للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات اقتصادية

وقفات متأنية مع..

عمليات التمويل في البنوك الإسلامية

(١)

د. محمد بن عبد الله الشباني

مدخل:

البنوك الإسلامية مظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية المعاصرة، بُذلت

الجهود والأموال في سبيل قيامها لتؤدي دورها في أسلمة الاقتصاد، ولم يسلم هذا

التوجه من نقد فريقين: الأول: العلماء المخلصون الذين يطالبون بالتصحيح

واستقامة العمل على الطريق الشرعي، وألا يكون البنك الإسلامي مجرد شعار

استهلاكي فقط.

والثاني: العلمانيون المغرضون الذين يهاجمون تجربة البنوك الإسلامية

لأسباب مشبوهة لا تخفى.

وكاتب هذه الدراسة ليس غريباً على هذا التخصص، فله دراسات وأبحاث

علمية من أشهرها كتاب: (بنوك تجارية بدون ربا) .. ويهدف بهذه الدراسة إلى

النصح والعمل الجاد لإنجاح هذه التجربة التي لم تعد تمثل أصحابها بقدر ما تمثل

الاقتصاد الإسلامي ومنطلقاته الشرعية.

ومجلة البيان ترحب بالتعقيبات التي تثري البحث وتعالجه من زوايا مختلفة.

- البيان -

تمثل البنوك الإسلامية الأمل الذي يتطلع إليه المسلم لتنظيم نشاطاته

الاقتصادية على ضوء ما يأمر به القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فيجد المؤسسة

التمويلية التي تلبي احتياجاته المالية ضمن إطار الشريعة الإسلامية.

والواقع المأساوي للعالم الإسلامي يتمثل في الانفصام النكد بين العقيدة وما

توجبه من أحكام تشريعية تنظم حياة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وبين

التنظيمات والتشريعات التي فُرضت على الشعوب الإسلامية نتيجة الاحتلال

النصراني للبلاد الإسلامية وسقوط رمز الدولة الإسلامية الموحدة للعالم الإسلامي

على يد كمال أتاتورك وبروز قيادات سياسية قامت بتبني النموذج الغربي في

التشريع والتنظيم، ومن ذلك: قيام النظام الاقتصادي على الفلسفة الربوية التي يقوم

عليها نظام الاقتصاد العالمي.

إن بداية الرغبة في الخروج عن الربا وتأسيس بنوك إسلامية تعمل على

الابتعاد في تعاملها عن الربا بدأ في الستينات من هذا القرن، ولا زالت التجربة

البنكية الإسلامية تعاني كثيراً من القصور والمحدودية، ويبرز كثير من التساؤلات

حول مدى شرعية كثير من العمليات التمويلية التي تمارسها البنوك الإسلامية.

في هذه الحلقة سوف أوضح الظروف التي تمارس البنوك الإسلامية فيها

أنشطتها البنكية والمعوقات التي تحول بين قيام نظام بنكي إسلامي سليم يمثل في

منطلقاته النظرية والتطبيقية روح الشريعة الإسلامية، وفي الحلقات القادمة سوف

أتطرق إلى بعض العمليات التمويلية التي تمارس من قِبَل البنوك الإسلامية أو

غيرها من البنوك الربوية التي امتطت صهوة الرغبة لدى جمهور المسلمين بالابتعاد

باستثماراتهم ومدخراتهم عن الربا، فأوجدت ما أطلق عليه صناديق التجارة حيث

اسْتُقْطِعَ جزءٌ من المدخرات لما تدعيه من قيام هذه الصناديق بالاتجار بالأموال

المشتركة فيها بعيداً عن الربا المحرم.

إن مناقشة الظروف وبعض المعوقات التي تحد من نشاط البنوك الإسلامية

ومن قدرتها على ممارسة العمليات البنكية من منطلقات إسلامية: سوف تساعد

القارئ على معرفة الأسباب التي تحد من انطلاقة هذه البنوك لخدمة المجتمعات

الإسلامية، وإبعادها عن محق الربا الذي تعيشه هذه المجتمعات في واقعنا الراهن،

ويمكن تحديد أهم المعوقات التي تحد من نشاط البنوك الإسلامية وتحرفها عن

ممارسة العمل البنكي السليم المنضبط بضوابط الشريعة في الأمور التالية:

أولاً: النشاط البنكي يمثل الجانب التطبيقي لجانب من جوانب النظام

الاقتصادي، وبالتالي: فالنشاط البنكي يتأثر بالمنهج الذي يقوم عليه البناء

الاقتصادي، وعلى هذا: لا يمكن عزل أعمال البنوك عن أن تسير وفق ما

يستلزمه النظام الاقتصادي؛ من ضرورة أن تمارس البنوك ميكانيكية السياسات

النقدية والمالية التي ترسم من قِبَل الأجهزة الإدارية القائمة على تنفيذ النظام

الاقتصادي، ومن المعروف أن الفائدة (الربا) تمثل الأساس الذي يقوم عليه النظام

الاقتصادي العالمي المعاصر، وبالتالي: فإن البنك الإسلامي الذي يمارس نشاطه

ضمن إطار هذا النظام الاقتصادي في دول يقوم نظامها الاقتصادي على جواز أخذ

الفائدة الربوية واستخدامها أداةً لتوجيه حركة الأموال (السياسة النقدية) ، لتنفيذ

السياسة المالية المرسومة من قبل الأجهزة الاقتصادية للدولة: سوف يعاني من

مشكلة المواءمة بين سياساته البنكية التمويلية التي يمارس من خلالها نشاطه البنكي

القائم على أساس منع أخذ الفائدة وإعطائها والسياسة البنكية المرسومة من قبل البنك

المركزي الذي يشرف على أعمال البنوك ويوجهها وفق السياسات النقدية والمالية

التي ترسمها الأجهزة الاقتصادية للدولة التي يمارس البنك الإسلامي نشاطه فيها.

إن هذا الواقع يدفع البنك الإسلامي إلى اتباع مناهج تطبيقية في التمويل

تتوافق مع أسلوب الفائدة في عمليات الإقراض البنكية.

ثانياً: البيئة التنظيمية التي أشرنا إليها في الفقرة الأولى والتي يمارس البنك

الإسلامي نشاطه التمويلي ضمن إطارها تدفع البنك الإسلامي إلى استخدام وسائل

وطرق تمويلية تكون أقرب إلى وسائل الربا من ناحية ضمان العائد، وذلك

باستخدام الحيل الشرعية لإجازة كثير من صور المعاملات التي يدور حولها الخلاف

والبحث عن مخارج فقهية لها، وإن كانت في واقعها وحقيقتها ومقاصدها أقرب إلى

الربا من البيوع والمعاملات الشرعية، إن النظام البنكي المعاصر يحد من قيام

البنوك بالعمليات الاستثمارية من خلال المشاركات التمويلية، بل يقصر عمل

الاستثمار على وسيلة الإقراض حيث إن عملية المشاركات تقوم على عنصر

المخاطرة بخلاف عمليات الإقراض لتوافر العائد بخلاف التمويل القائم على فقة

المعاملات الشرعية الذي يرتكز على البيع والمشاركة في المخاطر.

ثالثاً: المنافسة لجذب الإيداعات وراغبي التمويل بين البنوك الإسلامية منها

وغير الإسلامية التي تمارس عملها في الوسط الربوي؛ مما يدفع البنوك الإسلامية

لتجاوز الكثير من القواعد الشرعية في معاملاتها الشرعية والعمل على اختيار صيغ

للتعامل تتفق في مضمونها وغايتها مع الأساليب البنكية الربوية، بقصد جذب

المودعين والراغبين في التمويل للتعامل مع البنك الإسلامي بالشكل الذي يجنب

البنك الإسلامي مخاطر التعامل وفق الصيغ الإسلامية القائمة على عناصر المخاطرة

وعدم ضمان الربح، ولضمان نسب العائد الذي يمكن منحه للمودعين الذين فوضوا

البنك في الاستفادة من هذه الودائع.

رابعاً: تطلع الجماهير الإسلامية إلى التخلص من الربا وتوسيع الأنشطة

البنكية في العالم الإسلامي التي لا تقوم على الربا: دفع كثيراً من ذوي الغيرة إلى

المطالبة بالبحث عن مخارج شرعية لكيفية توفير التمويل بدون اللجوء إلى الربا،

وصاحب هذا التطلع انتشار الوعي الديني والرغبة في تجنب الوقوع في الحرام مع

بروز حقيقة: أن النظام البنكي ضرورة لتيسير التبادل النقدي وتسهيل حركة

التجارة الدولية، أدى ذلك التطلع إلى المطالبة بإيجاد بنوك تلتزم بالشريعة، ولكن

ضمن المبادرات الفردية بحيث لم يتم تبني نظام بنكي كامل مرتبط بالنظام

الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

إن ضرورة توفر بيئة اقتصادية وتشريعية تلتزم بالشريعة الإسلامية يساهم في

معالجة المشاكل التطبيقية من خلال إبراز تصور شمولي لمختلف العلاقات البنكية

سواء ما يتعلق بكيفية تمويل الاستثمارات الداخلية أو العلاقات التبادلية الخارجية

ضمن إطار يحكم العمل الاقتصادي للدولة، بحيث يتم تجنب الازدواجية بين فلسفة

النظام الاقتصادي السائد القائم على الربا الذي يمارس البنك الإسلامي نشاطاته

ضمنه وبين ما ينبيء من وجود بيئة تنظيمية يقوم نظامها على ممارسة الشريعة

الإسلامية بكل جوانبها.

إن عدم وجود مجتمع تقوم أنظمته المختلفة على الإسلام يحد من قدرة البنك

الإسلامي على الانطلاق والابتعاد عن البحث عن الحيل الشرعية عند ممارسته

لنشاطه التمويلي.

خامساً: الظاهرة المشتركة بين البنوك الإسلامية التي تمارس الأعمال البنكية

تتمثل في أن نشاطها في الأغلب يتركز على الاستثمار المتوسط الأجل والطويل

مثل تكوين الشركات المساهمة في تمويل الأعمال الاستثمارية، إلا أن مساهمتها في

حل مشكلة التمويل قصير الأجل الذي يمثل المشكلة الرئيسة التي يعاني منها الناس

في المجتمع المعاصر محدودة، وتأخذ الشكل الذي تمارسه البنوك في التمويل قصير

الأجل صوراً من أنواع البيوع التي دجنت من خلال البحث عن المخارج الفقهية

حتى يتم تلاؤمها مع واقع التمويل قصير الأجل القائم على الفائدة الربوية وبين

الرغبة في الابتعاد عن الربا مما أفقد البنوك الإسلامية قدرتها على أن تمارس دور

الريادة في تغيير الاتجاه الربوي القائم في النظام البنكي السائد في العالم الإسلامي،

وهو ما سوف نحاول مناقشته في الحلقات القادمة بدراسة صور التمويل قصير

الأجل الممارس من قبل البنوك الإسلامية، وذلك بسبر غور صحة وسلامة

المنطلقات الشرعية بقصد تقويم هذه الصور من الممارسات، مع الإشارة إلى

البدائل الممكن ممارستها.

سادساً: ضعف دور الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية وهامشيتها؛

فالرقابة الشرعية يقتصر دورها على الإفتاء والبحث عن مخارج فقهية لما يقترحه

الممارسون، مع قصور في التصور العملي التطبيقي؛ فالرقابة الشرعية لا تمارس

عملية الفحص والاطلاع على مراحل عمليات إقرار التمويل والتأكد من أن

الإجراءات التي تُمارس تتفق مع الشريعة، بجانب أن أجهزة الرقابة الشرعية لا

تمتلك الخبرة البنكية التي تساعدها على إيجاد البدائل السليمة، وإنما يقتصر دورها

في الإفتاء إذا طلب المديرون منها ذلك! . إن هذا الدور يفقد أجهزة الرقابة

الشرعية فاعلية التأثير على تطوير البنك لأساليب ممارساته، كما لا يتيح لها

اكتشاف الخلل الشرعي عند التطبيق، إن أعضاء الهيئات الشرعية في الأغلب غير

متفرغين للعمل البنكي، وبالتالي: يتصف عملهم بالصفة الاستشارية.

إن مناقشة واقع التعامل وفق ما أتيح لنا من معلومات عن كيفية ممارسة

البنوك الإسلامية لنشاطها التمويلي لا يعني جحد أهمية وجود هذه البنوك ولا غمط

حق من قام على تأسيسها وبذل الجهد والمال في سبيل ظهورها، ولكن مناقشة هذا

الواقع إنما قُصد به النصح، فتجربة البنوك الإسلامية لا تنسب إلى أصحابها،

وإنما تنسب إلى الإسلام، وبالتالي: فالتأثير السلبي سوف ينعكس على إمكانية

توسيع القاعدة البنكية الإسلامية، وبالتالي: إضعاف المطالبة بتحويل النظام البنكي

القائم على الربا إلى نظام يُنتفى فيه الربا، فالممارسة الخاطئة للعقود الشرعية التي

لويت أعناقها من خلال البحث عن مخارج شرعية: لا تختلف في النتيجة عما يتم

من ممارسته في البنوك الربوية، لهذا: نجد في الآونة الأخيرة اتجاه بعض البنوك

الربوية إلى إيجاد أقسام للمعاملات الإسلامية ضمن الصيغ التي تمارسها البنوك

الإسلامية؛ لكون هذه الصيغ لا تختلف في النتيجة عن الصيغ التي تمارس من قبل

البنوك الربوية، غير أنها أُلبست باللبوس الإسلامي، كما سوف نناقشه في حالات

من الصيغ المطروحة من قبل البنوك الربوية بقصد جذب مدخرات بعض الفئات

الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية التي تشعر بالجزع من أكل الربا، وفي الوقت

نفسه: ترغب في الحصول على عائد مضمون بدون مخاطرة.