للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

افتتاحية العدد

دروسٌ من الأحداث

الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أنّ المآسي والنكبات قد اتسع نطاقها

وبدأت تتناثر هنا وهناك، فلا تكاد تخف وطأة الكفر أو الظلم على المسلمين في بلد

من البلدان حتى تفاجأ الأمّة بنكبة أو نكبات جديدة ترقق ما كان قبلها!

وعلى الرغم من الآلام والأحزان التي تملأ قلوب المخلصين، إلا أنّ هذه

المآسي تحمل في ثناياها دروساً عظيمة جديرة بالتأمل والدرس، فبشائر النصر

والتمكين تلوح في الأفق، ومن هذه الدروس:

أولاً: أنّ الأمم والحضارات تمرّ بسنوات قوة وانتشار وتمكين، ثم تنتكس

وتتلاشى تدريجيّاً حتى تموت وتصبح حدثاً تاريخيّاً تطويه السنون، فكم من حضارة

سادت وطغت ولكن الله (عز وجل) أخذها أخذ عزيز مقتدر، قال الله (تعالى) :

[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ *

وَثَمُودَ الَذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ *

فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ]

[الفجر: ٦ -١٤] .

ولكنّ الأمة الإسلامية على الرغم من تتابع القرون، وتكاثر العقبات والهزائم

المتلاحقة التي مرّت بها، إلا أنها بفضل الله وقوته لم تمت وإن ضعفت أو تمزق

بعض أطرافها؛ فهي تملك أعظم مقومات البقاء والثبات.

ثانياً: أنّ الشعوب الإسلامية المعاصرة جرّبت كل ألوان الشعارات الجاهلية،

وظلت تتقلب فيها سنين متتابعة، ولكنها سرعان ما استيقظت من غفلتها، وعرفت

إفلاس تلك الشعارات وزيفها وقصورها، فعادت ثانية إلى هويتها وجذورها

التاريخية، وعرفت طريق العز والتمكين.

وإن الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها متعطشة عطشاً شديداً لهذا الدين

الحنيف، فقد ملّت العبث بها وخداعها وسرقة عقولها ومقدراتها، وأيقنت أنّ

خلاصها الحقيقي إنّما هو باعتصامها بحبل الله المتين.

والأمة المريضة الهزيلة لا يعبأ بها أحد على الإطلاق، ولا يُلقي لها الناس

بالاً، ولا تستحق أن تُقدر أو تهاب، أو حتى يُنظر إليها، ولكنّ الأمّة الحية

المعطاءة حينما تبدأ بالحركة والتململ يهابها الناس، ويحسبون لها حساباً جديداً،

لأنها عادت إلى هويتها الحقيقية معتزة بها، ولذا: فهم يحاولون كبتها وقطع

جذورها ووأدها في مهدها، ويتعاملون معها بكل صلف وظلم وجبروت.

ثالثاً: أنّ ما يصيب الأمة من محن ومآسٍ إنّما هو بسبب خورها وضعفها؛

قال الله (تعالى) : [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا

يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياً وَلا نَصِيراً] [النساء: ١٢٣] ، وقال الله (تعالى) : [أَوَ

لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: ١٦٥] .

والنياحة والتباكي على حال المسلمين لن يُغيّر شيئاً من الواقع، فهي حيلة

العجزة القاعدين الذين يرضون الدنيّة في دينهم.. وليست النائحة الثكلى كالنائحة

المستأجرة..!

وإنّ طريق التغيير والتمكين طريق طويلة متعددة الدروب وعرة المسالك،

يمتحن الله (عز وجل) بها أولياءه، ونصر الله (عز وجل) وفضله إنّما يتنزل على

الصادقين المخلصين؛ قال الله (تعالى) : [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاًتِكُم

مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: ٢١٤] .

وإمامة الشعوب وقيادتها ليست أماني وأحلاماً وشعارات؛ وإنّما تكون ببذل

الأسباب الشرعية المأمور بها في كتاب الله (عز وجل) وسنة نبيه محمد؛ قال الله

(تعالى) : [قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي

الظَّالِمِينَ] [البقرة: ١٢٤] ، وقال الله (تعالى) : [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا

لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: ٢٤] .

رابعاً: أنّ الظهور والغلبة في النهاية إن شاء الله (تعالى) مهما طال الطريق

وكثرت العقبات وزادت المكائد لأولياء الله المؤمنين، وهذا وعد قاطع لا شك فيه؛

قال الله (عز وجل) : [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ

* وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] [الصافات: ١٧١-١٧٣] .

وإن هذه الغلبة والمنعة لا تأتي من ضياع الهوية والذوبان في الغرب أو

الشرق، ولكنها تأتي بعظيم الثقة بالله (تعالى) والاعتماد عليه وحده لا شريك له؛

قال الله (تعالى) : [أَمَّنْ هَذَا الَذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ

الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ

وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ]

[الملك: ٢٠-٢٢]

خامساً: أنّ مكائد الأعداء تتلون وتتغير بتغير المواقف والأحداث، والفطنة

والذكاء يجب ألا تكون مقصورة عليهم، فالمسلم يجب أن يكون متوقد الإحساس،

يقظاً لا تنطلي عليه الأحابيل والدسائس؛ قال الله (تعالى) : [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ

وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] [الأنعام: ٥٥] .

لقد كانت الحكومات العلمانية تعلن الحرب الصراح على الإسلام وأهله،

وتفتح السجون والمعتقلات لمجرّد الانتساب إلى الإسلام والمحافظة على الصلوات،

وجرّبت كل ألوان القمع والتنكيل لإيقاف هذا المدّ المبارك، ولكنها أدركت وبعد

طول تجربة أنها لا تستطيع أن تقف أمام رجالات هذا الدين؛ فالمحن لا تزيدهم إلا

قوة ورسوخاً..! ولهذا: لجأت إلى ألعوبة ماكرة أرادت أن تخدع بها السذج

والبسطاء، ألا وهي التترس بالإسلام ورفع شعاره بين الناس..! !

ولكنه الإسلام المعدّل (المرمّم!) الذي قصت أجنحته، ومُسخت معالمه

وضاعت هويته.. ليتلاءم في النهاية مع الأطروحات العلمانية، ويقف معها في

خندق واحد..!

إنه إسلام الدروشة والطرقية.. إسلام الأضرحة والمزارات والأهازيج

الدينية..!

إسلام الأحوال الشخصية وحسب..! !

قال الله (تعالى) : [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم

بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي

قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُُمْ عَذَابٌ أََلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون] [البقرة: ٨،١٠]

وقال الله (تعالى) : [وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ

خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]

[المنافقون: ٤] .

فالله نسأل أن يعز دينه ويعلي كلمته، وأن يرينا في أعداء هذا الدين ما تسر

به نفوس المؤمنين، حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر..

والله من وراء القصد..