه

أسس الأساليب التربوية على الدراسة التجريبية والبحوث الميدانية، بعيداً عن

التخمينات النظرية والمعلومات المكتبية، لكن هذه الإنجازات لم تملأ الفراغ الخاص

بالقيم، لأن العلم التجريبي لا يستطيع أن يملأه، وإنما يملؤه الدين أو ما يقوم مقامه

من فلسفات وضعية بالنسبة للعلمانيين.

ولقد تعرضت العلاقة بين العلم والخلق للاضطراب في ظل النظريات

التربوية الغربية، وأحدثت ثنائية التعليم وعلمانيته قطيعة بينهما في الحضارات

الغربية، فأصبحت الأخلاق موضوعاً من موضوعات الدراسة، بينما صارت بقية

العلوم تدرس دراسة تخصصية محضة، واعتبرت الأخلاق مسألة شخصية، وتم

فصل الجوانب المعرفية عن الجوانب الأخلاقية، وأصبحت السياسات التعليمية تهتم

بالجانب التقني والإداري، فالمهم هو تكوين أطر متخصصة لسد حاجات البلد، ولا

يهم الجانب الأخلاقي في هذا التكوين، ونحن نريد أن تعود إلى هذه العلاقة حيويتها، كما كانت في ظل الحضارة الإسلامية، لأن التكوين التقني أو التخصصي العلمي

المعزول عن التربية الأخلاقية لن يعطي الشخصية المنشودة لبناء الأمة وخدمة

أهدافها.

لقد تعلم المسلمون من دينهم: أنه لتحقيق الشخصية الإسلامية المنشودة لابد

من الاهتمام أثناء التربية بالجسم والعقل والروح، ولأجل هذه النظرة المتكاملة لم

يكن العلم نظريّاً فحسب، ومهما تكن قيمة المعلومات التي يحصلها الإنسان فلابد

لصاحب العلم كيفما كان اختصاصه أن يلتزم بالقيم الخلقية التي يفرضها العلم على

أهله.

ونقصد بالعلم هنا: جميع العلوم التي يدرسها الإنسان سواء أكانت دينية

مصدرها الوحي أو دنيوية مصدرها العقل، كما نقصد بالخلق: الجانب الذي يقابل

العلم، وهو يرادف العمل أو التطبيق.

وفي المجال الذي نتحدث عنه هناك ثلاثة أنواع من الأخلاق يُطالبُ بها أهل

العلم:

- أخلاق علمية: يتخلق بها المرء في فترة التعلم والدراسة.

- أخلاق مهنية: يتخلق بها عندما يمارس اختصاصه سواء أكان تعليماً أو

غيره.

- أخلاق اجتماعية: يتخلق بها في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه.

أمثلة تؤكد العلاقة بين العلم والخلق

في الفكر التربوي الإسلامي:

تكثر الأمثلة التي تجسد اهتمام المسلمين بهذه العلاقة، نذكر بعضها:

* المثال الأول: الوصية التي يوصي بها الأستاذ تلميذه قبل عودته إلى بلده

وجلوسه للتدريس والفتيا، أو ما يمكن تسميته بالتوجيهات التربوية عند التخرج،

وكلها كانت وصايا أخلاقية تحث على الأمانة والتواضع وفعل الخير ونشر العلم

والإخلاص لله، ومما ورد في وصية أبي حنيفة لتلميذه يوسف بن خالد السمتي: إذا

دخلت البصرة واستقبلك الناس وزاروك وعرفوا حقك، فأنزل كل رجل منهم منزلته: أكرم أهل الشرف، وعظم أهل العلم، ووقر الشيوخ، ولاطف الأحداث، وتقرب

من العامة، ودارِ التجار، واصطحب الأخيار، ولا تتهاون بالسلطان، ولا تقولن

من الكلام ما ينكر عليك في ظاهره.. [١] .

* المثال الثاني: الإجازات التي كان يجيز بها العلماء تلاميذهم، وما كانت

تتضمنه من الأمر بتقوى الله ولزوم طاعته والقيام بحق العلم عملاً ونشراً، فمن

العلماء من كان يفصل شروطه التي يجيز على أساسها طلابه ومن سأله الإجازة من

أهل العلم، ومنهم من كان يحيل على شروط العلماء المتعارف عليها، كما أجاز

ابن خلدون لجماعة من علماء مصر أثناء مقامه بها وفيهم الإمام ابن حجر العسقلاني

فكتب في إجازته: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أجزت لهؤلاء

السادة، والعلماء القادة، أهل التحصيل والإفادة والفضل والإجادة، والإبداء في

الكمال والإعادة، جميع ما سألوه ورجوه من الإجازة وأملوه، على شروطه المعتبرة

عند العلماء، وأخبرهم أن مولدي عام اثنين وثلاثين وسبعمئة، والله (تعالى) ينفعنا

وإياهم بالعلم وأهله، ويجعلنا من سالكي سبله، وكتب بذلك عبد الرحمن بن محمد

بن خلدون، منتصف شعبان عام سبعة وتسعين وسبعمئة [٢] .

لقد كان الانتقال من مرحلة التلقي والتلمذة إلى مرحلة التدريس والمشيخة

مرحلة حاسمة لها هيبتها، ولذلك: حفها العلماء بشروط علمية وأخلاقية صارمة.

ورغم أن الإجازات لم تكن في أول الإسلام لقرب العهد بالنبوة، ولشيوع

الأمانة، لكنها ظهرت بعد الابتعاد عن عصر النبوة، وطالت سلسلة الإسناد لضبط

الرواية، والأخذ عن الثقات، والإجازة: عبارة عن إذن يمنحه المجيز لشخص

آخر يسمى مُجازاً، يأذن له فيه أن يروي عنه رواية قرآنية أو أحاديث نبوية أو

أشعاراً أو فقهاً أو لغةً أو غير ذلك، وقد يكون المستجيز طالباً دَرَسَ عند الشيخ

المجيز، وقد لا يكون، لكن يشترط في الإجازة أن يكون المجيز عالماً بما يجيز به، ثقة في دينه وروايته، معروفاً بالعلم، وأن يكون المستجيز من أهل العلم وطلابه

حتى لا يوضع العلم في غير أهله.

* المثال الثالث: موقف الأسرة والآباء من هذه العلاقة، وحرصهم على

استفادة أبنائهم من التعليم: العلم والخلق جميعاً، ويظهر هذا في وصاياهم للمعلم

عند تسليمه الولد، وقد أوصى عبد الملك بن مروان معلم ولده فقال له [٣] : علّمهم

الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة؛ فإنهم أسوء الناس بدعة، وأقلهم أدباً،

وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة، وأحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضا، ويمصوا الماء مصّاً

ولا يعبوه عبّاً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في ستر، لا يعلم به أحد

من الحاشية فيهونوا عليه.

فهذه الوصية اشتملت على توجيهات صحية وأخرى علمية وأخرى أخلاقية

تبعاً لنظرة الإسلام إلى المكونات الثلاثة: الجسم، والعقل، والروح.

* المثال الرابع: حضور الثقافة الدينية بقوة في المراحل الأساسية للتعليم،

ثم في المراحل التالية، وشعار ذلك: البداية التي كان سيبدأ بها الطفل بعد تعلم

القراءة والكتابة، وهي حفظ القرآن الكريم، يقول ابن خلدون: تعليم الولدان القرآن

الكريم شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أقطارهم،

لِمَا يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون

الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من

الملكات [٤] .

ورغم أن العلوم التي كانت تدرس في المدارس والجامعات الإسلامية لم تكن

جميعاً علوماً دينية، ولكن المبدأ السائد كان هو البدء بهذه العلوم الدينية وإتقانها قبل

التخصص في غيرها، لأنها قاسم مشترك يحتاج إليها كل طالب كيفما كان

التخصص الذي سيختاره فيما بعد؛ يقول عمر بن عتبة لمعلم ولده: ليكن أول

إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بك، فالحسن عندهم ما

صنعت، والقبيح عندهم ما تركت، علمهم كتاب الله، ولا تُمِلّهم فيه فيتركوه، ولا

تتركهم منه فيهجروه، وروّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تنقلهم

من علم إلى علم حتى يُحكموه، فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم، وعلمهم

سنن الحكماء وجنبهم محادثة النساء، ولا تتكل على عذر مني فقد اتكلتُ على كفاية

منك [٥] .

* المثال الخامس: هو ارتباط العلم بالمسجد، وما يرمز إليه المسجد من

علاقة بين العلم والعمل، والإيمان والطاعة، ورغم أن الكتاتيب والمدارس قد

أنشئت فيما بعد مستقلة عن المساجد، ولكن المسجد بقي محور الدراسة، فكانت

المدارس ملحقة به، وإذا كانت كبيرة كانت تضم المسجد ضمن مرافقها، وكان

جزءٌ من وقت العالِم وطلابه يمضى في المسجد.

* المثال السادس: هو الرحلة في طلب العلم [٦] ، فقد كانت الرحلة بدوافعها

وآدابها تأكيداً للعلاقة بين العلم والخلق، وذلك لأن الطلاب لم يكونوا يَقنعون بأخذ

العلم من الكتب والصحف، فكانوا يرحلون لملاقاة الشيوخ، حتى يأخذوا عنهم العلم

والخلق، ويستفيدوا منهم العلوم النظرية بالقراءة عليهم، والأخلاق العملية

بالاحتكاك بهم ومجالستهم والاستماع إلى نصائحهم وتوجيهاتهم، كما كان العلماء

يدركون هذه المهمة المزدوجة، ولم يكونوا يرون أنفسهم حملة أسفار وعلوم فقط.

هذه أمثلة لقوة العلاقة التي كانت تصل بين العلم والخلق في الفكر التربوي

للمسلمين.

وبما أن طرفي العلاقة هما الأستاذ والتلميذ؛ سنأخذ كلاً منهما نموذجاً نرى من

خلاله كم كان حجم هذه العلاقة بارزاً عند علماء المسلمين.

الأستاذ:

١- النية التي تقف وراء طلب العلم والاشتغال بالتدريس: لقد كثر التأكيد

على الإخلاص لله (تعالى) عند تحصيل العلم وتبليغه حتى لا يفقد الأخلاق التي

تكون معه ومنها: العزة، والاستعلاء بالإيمان، وقول الحق، والأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر وحتى يكون طلب العلم لله وتبليغه لله: لابد أن يتخلق العالم

بالزهد والقناعة والأخذ من الدنيا بقدر الحاجة، فالعالم إذا استولت عليه الأفكار

المادية انعكس ذلك على عطائه العلمي، وانصرف عقله إلى التملك والاستهلاك،

وصار اشتغاله بالعلم حرفة جافة هدفها الأجرة التي يحصل عليها آخر الشهر، ولم

يكن المقصود عندهم بالإخلاص لله عند تحصيل العلم وعند التصدر لتدريسه ألا

يأخذ شيئاً يستعين به على الدراسة أثناء الطلب أو يأخذ كفايته وكفاية عياله أثناء

التدريس، بل كانت المنح وكانت الأجور، ولكنها لم تكن هي الدافع الأول وراء

الحركة العلمية، ولم تكن هي سبب تلك التضحيات التي بذلها الطلاب في دراستهم

وذلك الإخلاص الذي عرف به الشيوخ في عملهم.

٢- الأخلاق العامة التي يمشي بها الأستاذ بين الناس: يقول بدر الدين بن

جماعة: أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام: كإقامة الصلاة في

المساجد، وإفشاء السلام للخواص والعوام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

والصبر على الأذى بسبب ذلك..، ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز

منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها، فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في

الأحكام، وهم حجة الله على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا يُنظرون،

ويقتدي بهم من لا يعلمون، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه، فغيره أبعد عن الانتفاع به.

وأن يعامل الناس بمكارم الأخلاق من: طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وكظم

الغيظ، وكف الأذى عن الناس واحتماله منهم.. [٧] .

٣- الأخلاق الخاصة بمعاملة الطلاب والتلاميذ: يقول الغزالي عن هذه

المعاملة: ثم على المعلم أن يشفق على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، وألا

يدع من نصح المتعلم شيئاً، وأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها، ثم ينبهه

أن الغرض من طلبه العلم الثقافة والقرب من الله دون الرياسة والمباهاة والمنافسة

وأن يهتم بأخلاق التلاميذ اهتمامه بعقولهم، وأن يزجرهم عن سوء الأخلاق بطريق

التعريض ما أمكن، وألا يصرح بالزجر إلا عند الضرورة.

وعلى المدرس أن يربي في تلميذه ملكة الاجتهاد والنظر لا مجرد التقليد

والتسليم حتى ينشأ مستقلاً لا نسخة من معلمه [٨] .

ومن الأخلاق التي تضبط هذه العلاقة إذا كان التلاميذ كثرة: العدل بينهم؛

والعدل من أصول الأخلاق، وبه جاءت الشريعة الإسلامية، ولذلك نهت عن كل

صور الظلم، فتعميم التعليم من العدل ولكن منعه ممن لا يستحقه كبذله لمن يستحقه، والمساواة بين التلاميذ عند تعليمه وعدم التفريق بينهم في ذلك من العدل، وإذا

منح الأستاذ لأحد الطلاب عناية خاصة فلأجل تفوقه ونبوغه لا لماله وقرابته.

٤- الأخلاق المتعلقة بالهيئة عند التدريس: وقبل أن يلتفت علماء التربية إلى

أهمية الهندام في العمل التربوي ذكره علماؤنا ضمن أخلاق العالم عند التدريس؛

يقول ابن جماعة: إذا عزم العالم على مجلس التدريس تطهر من الحدث والخبث،

وتنظف وتطيب، ولبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه، قاصداً بذلك

تعظيم العلم وتبجيل الشريعة [٩] .

ونلاحظ في هذا النص المرونة في أمر اللباس تبعاً لاختلاف العصور والبلدان، لكن الهيبة والنظافة والجمال تبقى مميزات ثلاث لأنواع اللباس التي لبسها العلماء

في مجالسهم التعليمية.

ولا يخفى أن أنظار التلاميذ تتجه إلى الأستاذ ساعة أو أكثر، فيجب أن تقع

أنظارهم على شيء مستحسن، فإن ذلك أيضاً من الخلق الذي يأخذونه عنه.

وأما هيئة التدريس: فقد عددوا لها أخلاقاً، منها: السكينة، والوقار،

والتواضع، والافتتاح بالحمد لله والختم بذكره، وتفويض العلم له بأن يقول: هذا،

والله أعلم.

وأما الكلام الذي يتكلم به أثناء الدرس: فقالوا: عليه أن ينزه لسانه عن كثرة

المزاح والضحك فإن من مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، وأن

يتجنب الكلام الفاحش، فإن اضطر لاستعمال كلمة يُسْتَحْيى منها ففي الكناية ما يغني

عن التصريح إلا أن يكون التصريح لازماً للتوضيح.

ومن الأخلاق العلمية التي سبق علماؤنا إلى التأكيد عليها: الالتزام بموضوع

الدرس، واستيفاؤه شرحاً، وقد اتخذوا موقفاً وسطاً بين من لا يقبل أي استطراد

وبين من لا يتقيد بموضوع أو مقرر؛ يقول ابن جماعة: وكان بعض العلماء

والزهاد يختم الدروس بدرس رقائق يفيد به الحاضرين تطهير الباطن، ونحو ذلك

من: عظة، ورقة، وزهد، وصبر [١٠] .

ومعنى هذا: أن الأستاذ إذا استوفى الدرس حقه لا بأس أن يفيد الطلاب

بفوائد أخرى يرى أن غيره لا يفيدهم بها خصوصاً في هذا المجال الأخلاقي،

ويزيد ابن جماعة شرطاً آخر فيقول: فإن كان في مدرسة ولواقفها في الدروس

شرط اتبعه، ولا يُخل بما هو أهم ما بنيت له تلك البناية، ووقفت من أجله وهذا

بتعبيرنا المعاصر هو احترام المقررات العامة للمؤسسة.

٥- أخلاق السؤال والإجابة: وكلام علمائنا في هذه النقطة يدور حول الرفق

والتلطف: فإذا فرغ الشيخ من شرح درس، فلا بأس أن يطرح مسائل تتعلق به

على الطلبة؛ يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن ظهر استحكام فهمه له

بتكرار الإجابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطف له في إعادته له [١١] .

هذا الخلق هو الذي يحبب للطلاب المراجعة؛ لأنه يسألهم ويمتحن استيعابهم

برفق ودون إحراج، وإذا سألوه أجاب بما يعلم، وقال فيما لا يعلم: لا أعلم، بل

إن كلام علمائنا عن الرفق يمتد إلى العقوبة الحسية والمعنوية التي قد يلجأ إليها

الأستاذ لتنفير الطلاب من التهاون والتقصير.

والملاحظ أن علماءنا كانوا يفضلون التعزيز الإيجابي على التعزيز

السلبي [١٢] قبل أن تقول به المدارس المعاصرة؛ فهم يفضلون الثناء على الطالب المجد بين أقرانه ليكون لهم قدوة، على معاقبة المقصر ليكون لهم عبرة، وإذا أُلْجِئوا إلى العقوبة يجعلونها آخر الدواء، ولذلك ذكروا مراتب ستّاً للتعزيز السلبي:

الأولى: عفو الأستاذ إذا كان الخطأ أول مرة.

الثانية: النصح.

الثالثة: العقاب الخفيف.

الرابعة: العقاب الشديد.

الخامسة: العقوبة البدنية من غير شدة بعيداً عن التشفي والانتقام.

٦- الأخلاق المتعلقة بالموضوع المدروس: على العالم أن يحفظ درسه من

الموضوعات التي تخدش الحياء، وتشجع على المجون والخلاعة؛ ولذلك كانت

مدارس المسلمين خالية من دراسة الأدب المكشوف والفن الهابط، وكانت

موضوعات الدراسة نظيفة، لأنها منتقاة، وهذا ما يسمى اليوم بتطهير المعلومات،

وهو إحدى المهام الثلاثة للمدرسة، أما الثانية: فهي تنظيم هذه المعلومات، والثالثة: تبسيطها.

التلميذ:

١- يعتبر علماؤنا أن حسن الخلق أساس النبوغ في العلم، ولذلك: فإنهم

عندما يلحون على ربط العلم بالأخلاق لا يقصدون آثارها في حياة الطالب بعد

الدراسة فقط، بل يقصدون آثارها في حياته أثناء الدراسة نفسها، وفي المجال

العلمي الذي هو بصدده، ورغم أن العلاقة بين جودة التحصيل وقوة الذاكرة وبين

الاستقامة على الدين والتمسك بمكارم الأخلاق: علاقة خفية، فإن العلماء والمربين

المسلمين تنبهوا إليها؛ يقول أبو حامد الغزالي: على الطالب أن يكون طاهر النفس

عن رذائل الأخلاق ومذموم الصفات، فطهارة النفس وحسن الأخلاق أساس النبوغ

في العلم، وربما حصل سيئ الأخلاق على العلم، غير أنه لن ينتفع به ولن ينفع به، فكأنه لم يحصله [١٣] .

٢- وبعد أن أكدوا على علاقة الأخلاق بحسن الاستفادة والانتفاع بالعلم،

جعلوا طلب العلم نفسه خُلقاً، وتكلموا عن الهمة العالية وعن الجد في الطلب حتى

يصير العلم هواية وسلوة، وعندما يصير كذلك يصعب التحول عنه إلى غيره.

٣- ويعينه على بلوغ هذه المرتبة خلق آخر هو التواضع، فمهما بلغ علمه لا

يغتر به ولا يخرجه إلى ساحة الإعجاب بالنفس، فلا زال المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.

٤- كما يعينه أيضاً انشغاله عن عيوب الناس، وانصرافه إلى عيب نفسه وما

تعانيه من نقص في العلم وتقصير في العمل، وإذا ترك الناس وأقبل على نفسه

يُكملها بالعلم والخلق تعود على استغلال الوقت وحسن استثماره.

٥- وبما أن الطالب في السابق كان هو الذي يختار شيوخه: كثرت الوصية

باختيار أهل العلم والورع، فإذا اختار الأعلم والأتقى فليلازمه بالصبر والتواضع

والاحترام.

٦- أما علاقة التلميذ بالتلميذ: فكانت تحكمها أخلاق الأخوة في الإسلام من

المحبة في الباطن والتعاون في الظاهر، يصاحب المجد التقي ويجتنب الكسلان

والشرير، وإذا ابتلي برفيق سوء تلطف حتى يتخلص منه.


(١) أحمد شلبي: التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، ص٣٣٢، ط ثانية، مكتبة النهضة المصرية.
(٢) ابن خلدون: المقدمة، ج١ ص٤٣٩، دار نهضة مصر، بتحقيق علي عبد الواحد وافي.
(٣) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج٢ ص١٦٧، نقلاً عن: أحمد شلبي: مرجع سابق ص٦٣.
(٤) المقدمة، ص٣٩٧.
(٥) ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج١ ص٣٦٣، نقلاً عن: أحمد شلبي: مرجع سابق ص٦٤.
(٦) انظر: (صفحات من صبر العلماء على العلم والتحصيل) للشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
(٧) تذكرة السامع والمتكلم بأدب الصالح والمتعلم، ص ٢٠، دار الكتب العلمية.
(٨) إحياء علوم الدين، ج٨ ص٤٦ - ٤٧.
(٩) المرجع السابق، ص ٣٠.
(١٠) نفس المرجع، ص ٣٧.
(١١) المرجع السابق، ص٥٣.
(١٢) مصطلح التعزيز: مصطلح نفسي تربوي يعني التدعيم، وقد يكون إيجابيّاً بتشجيع الفرد على الاستجابة الصائبة، وقد يكون سلبياً بتنفيره من الاستجابة الخاطئة.
(١٣) الإحياء، ج١ ص٤٠.