للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هموم ثقافية

رؤية إسلامية لـ: إشكاليات مفهوم الديمقراطية

بقلم: سامي محمد صالح الدلال

الديمقراطية كلمة أجنبية، جرى عليها قلم التعريب؛ فهي في لغة قومها

Democracy ومعناها: السيادة للشعب، وتطبيقها العملي يعني: أن يحكم

الشعب نفسه بنفسه عن طريق ممثلين له في مجلس ينتخبه يطلق عليه: (مجلس

الشعب) أو (مجلس الأمة) أو (المجلس النيابي) أو غير ذلك من الأسماء المعبرة عنه.

ولا أريد أن أتكلم هنا عن الغور التاريخي الذي تبلورت من خلاله الديمقراطية

المعاصرة، كما إنني لا أريد أن أفصّل في أنواع الديمقراطية، سواء أكانت سياسية

أو غير سياسية، ولكن أريد أن أشير إلى أهم المعاني التي ينطوي عليها مفهوم

الديمقراطية، وذلك من خلال الإشكاليات التي تغلف أزمة تبعثر ذلك المفهوم في

أوساط الداعين إليها.

وسيكون حديثي من خلال الإشارة إلى ست إشكاليات، تتضمن كل منها عناصر متعددة:

الإشكالية الأولى:

مبادئ الديمقراطية:

طالما أن المحصلة النهائية للإيقاع الديمقراطي هي حكم الشعب بالشعب، فإن متطلبات ذلك تدفع إلى السطح بأربعة عناصر رئيسة تؤلف فيما بينها النغم الأخير.

- العنصر الأول (الحرية) :

إن الحرية في المجتمع الديمقراطي تتعدى كثيراً ذلك التقييد الذي ذكره الدكتور

علي الدين هلال في بحثه المعنون (مقدمة الديمقراطية وهم الإنسان العربي

المعاصر) عندما حصرها بقوله: الحرية، أي: احترام الحريات المدنية والسياسية

للمواطنين؛ الحريات المدنية مثل: الحريات الشخصية، وحرية الانتقال،

والزواج.. والحريات السياسية مثل: حرية التعبير والرأي والحق في الاجتماع والتنظيم.. [١] .

إن جميع ما ذكره منطو في مفهوم الحرية في المجتمعات الديمقراطية، لكن

المفهوم الشامل عند أصحابها أعمّ من ذلك؛ فهي حرية مطلقة، لا يقيدها دين

سماوي، بل تسورها قوانين أرضية غير متفق على نصوصها، فهي أسوار

متحركة، لها مسارات متعرجة بحسب البلاد والمجتمعات.

وعندما تكون الحرية مبتوتة التحديد عن دين الله الذي هو الإسلام، فإن تقييد

إطلاقها سيكون خاضعاً لعقول البشر وأهوائهم، ومن هنا: ستختلف معاني الحرية

بحسب ذلك، وبناء عليه: فإن مفهوم الحرية في النظام الاشتراكي مغاير لمفهومها

في النظام الرأسمالي، وفي داخل المنظومة الاشتراكية: فإن مفهومها في الصين

مثلاً قد تراه مغايراً لمفهومها في كوبا، ومثل ذلك يقال في إطار النظام الرأسمالي،

فإن مفهوم الحرية في فرنسا مثلاً قد تراه مغايراً لمفهومها لدى ألمانيا، ويعود سبب

اختلاف المفاهيم إلى تراكم ظروف حياتية وموضوعية أدت في النهاية إلى صياغة

قوانين متغايرة، سواء في إطار المنظومات العقدية (كالاشتراكية والرأسمالية) ، أو

في إطار مكوناتها (أي: الدول التي تنتظمها) .

وبسبب ذلك: فإن ممارسة الحرية في تلك الدول أو المجتمعات لن تكون

بالقدر نفسه.

إلا أن القاسم المشترك بينها جميعاً هو انبتاتها عن التقييد الرباني، فالحرية

الجنسية والحرية الاقتصادية والحرية السياسية والحرية الثقافية والحرية الاجتماعية

والحرية الفكرية والعقدية: جميع تلك الحريات وغيرها هي حريات يطلق للشعب

أسلوب التعبير عنها، كل بطريقته وذلك من خلال الأطر التي يضعها ممثلوه

المنتخبون.

إن مهمة المجلس النيابي في الظاهر هي إيجاد الأوضاع التشريعية التي من

خلالها تُمارس الحرية المنوه عنها بما يكفل المصلحة لأفراد الشعب، وبما أن مفهوم

الحرية ليس محدداً وموحّداً لدى أولئك الممثلين للشعب، فإن الصيغة النهائية ستكون

محصلة تغلّب أصوات أصحاب مفهوم معين على أصوات أصحاب مفهوم آخر،

وحتى تلك الصيغة النهائية لن تكون سوى حلول وسط لدى أصحاب المفهومين،

وكل ذلك ليس بالضرورة أن يكون معبراً عن وجهة نظر الشعب.

ولما كان الأمر يغذ السير في هذا الاتجاه؛ فإن مفهوم الحرية لن يبقى ثابتاً،

سواء لدى الأفراد، أو المجتمعات، ومع تطور أو تغير مفهوم الحرية تتطور أو

تتغير المفاهيم الديمقراطية، ومثال ذلك: ما ذكره الدكتور إسماعيل صبري عبد الله

في بحثه المعنون (المقومات الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية في الوطن العربي) ، إذ قال عن تطور مفهوم الديمقراطية الغربية: كانت أولى خطواته: هي حق

تكوين النقابات، ثم الأحزاب، وظل هذا الحق مرفوضاً في فرنسا بالذات إلى ما

قبل مائة عام. الخطوة الثانية كانت: حق الاقتراع العام، وهذا المبدأ لم يسر

بصفة عامة إلا في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحالي. الخطوة الثالثة في

ذلك كانت: الاعتراف بالحقوق السياسية للمرأة، وهذا حدث قريباً جداً؛ في فرنسا

لم تنل المرأة الحقوق السياسية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، سويسرا ما زالت لا

تعطي للمرأة الحقوق السياسية حتى الآن. الخطوة الرابعة كانت: الاعتراف بحق

الأحزاب وبحق العمال في التأمينات الاجتماعية، وبالذات التأمين ضد البطالة [٢] .

وكما أن الحرية الفردية المبتوتة عن الإطار الإسلامي غير متفق على تحديد

أبعادها لدى الديمقراطيين، مما أعطاها صفة الإطلاق عند النظر إليها من حيث

العموم، فإن الحرية بمعناها الأشمل تتوفر لها هذه الخصائص نفسها [٣] في

المساحة الجماعية التي تمثل الحرية الفئوية.

ففئة العمال لهم فهم للحرية ليس بالضرورة أن يتطابق مع فهم فئة الموظفين

لها، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن فئة الفلاحين، وعن فئة المثقفين، وعن فئة

السياسيين.. وهكذا.

ومن هنا: تتبنى كل فئة إطاراً يُعبّر عن فهمها للحرية تتحرك من خلاله،

فانبثقت من مضامين هذا التصور مسميات منوعة هي عناوين معروفة لتلك الفئات، مثل: النقابات، والأحزاب، والهيئات، واللجان ... وسواها، تتوسّم كل فئة أن

تمارس فهمها للحرية تحت شعار عنوانها.

ونظراً لأن هذه الحرية لها صفة الإطلاق: فإن كل فئة تنزع إلى توسيع دائرة

حركتها في تلافيف تلك الصفة المطلقة لمفهوم الحرية بما يجعلها تتجاوز مساحاتها

إلى مساحات الفئات الأخرى، فيقع الصدام الذي تنشأ عنه طاقات شعورية وعاطفية

لها منحى الدفع باتجاه التوسع على حساب الآخرين مما يسبب ضحايا بشرية ومادية، والتي مهما عظمت فإنها تبقى دون الآثار السلبية المترتبة على الشقاق والافتراق،

مما يؤدي إلى بعثرة الأمة وإضعافها باسم ممارسة الحرية! ! .

ومن هنا: فإن عنصر الحرية الذي هو المبدأ الأول في الديمقراطية، عندما

ننظر إليه من خارج المنظور الإسلامي نراه متردّياً في إشكاليتين رئيستين:

إشكالية تحديد مفهومه في مجالاته الفردية.

إشكالية تحديد مفهومه في مجالاته الجماعية.

إن مجرد وجود هاتين الإشكاليتين كاف لجعل الريح تهوي بالديمقراطية إلى

مكان سحيق! ! .

- العنصر الثاني (المساواة) :

ولها وجهان (إفرازي) و (تنفيذي) ، ولكل وجه ما يناسبه من المناقشة

والتحليل.

الوجه الإفرازي: وهو الوجه الذي من خلاله يُفرَز النواب الناجحون في

الانتخابات فيدلفون المجلس، وبموجب المساواة: فإن جميع الناخبين بغض النظر

عن مستوياتهم الثقافية وخبراتهم الحياتية لهم وضع متساوٍ في الإدلاء بأصواتهم

لصالح مرشحيهم، ولكل فرد صوت واحد فقط، إما لصالح مرشح واحد أو لصالح

قائمة من المرشحين. وفي هذه الحالة يتساوى صاحب شهادة الدكتوراة العلمية مع

العامي الجاهل الذي لا يعرف كيف يتوضأ، في إدلاء كل منهما بصوته لصالح

مرشح أو قائمة مرشحين! ! ويتساوى العالم الفاضل التقي مربي الأجيال في الإدلاء

بصوته مع بنت الهوى التي تعرض مفاتنها في الملاهي الحمراء، ويتساوى

الإداري صاحب العقل المنظم وواضع برامج التعليم أو التنمية في الإدلاء بصوته

مع جامع القمامة الأمي، ويتساوى مدير المدرسة أو رئيس الجامعة في الإدلاء

بصوته مع الطالب الناشيء الذي يدرّسه. وعندما تفرز الأصوات ربما يفوز مرشح

بسبب صوت أدلى به الأمي على مرشح آخر جلّ أصوات ناخبيه من المثقفين.

ففي هذه الإشكالية أطاحت مساواة الأصوات بأهمية ثقل الكفاءات.

ثم نُيمّم وجوهنا شطر ناحية أخرى، وهي انعدام المساواة في قدرات

المرشحين في دعاياتهم الانتخابية، فربّ صافق في الأسواق لا يكاد يخط اسمه

يفوز بعضوية المجلس على حساب مربّ عريق بسبب تفاوت القدرات المالية،

وأحياناً ربما بسبب الانتماءات الحزبية أو التعصبات القبلية، فهذه إشكالية أخرى

إزاء دعوى المساواة! ! .

الوجه التنفيذي: وهو الوجه الذي يكتسب من خلاله النواب واجهات اجتماعية

ومواقع نفوذية بحكم موقعهم، لا بحكم القانون، ففي الواجهة الاجتماعية قد يلقى

النائب الأمي من الترحاب في المجالس والدوائر الحكومية والمؤسسة الشعبية ما لا

يلقاه العالم الجليل المجتهد أو صاحب رسالة الدكتوراة المتفوق صاحب الأبحاث

والدراسات، لا لشيء سوى لأن الأول نائب في مجلس الشعب والآخر ليس كذلك،

بل الأنكى من ذلك: اندفاع الناس لتنفيذ أوامر ذلك النائب الأمي، وأحياناً لا تكون

أوامر بل إشارات، بمقابل عدم اكتراث أولئك الناس بحضور العالم مجلسهم،

فضلاً عن أن يصدروا عن أمره! ! .

وأما من ناحية النفوذ: فإن أتباع النائب وأنصاره يحظون بالمكاسب المادية

الناشئة من توليهم الإدارات ومراكز متقدمة سواء في الحكومة أو الشركات، أو

الناشئة من استلالهم لأحقية تنفيذ المناقصات ذات الأرقام الفلكية، أو من تمكنهم من

اصطناع أفكار وهمية يجسدونها بمؤسسات اقتصادية يجعلونها غطاءً لابتزازاتهم

المالية ... وهكذا.

إن جميع ذلك مقتصر على حضرات النواب أو من كان في حكمهم كالوزراء، دون غيرهم ولو كانوا علماء فضلاء أو عاملين نجباء.

إن الديمقراطية تقف عاجزة إزاء حل إشكالية لعنصر من أهم عناصرها،

وهو عنصر المساواة.

- العنصر الثالث (التمثيل النيابي) :

على أعتاب التمثيل النيابي تتصارع الأهواء، تارة لابسة لبوس الحق أو

ملتبسة به، وتارة متدرعة بالأفكار الزائفة والآراء الباطلة، التي يخيل لمستمعيها

من سحر بهرجة إعلام الداعين إليها، أنها نور يتلألأ يضيء الظُلمة، أو ماء

رقراق يروي غليل العطشان! ! إلا أنّ انبلاج الأمر يسفر عن زيف هذا وذاك

معاً! ! . وهذا لا يقحمنا في إشكالية واحدة، بل يزجّ بنا في حقل إشكاليات، هذه بعض مظاهرها وأنواعها:

١- ممارسة الحق الإلهي: إن نواب المجلس النيابي يمارسون التشريع على

وجه الاستقلال عن أي قيد يحدّ من ذلك، وهم يفعلون هذا ضمن صلاحياتهم

الممنوحة لهم من الدستور، والتي بموجبها يُحِلّون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون، مما ليس فيه حق للبشر، إذ إن التحليل والتحريم حق خاص لله (تعالى) ، ففعلهم

ذاك هو ممارسة لحق إلهي ينقض عقيدة لا إله إلا الله، ويحل محلها عقيدة: لا إله

إلا المجلس النيابي! !

٢- الأقلية والأغلبية: وينظر إليها من زاويتين: (عامة) و (خاصة) .

فأما العامة: فإن نواب المجلس عند التحقيق لا يمثلون أغلبية الأمة بل يمثلون

أقليتها؛ فالمجلس لا يصل إلى عضويته إلا من كان غنيّاً، بنفسه أو بقومه، ولو

كان جاهلاً أو سفيهاً، أو كان وجيهاً بنسبه أو بصدارته قبيلته أو عشيرته أو طبقته

أو فئته، ولو كان صاحب هوى أو فكر منحرف، أما المتوسطون من الشعب وهم

الأغلبية الحقيقية فلا ممثل لهم.

وأما الخاصة: فإن تشريعات المجلس تصدر بالأغلبية النيابية، وعند إعمال

النظر النزيه يتضح جليّاً أن النجاح سيكون حليف القضية المعروضة إذا كانت

مكرسة لمصالح الأغلبية المجلسية، ومشتتة أو ملغية لمصالح المعارضين.

٣- الاستمرار والحل: قرار استمرار عمل المجلس النيابي أو حَلّه يقبض

على مفتاحه رئيس البلاد، الذي هو في الواقع رأس هرم مراكز القوى فيها، إن

لعبة شد الحبل بين المجلس والحكومة (وهي التي تمثل مراكز القوى إما بأشخاصها

أو برئيسها) تتم غالباً من جانب واحد. وعندما يشد المجلس الحبل في اتجاهه

فيصوبه إلى الخط الأحمر يصدر فوراً قرار الحل.

وتعاد اللعبة من جديد! ! وفي الدول الإسلامية ذات النظام الديمقراطي فإن

الخط الأحمر غالباً ما يتمثل باختلال توازن تشكيلة المجلس بما يمكّن من تمرير

المطالبة بتحكيم الشريعة الإسلامية! ، إن هذه الإشكالية واحدة من الصخور الصلداء

التي تتهشم على نتوءاتها جهود الإسلاميين النيابيين التي يهدرون زمناً طويلاً في

حشدها بغية تحقيق الحلم المتمثل في الوصول إلى تحكيم شرع الله من خلال

المجلس النيابي! ، ومن المؤسف أن نقرر أن الإشكالية البارزة هنا هي: أن أولئك

الإسلاميين لم يدركوا بعد أنهم يحرثون في الهواء ويزرعون بذور الوهم، فهل

سيحصدون سوى الخواء! !

٤- الجزئية الكلية: إن مسحاً شاملاً لمكونات شعب من الشعوب سيظهر فيه

عدداً من الأديان والطوائف والقبائل والمهن والطبقات والأجناس وغيرها، وكل

واحدة من هذه المكونات تتألف من شعب وبطون وأفخاذ واختصاصات وأعراق،

منها كلها أو من بعضها، وإن المجلس النيابي مهما كان الإعداد له دقيقاً فإنه يقصر

عن إيجاد الصيغة العادلة للتمثيل الكلي لتلك المكونات، ولذلك: فإن حقيقة ذلك

المجلس لا تتجاوز تمثيل أجزاء من تلك المكونات من استيفاء دعوى الكلية، مما

يحمل في طياتها معنى البهتان، ويُلحق بها وزر الافتئات.

٥- قصور التخصصات: ما إن ينعقد المجلس النيابي حتى يشرع في تكوين

لجانه المختلفة، ولكل لجنة تخصص محدد، ويخضع تعيين أعضاء كل لجنة في

الغالب إلى مزايدات الأحزاب والفئات التي يتشكل منها المجلس، وقد يحدث أحياناً

أن يكون جميع أعضاء اللجنة ليس بينهم نائب واحد يحمل التخصص الموكول لتلك

اللجنة تمثيله! ! مما يؤدي إلى استعانة اللجنة برجال متخصصين من خارجها! ! .

٦- انخفاض المستويات: بما أن المجلس النيابي يضطلع بمسؤوليتي الرقابة

والتشريع، فإنه بحاجة إلى مستويات ثقافية ذات ارتقاء تخصصي وخبرة تنفيذية

تمكنه من أداء دوره، إلا أن الانتخابات النيابية بأساليبها الالتفافية تدفع إلى كراسي

المجلس بتشكيلة عجيبة، بينهم من لا يعرف كيف يكتب اسمه ومن لا يحسن سوى

بيع بعض الخضروات، فما هو دور هؤلاء البسطاء في الرقابة والتشريع؟ ! ،

وإذا ادعى بعض الإسلاميين أنهم سينجحون في تمرير التشريعات الإسلامية من

خلال: المجلس فكيف يكون هذا ومعظم إن لم يكن كل تخصصات النواب لا علاقة

لها بالشريعة ولا يعلمون شيئاً عن أصول التشريع الإسلامي؟ ! .

٧- العام والخاص: رغم أن عضوية المجلس النيابي تكليف لأداء العمل العام، فإن كثيراً من أعضائه يبتزونه لصالح النفع الخاص، إما لهم أو لأقاربهم أو

لقبائلهم أو لمعارفهم، ويتم ذلك كله في إطار القانون والحصانة البرلمانية، وبالتالي: يتحول أداء كثير من النواب من الخدمة المؤسسية إلى المصلحة الشخصية.

٨- ضياع مصالح الأمة: ما إن يسند أعضاء المجلس النيابي المنتخب

ظهورهم إلى كراسيهم المجلسية الوثيرة، حتى يبدأ تشكيل الدوائر الشللية، سواء

حزبية أو قبلية أو مصلحية، وكثيراً ما يرتفع صراخ المهاترات ويتراشق الجميع

بالاتهامات، وتحتدم المعارك الصوتية وتعلو النبرات وتنتفخ الأوداج، وكأن قاعة

المجلس ساحة حرب، (صبّحكم مسّاكم) فإذا حمي الوطيس رأيت كراسي تطير في

الهواء وقبضات تتوجه نحو الوجوه، وأخذاً بالتلابيب ورشقاً بالأحذية (كرمكم الله)

مما يستدعي تدخل الآخرين لفك الاشتباك بعد أن استبد بالجميع الإنهاك! ! فكيف لا

تضيع مصالح الأمة في خضم أمواج تلك الخزعبلات؟ ، وقد شاء الله أن أرى

واحدة من تلك المسرحيات، أقصد الجلسات، منقولة على الهواء مباشرة عبر

قنوات التلفزيون في إحدى البلاد الإسلامية.

٩- التسرّب والتسريب: تعتبر المجالس النيابية فرصة لا تعوض يستغلها

أعداء الأمة لتسريب عملائهم بشكل قانوني، ومن خلال انتخابات معترف بها محليّاً

ودوليّاً إلى تلك المجالس، ومن خلال أولئك النواب المسرّبون تتسرب جميع أسرار

الدولة إلى أعدائها دون أن يتجرأ أحد على اختراق الحصانة البرلمانية لإيقاف تلك

المهزلة! ! بل يستطيع أولئك المسرّبون أن يؤثروا على قرارات الدولة لصالح

أسيادهم! ! .

١٠- استغلال المنبر المجلسي: يتخذ أصحاب الأديان والطوائف من المجلس

النيابي منبراً يدعون من على أعواده لأديانهم وطوائفهم ويستعملونه ستاراً لتمرير

ودعم أتباعهم وأنصارهم، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهكذا تتمكن مؤسسات

تلك الأديان والطوائف من الاستفادة من مؤسسات الدولة والقطاع الخاص بما تلاقيه

من تغطية نيابية محصنة.

١١- الهاجس! ! : إن تحليلاً دقيقاً لتصرفات معظم نواب المجالس النيابية

سيشير بما لا يدع مجالاً للشك أن هؤلاء النواب يباشرون أعمالهم المجلسية وفي

نفوسهم هاجس الترشيح للانتخابات القادمة، ولذلك فإنهم يدرسون تصرفاتهم

ويوجّهونها بما لا يؤدي إلى وقوفها عائقاً دون آمالهم النيابية المستقبلية، إن هذا

الهاجس قد يجعل بعض النواب يقفون حجر عثرة أمام مشاريع القرارات التي يعيق

تأييدها احتمال فوزهم في المجلس المقبل، حتى وإن كانت تلك المشاريع

المعروضة على المجلس فيها مصلحة للأمة وتوطيد لكيانها.

١٢- الانتهازية: تسعى بعض الأنظمة إلى عرض الوزارة على بعض

الفائزين في الانتخابات، وهنا ينتهز النائب الذي تعرض عليه الوزارة الفرصة

للمفاضلة بين أيهما ألمع جاهاً وأوسع كسباً، آلوزارة أم النيابة؟ ، فأيهما رجحت

في ذهنه كفتها بادر باختيارها، وأحياناً تكون الانتهازية حزبية وليست شخصية؛

فيبادر الحزب الممثل في المجلس إلى دفع أحد أعضائه للمشاركة الوزارية أو

النيابية حسب ما تقتضيه مصلحته الحزبية.

١٣- التلوّن والبرمجة: إن كثيراً من المرشحين النيابيين يلوّنون أفكارهم

ويبرمجون تصرفاتهم بحسب ما يودّه منهم ناخبوهم، فإن كان ذلك يقتضي منهم

الصلاة صلوّا! ! ، أو الزكاة زكوّا، أو العربدة عربدوا! ! . إنهم يلبسون لباس

الجماهير ويكتحلون بلون كحلهم! ! .

تلك كانت ثلاث عشرة إشكالية فرعية في موضوع التمثيل النيابي في المفهوم

الديمقراطي، وكل واحدة منها كافية لهدم الهيكل وتقويض البناء، فكيف لو أضفنا

إليها إشكالية الصراع بين النواب وبين الحكومة (التي تمثل مراكز القوى الحاكمة

والمسيطرة) ، وإشكالية دور الإعلام المحلي والوافد في صياغة توجهات الناخبين

وأفكارهم، وإشكالية الدعم المالي والمعنوي الموجود والموعود الذي يدفع ببعض

المرشحين نحو الصدارة، وغير ذلك من الإشكاليات الفرعية الأخرى ... لا شك أن

ذلك سيزيد الصورة قتامة ويكسي الواقع سواداً.

- العنصر الرابع (الواقع الدستوري) :

لم أقل الدستور، بل قلت الواقع الدستوري، وأقصد به الدستور وما يكتنفه

من ملابسات، وتلفه من ظروف، وتنجم عنه من إفرازات، ومن أهمها:

١- مصلحة الزعيم: سواء أكان رئيساً أو غير رئيس.

فالدستور لابد أن يلبي مصلحة الزعامة، وعلى الديمقراطية أن تكيّف أحوالها

لأداء خدمة تلك المصلحة، وينبغي أن تصاغ بنود الدستور في ذلك الإطار، فإذا

اقتضت مصلحة الزعامة حل المجلس يُحلّ، وينبغي أن تلبي مواد الدستور تلك

الرغبة الزعامية، وإذا اقتضت تجميده يجمّد، أو إلغاءه يُلغى، وكل ذلك بتغطية

دستورية. وإذا عجزت صيغ الجمل الدستورية عن القيام بتلك التغطية فإن الدستور

يُعدّل وينقح خدمة لعين الزعيم.

وفي بعض الأحيان لا يحتاج الزعيم لأي من هذا كُلّه؛ فيدوس فوق الدستور

ويمضي قُدماً لتحقيق مصلحته، دون أن ينسى القول: إن الذي فعله ليس إلا

لمصلحة البلاد وسعادة العباد! ! .

[مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] [غافر: ٢٩] .

٢- مزاج الزعيم: نعم مزاجه! ! فالواقع الدستوري يخضع أحياناً لأمزجة

الزعماء وأهوائهم، والزعيم ليس مطالباً بتبرير قراراته، فقد جعله بعضهم في مقام

من لا يُسأل عمّا يفعل! ! .

وإن استفسرت عن ألوان أمزجة أولئك الزعماء: فما عليك إلا النظر إلى

ألوان الطيف الضوئي وما يمكن أن يستجد من ألوان أخرى بخلط بعضها ببعض،

فأمزجة الزعماء قد تبدأ باللجان الشعبية، وتمر بمناجل الفلاحين، واتحاد القوى

العاملة، وأصناف النقابات، وشعارات الأحزاب، وكراسي مجلس الشعب.. وقد

تنتهي عند إشارات الدستور ومقتضياته ومفهوماته بل ونكهاته، وقد لا تنتهي.

٣- إرادة الدول الأجنبية: إن كثيراً من الدول الديمقراطية هي في الواقع في

إطار النفوذ الأجنبي رغم علم الاستقلال الذي يرفرف فوق مؤسساتها الرسمية،

ويبقى موضوع استمرار الديمقراطية فيها أو إيقاف عجلاتها منوطاً بإرادة تلك الدول

صاحبة النفوذ، الذي له أوجه متعددة، منها: النفوذ الاقتصادي، والنفوذ العسكري، والنفوذ السياسي.. وغيره من ألوان النفوذ، وكل لون من تلك الألوان له حظه

في التأثير على الصيغة النهائية للواقع الدستوري، بما في ذلك القرار السياسي

المتعلق بالعلاقات الخارجية، أو القرار الداخلي المتعلق بالإجراءات الأمنية، أو

القرار الاقتصادي المتعلق بالميزانية العامة للدولة أو ...

٤- تعليق الحريات: إن بعض الأنظمة عندما تريد بلورة الواقع الدستوري

حسب رغباتها ومقتضيات مصالحها تلجأ إلى اعتقال المناوئين ومصادرة حرية

كلمتهم أو تعليقها بما لا يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات الدستورية، وبالتالي

يفقدون فرصتهم المتاحة للوصول إلى المجلس النيابي ويتم تعليق الحريات

المعارضة للنظام في إطار الدستور الذي ينص على أن الحريات الشخصية مكفولة

في إطار القانون، وهؤلاء المعتقلون قد خالفوا القانون، أي النظام، فلابد من تكميم

أفواههم ووضع الأغلال في أيديهم، ليهنأ الزعيم وينام على فراشه الوثير! ! .

٥- مراكز القوى: وهي جماعات الضغط التي ترى أن يُفصّل الدستور بما

يحقق مصالحها ويُدعّم نفوذها، كما أنها تتخذ من مظلة الدستور مواقع انطلاق في

داخل المجلس النيابي وفي خارجه لحماية مكاسبها الذاتية؛ ولذلك تراها تضع

العراقيل أمام أي مشروع قرار يحول بينها وبين أهوائها ومطامحها الابتزازية، وإذا

فشلت نصوص الدستور في توفير تلك المظلة سعت جماعات الضغط إلى تنقيحه

واستبدال بعض فقراته لتناسب تحقيق آمال وأهداف مراكز القوى التي تشمل

فعاليات سياسية واقتصادية وعسكرية.

٦- المحاباة: تلجأ بعض الفئات، بصفتها الحزبية أو الشخصية إلى محاباة

وتملق النظام الحاكم، إما بالدفاع عن دستوره أو بمؤازرة رموزه، رغم أن ما

ترفعه من شعارات لا يسمح لها بهذا ولا بذاك. وللأسف إن هذا الوصف ينطبق

على بعض الجماعات الإسلامية أو الأفراد الإسلاميين المتورطين في حمأة المجالس

النيابية؛ فرغم أن دستور بلادهم علماني، مجافٍ للشريعة، بل مضاد لها، فإنهم

يدعون إلى احترام ذلك الدستور المضاد لتنزيل رب العالمين ولسنة خاتم المرسلين،

محاباة للنظام، ويتسامرون مع رموزه تملقاً لهم، أو انتهازية منهم. وإذا أردنا

دراسة الواقع الدستوري والمؤثرات التي تحيط به وتبلور توجهات فهم نصوصه أو

تنقيحها فإنه لا يسعنا أن نغض الطرف عن إحصاء أصوات النواب المحابين

والمتملقين! !


(١) كتاب الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي: ص١٠، مطبوعات مركز دراسات الوحدة العربية.
(٢) المصدر السابق: ص١١١.
(٣) أي عدم تحديد الأبعاد.