للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته

الملأ في تونس..؟

بقلم: يحيى محمد رسام

نحن نعلم - من خلال استقراء أحداث تاريخ الصراع بين الحق وحملته،

والباطل وذويه - أنه " ليس من السهل على الذين جعلوا من أنفسهم طواغيت

ومستبدين أن يلزموا الصمت أمام الحق وحملته، وهو يهدد كيانهم، ويقرع أجراس

الخطر في أبوابهم، ويرسل عاصفة على معاقلهم ليخلص الناس من استعبادهم

وجبروتهم، ويعيد للإنسان كرامته وحريته اللائقة به.. ".

ولذلك فهم يلجئون لأساليب متعددة، وطرق متنوعة لمحاربة الحق والمبشرين

به.. وقد جاءت حقائق القرآن مؤيدة لحوادث التاريخ فمن أسالبيهم:

١ - معرفة الحق.. وجحوده:

ومعناه أنه مهما كانت معرفة أهل الباطل وعلى الأخص الملأ من كبار القوم

وأعوانهم، للحق الذي يبشر به ورثة الأنبياء والدعاة إلى الله أكيدة وعميقة في

قلوبهم، فإن ألسنتهم ووسائل إعلامهم تجحدها، أنفة ومكرًا واستكبارًا وظلمًا:

[وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُواً] ..

٢ - قلب الحقائق، وتزييف الوقائع:

فقد عودتنا الأحداث أن الذين في قلوبهم زيغ يقلبون الحقائق، ويزيفون

الوقائع، ويجعلون الجناة ضحايا، والضحايا الحقيقيين جناة، ومجرمين! وهذه

الحقيقة أوضح من أن تحتاج لشواهد وأدلة.. وسنزيدها تأكيدًا بما هو مشاهد في

الأحداث المعاصرة..

٣- رمي المؤمنين بما هم متورطون فيه:

وذلك من أساليبهم -أيضًا - فبدلاً، كما يفرض المنطق، من أن توضع

الأمور في مواضعها، يقومون برمي المؤمنين بما هم واقعون فيه، ومتلبسون به،

فهم مثلاً الذين يمارسون كبت الحريات، وإرهاب الشعوب، والتطرف في معاملة

الخصوم والمخالفين لهم، وهم الذين يسيطر عليهم جنون العظمة، وشهوة السلطة،

فظنًا منهم أن الآخرين مثلهم، يعملون من أجل تحقيق شهوة.. سواء كانت شهوة

حكم أو سلطة أو شهوة مال وشهرة.. فهم لذلك يمارسون عملية الإسقاط المعروفة

في علم النفس في أبشع صورها.. ويستعملون لذلك أساليب التهييج والتحريض،

بكل جرأة وغفلة.. ألم يقل فرعون لموسى وهارون.. وقد جاءا يدعوانه إلى الله

وعدم ظلم بني إسرائيل فرماهم بما هم بريئون منه.. بل وبما هو متلبس به إلى

الأعماق.. فقال لهما: [وتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ] ، ظنًا منه أن موسى

وهارون لو حكما لتكبرا مثله وحاشاهما ذلك.. فهما نبيان لله منزهان عن الكبر

والكبرياء..

٤- ادعاء الحرص وحب الخير لشعوبهم، وإظهار الخوف على ذهاب

مصالحهم:

ولنضرب المثل بفرعون أيضاً، ألم يقل وهو من هو في طغيانه، وظلمه،

وتسلطه واستبداده.. ألم يقل لقومه مظهرًا حرصه عليهم، ومحذرًا لهم من موسى،

ومشفقًا على مستقبلهم: [إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] تمامًا نفس المنطق يكرره الطواغيت في كل مكان.. وفي كل زمان.. [يبدل

دينكم] مؤامرة لنشر الفساد، وإثارة الفتن.. كلام يقولونه في مواجهة شعوبهم..

خوفًا من استجابة هذه الشعوب لورثة الأنبياء، أو سيطرة الحق على قلوبهم ومن ثم

يفلتون من سيطرتهم والانقياد لهم.. إذًا فموسى عليه السلام يريد إظهار الفساد في

الأرض، أما فرعون فإنه مخلص لشعبه يمحض له النصح، ولا يسير به إلا في

الطريق السليم، سبيل الرشاد [مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] وفرعون يمثل في هذا المضمار قدوة للطغاة، ورائدًا لأهل الباطل، بل لقد ... أصبح علمًا على من تكبر وطغى، قديماً وحديثاً.

ومن أساليبهم في مواجهة الحق وأهله اتباع أسلوب آخر وهو:

٥-أسلوب الانتقاص والتسفيه والاستهزاء بورثة الأنبياء:

ولعل هذا الأسلوب من أشد أساليبهم خطرًا، وذلك أنهم " بإظهار عدم

الاكتراث واللامبالاة بالدعاة إلى الله أو بذكرهم، ولكن بأسلوب الاستهانة

والاستهزاء والسخرية، يهدفون إلى التهوين من أمرهم في أعين الناس والتقليل من

مكانتهم أمام الشعوب، حتى لا يتجرأ أحد على الاستجابة لهم، فضلاً عن الاقتداء

بهم، بل حتى لا يصغي لكلامهم، أو يلتفت لدعوتهم ولا يخفى ما في ذلك من مكر

سيئ يراد به صرف الناس عن دعوة الله، وصدهم عن سبيله، بل إنه يحمل في

طياته تلميحًا وإغراء للسفهاء كشأن كثير من الإعلاميين اليوم للنيل منهم وإشاعة

الأباطيل والافتراءات حولهم، حتى تتزعزع الثقة فيهم، فلا يتبعهم أحد. انظر إلى

ما قاله الملأ من قوم نوح عنه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: [قَالَ المَلأُ مِن

قَوْمِهِ إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] وما أجمل وأروع ما علق به أحد العلماء العاملين

على هذه الآية حينما قال: " هل بعد هذا الأسلوب النابي والمبالغة في الطعن حيث

لم يكتفوا برميه بالضلال وهو اتباع غير سبيل الرشاد حتى وصفوا ضلاله بأنه

غاية في الوضوح والإبانة. ومرة أخرى قالوا: [قَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ

إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ] وهكذا رموه بالسفاهة وهي قلة

العقل دون أن يكلفوا أنفسهم بالنظر في أدلة صدقه، ودون دليل معهم، إنما هو

التكبر عن قبول الحق والاستعلاء عن الخضوع والاتباع لدين الله الذي يدعو إليه

ويبشر به.

٦- استشارة الأمة في قتل الدعاة إلى الله:

ثم يأتي في آخر المطاف بعد الحرب النفسية والإعلامية الإفصاح عن ما يبيتونه للحق وأهله، من الاجتثاث من الأرض ومن أصوله، لذلك يلجئون للشعوب لتبرير فعلتهم، فيطلبون من الأمة صورة ديمقراطية وشورية نادرة، السماح لهم بقتل هؤلاء الدعاة. هؤلاء هم الدعاة.. وهم يطالبون بذلك حتى يواصل الشعب سيره في طريق الرشاد والتقدم والرفاهية، وهاهو فرعون يمارس أعلى درجات الديمقراطية ومشاورة شعبه: [ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ] وهل يحتاج فرعون الإذن من شعبه، وقد أصدر حكمه مقدمًا، وهل الشعب في وضع يجعله قادرًا على ممارسة حقه في إبداء رأيه في أي قضية تخصه، أم أنه المكر وخداع الشعوب!

٧- تشابه الأساليب، وتشابه القلوب:

وكما رأينا وكما بين الله لنا تماثل أساليب أصحاب الباطل، قديماً وحديثًا في

الصد عن سبيل الله حتى لكأن أولهم أوصى أخرهم [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَذِينَ مِن قَبْلِهِم

مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] ولكن

الآية تشير إلى وجود علة أخرى غير التواصي، وهي الطغيان فمن طبيعته عندما

يسيطر على القلوب والنفوس، فإنه ينتج عنه نفس الأساليب وتصدر عنه نفس

الانفعالات لمقاومة ومحاربة حملة الحق، وتحذير الناس منهم، ولكن القرآن في

موضع أخر يذكر علة أخرى [تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ] إذًا فهو الطغيان، وتشابه القلوب

في الزيغ والضلال!

وماذا عن الملأ في تونس..؟

إذا تأملنا ما قاله الملأ في تونس في وسائل إعلامهم سنجد دون عناء أنهم قد

كرروا ما قاله الملأ من قبلهم، في مواجهة الدعوة، وورثة الأنبياء، ويكفى مثلاً لما

يردده الإعلام التونسي ضد الدعاة إلى الله من شباب الاتجاه الإسلامي ما نشرته

جريدة العمل التونسية في عددها الصادر في ٤ صفر ١٤٠٨ / ٧ ٢ سبتمبر ١٩٨٧

وفي أماكن مختلفة من العدد، وإن كان أمكر تلك المقالات ما ورد في الصفحة

الأولى تحت عنوان (حتى لا تكون فتنة) .

وقد حشرت المجلة كل الشبهات والدعايات التي مارسها وقالها كل أعداء ... دين الله على مر العصور، مما ذكرناه في أول هذا المقال، ابتداء:

١- من اتهامهم بالتخطيط لإسقاط النظام.

٢- اتهامهم بقلة العقل والسفاهة، وعدم القدرة على التفكير.

٣- وبأنهم أصيبوا بجنون العظمة، والتكبر والهوس في السلطة.

٤- وبأنهم يريدون إقامة نظام على غرار النظام الإيراني الهمجي.

٥- وبأنهم مثيرو فتن، ومظهرو فساد، وأباحوا ما حرم الله من سفك الدماء.

٦- ثم وصفهم العودة إلى الحكم الإسلامي عودة إلى عهود التخلف ... والرجعية وعهود الأمير والحاشية والحريم..!

وأخيرًا بعد هذا كله بالإرهاب والتطرف والشذوذ في فهم الدين.

ثم تأتي الخلاصة وهى المطالبة بالقضاء عليهم من الجذور، فهم ثعبان يبث

سمومه، ولا حل إلا ذلك إن أراد الشعب التونسي أن يسير على درب الرشاد.

ألا ترى معي أن الملأ في تونس يفكرون بعقلية فرعون وملئه، ويرمون

الدعاة بما رمى به موسى، ويظهرون الحرص على مصالح الشعب والسير به في

طريق الرشاد، طريق هامان وفرعون، وبعقلية الملأ والطواغيت، والمتكبرين في

كل زمان ومكان.

تساؤلات:

والآن فهل يمكن أن يكون الدعاة إلى الله من أصحاب الاتجاه الإسلامي في

تونس هم وراء ما زعمته السلطة ووسائل إعلامها وما أسمته بالمغامرة الفاشلة

لإسقاط نظام الحكم، في مسرحية هزلية.

إن الوقائع والأحداث التي سبقت المسرحية الأخيرة أثبتت بوضوح أن الاتجاه

الإسلامي أبعد ما يكون عن مثل هذه الأساليب، وإن تحليلات المطلعين والمراقبين

تشير إلى أن هنالك بعض الفئات من غير الاتجاه الإسلامي وبمعاونة بعض أجهزة

الحكومة أحيانًا وبرضاها وعلى عينها أحيانًا أخرى وراء كثير من الحوادث هناك.

ثم لماذا الربط بين الاتجاه الإسلامي والحكومة الشيعية في إيران، وموقفهم

وبياناتهم معروفة منها، والعالم كله أصبح يعرف موقف الحركة الإسلامية عالميًا من

إيران وثورتها، لولا أنه المكر السيء ضد الاتجاه الإسلامي في تونس.

هل العودة للحكم الإسلامي عودة لعهود التخلف والحريم؟ ! وهل مطالبة

الاتجاه الإسلامي للعودة للحكم الإسلامي وتطبيق شرع الله يمكن أن يسمى تخلفًا

ورجعية وعودة لعهد الأمير وحريمه؟ ! ومن قال ذلك؟ وهل يبقى مسلمًا من

يصف حكم الإسلام، وهو حكم الله، بالتخلف؟ أو يستهزئ بشيء من أوامر الله؟

وهل إذا طالب الإسلاميون بالحرية السياسية لهم كغيرهم ودافعوا عن مواقفهم صاح

بهم المغرضون أنتم مثيرو فتن ولا عقل لكم! .

ثم من هم الذين يفهمون الإسلام على الوجه الصحيح وأنه (دين السماحة

والاعتدال) هل هم الأقلية من الحزب الاشتراكي هناك الذي لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من الشعب التونسي المسلم تحتكر لنفسها مواقع السلطة والنفوذ؟ وتمارس أبشع صور الإرهاب والتطرف من تكميم الأفواه، واستصدار أحكام ... السجن المؤبدة، والإعدام ضد الدعاة إلى الله، من أبناء الشعب، ومارست ولازالت إقصاء الإسلام عن سائر مجالات الحياة، واستبدلته بالأنظمة والقوانين العلمانية الملحدة. هل هي هذه الفئة أم هم العلماء المجاهدون والمخلصون من أبناء تونس ومعهم الأكثرية من الشعب التونسي المسلم.

وهل إذا هب هؤلاء للمطالبة بالحريات وتوسيع قاعدة الديمقراطية والسماح للشعب بممارسة حقوقه السياسية وحماية دينه وأخلاقه! يقال لهم ... مثيري فتن ولا عقل لهم، وإرهابيون ومتطرفون، ويقال للمستبدين والمنحرفين حريصون على الأمة ومصالحها، وأدرى بما يعود عليها بالخير والصلاح والرشاد.

إن ذلك هو التعامي عن الحق بل إنه قلب الحق باطلاً والباطل حقاً.

ومن هو المتطرف والإرهابي والشاذ في فهم الإسلام، هل هو الفئة الواعية

المجاهدة أم العلمانيون والاشتراكيون الذين عزلوا الإسلام عن الحياة، والذين يرون

في أداء فرائض الصيام مثلاً تعطيلاً للإنتاج؟ !

ثم نحن نسأل هل الحزب الحاكم في تونس لازال يحكم تونس نتيجة فوزه في انتخابات شعبية حرة؟ هذا على مسايرة أنه قد جاء إلى الحكم قبل ... ثلاثين سنة نتيجة قيادته لحركة جهادية. هل أعطى الشعب التونسي رأيه للحزب الاشتراكي، وصوت له، أم أن مخططات استعمارية أجنبية هيأت له الأوضاع وقوى عالمية من شرق وغرب ساندته ليحقق لها بعض أهدافها، ... وهو القضاء على الإسلام حصن الأمة الذي تحتمي به، ضد مؤامرات أولئك المستعمرين وتلك القوى العالمية.

وكلمة مخلصة لهؤلاء:

نذكرهم بها ونقول لهم قبل أن يقوم الناس لرب العالمين في يوم لا ريب فيه،

ولا ينفع فيه ومعه الندم.

إن الإسلام ليس دعوى باللسان وفي وسائل الإعلام، وليس شارة يتزين بها

الإنسان أو حتى شعائر تؤدى حينما نشاء! إنما الإسلام التزام بما جاء به رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- من عند ربه، الإسلام تطبيق شامل لكل ما في القرآن

والسنة، الإسلام التزام في حياة الإنسان الشخصية، والتزام في نظام المجتمع،

والاقتصاد والسياسة، وكل نواحي حياة الناس.

ثم نذكرهم بأن العودة لشريعة الله التي لا يعتريها نقص البشر ولا هوى البشر

ولا جهل البشر، لأنها الشريعة الكاملة الشاملة المرنة الصالحة لكل زمان ومكان،

ليس عودة بالمجتمع لعهود التخلف والرجعية، وليست الدعوة للاحتكام للقوانين التي

صنعها للبشر رب البشر؛ رجوعًا بالمجتمعات إلى عصور الانحطاط والكبت

والجهالة.

ثم لا ننسى أن نقول بأن على الجميع أن يدرك بأن هذا الأسلوب من القتل

والتعذيب لن يجدي فتيلاً، ويكفي أمتنا تجارب مريرة، أخفقت فيها كل المحاولات

التي استمرت لأكثر من قرن في مواجهة الحركة الإسلامية.

[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] وإن

الله مظهر دينه، على كل دين ولو كره المشركون. فهل من معتبر؟ [*] .


(*) كتب هذه التحليل قبل التغيرات الأخيرة التي حصلت في تونس.