للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[وقفة مع التنويريين الجدد]

بقلم: د. أحمد إبراهيم خضر

١- الاشتباك والرّشد:

مصطلحان استخدمهما التنويريون الجدد في منطقتنا العربية، ويقصدون بهما على وجه التحديد ما يلي:

أولاً: التعرض للأساس الذي يقوم عليه المجتمع المسلم (القرآن والسنة)

والتشريعات المنبثقة منهما، وللتاريخ الإسلامي، وللثقافة العربية الإسلامية

بالدراسة والتحليل والنقد؛ بغرض إلغاء أو تطوير أو تعديل هذا الأساس إلى

الصورة التي تحرك الكيان الثقافي والاجتماعي للمجتمع المسلم في اتجاه تصوراتهم

الفكرية.

ثانياً: الاستفادة من التصورات الفكرية والمنهجية القديمة والمعاصرة

(والغربية منها على وجه الخصوص) ، والتيارات النقدية في داخل البلاد وخارجها، وجهود الغرب في تحسين أدوات الاستقراء والاستنباط والتفكير المنطقي المنظم

للمعلومات، واختبار الفرضيات، واستخلاص النتائج في تحقيق الهدف السابق.

ثالثاً: الجرأة في النقد والتحليل، والجرأة في الإضافة إلى هذا الأساس وهذا

الكيان والحذف منهما بما يتفق مع منطلقاتهم الفكرية.

٢- استمد التنويريون الجدد هذه الاستراتيجية

من مصدرين أساسين:

أولهما: المحاولات التي قام بها من أسموهم بالمفكرين الأصلاء من الأئمة

الدينيين وأساتذة التاريخ والقانون والاقتصاد والحضارة العربية الإسلامية،

بالاشتباك مع أساس المجتمع المسلم وكيانه الثقافي الاجتماعي (على غرار ما فعله

كبار فلاسفة التنوير في الغرب في القرن السابع عشر) فخرجوا على الإسلام باسم

كسر جموده، وباسم التسهيل على الأمة والمصلحة والتجديد، مستخدمين سلاح

(الرّشد) أو (العقلانية) بالمفهوم الغربي الذي يعني: الاحتكام إلى معيار العقل وحده

في الحكم على الأشياء، وأسبقية العقل في فهم الحقائق الجوهرية عن العالم عما

سواه، علماً بأن روح عصر التنوير النقدية العقلانية أعلت من قيمة العقل ليقف في

مواجهة الإيمان والحقائق المنزلة والسلطة التقليدية والمسائل الروحية.

هذا وقد نجحت محاولات هؤلاء الأساتذة (! !) في تحقيق ما يلي:

أ- الجرأة على التغيير والتجديد في المسائل المرتبطة بالعقيدة الإسلامية الثابتة

بالكتاب والسنة.

ب- وضع جميع كتب الحديث والسيرة وجميع ما فيها من الأحاديث المنسوبة

إلى النبي تحت شبهة الكذب.

ج- حققت ما سمي بالنهضة الإصلاحية، التي زعزعت أكبر معقل ديني في

العالم الإسلامي عن تمسكه بالدين، وقربت كثيراً من شيوخ هذا المعقل إلى

اللادينيين خطوات، ولم تقرب اللادينيين إلى الدين خطوة.

د- أدخلت الماسونية إلى هذا المعقل.

هـ- شجعت على ترويج السفور.

وجعلت الزندقة مقابلة لحكم العقل ونظام المنطق، وجعلت الإلحاد قرين

الاجتهاد، والإيمان قرين الجمود.

ز- صرفت الناس عن التفكير في الدين، وشجعتهم على قراءة كتب الغرب

لالتماس الحقيقة فيها، وإقناعهم بأنهم لن يجدوها في كتب الإسلام!

ثانيهما: التيارات النقدية المعاصرة في العالم الغربي: يقول التنويريون الجدد: (وتلك رؤية التنوير، لم تكن متاحة أمام فكرنا القومي! إلا حدسا من قبل، ولكنها

رؤية تطورت بفضل تفاعل (خلاق) وإيجابي جرى على عدة محاور:

كان أولها: محور التفاعل بين التطبيقات العملية لتيار التحديث في الغرب

والأفكار النقدية القوية التي أنتجها الفكر الغربي نفسه وأدبه وفنونه ذات التوجهات

الإنسانية والأخلاقية والجمالية والاجتماعية، وكان المحور الثاني هو: التفاعل بين

الفكر الغربي النقدي هذا وبين أقرانه من تيارات الفكر النقدي الإيجابي التي أنتجناها

نحن مع شعوب الثقافات الأخرى القديمة والجديدة في العالم الإسلامي العربي وفي

أمريكا اللاتينية ... وكان المحور الثالث هو: التفاعل بين الفكر النظري في مختلف

العلوم الاجتماعية والطبيعية وفقاً لمختلف المناهج الفكرية الحديثة غالباً (الوظيفية،

والبنائية، والهيكلية، والتركيبية، والتاريخية الحديثة.. وغيرها) وبين التطبيق

العملي الذي أصبح يزداد اقتناعاً بضرورة الاهتداء بمنجزات تلك العلوم

وتصوراتها) .

٣- أقر التنويريون الجدد بالحقائق الآتية:

أولاً: أن تصوراتهم الفكرية عن الواقع الإسلامي للمجتمع لم تكن ناضجة قبل

الثمانينات، أي: في الفترة التي بدأت فيها الصحوة الإسلامية تترك بصماتها

بوضوح على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية.

ثانياً: أنهم كانوا يتخبطون في مساراتهم بسبب انبهارهم بالنموذج الغربي أو

النماذج الغربية المتناقضة ومغرياته وهيمنته ومنجزاته.. بين هذا النموذج وما

انبثق منه من فكر وتطبيق ماركسي.

ثالثاً: أن الواقع الإسلامي للمجتمع يمثل كياناً ثقافيّاً واجتماعيّاً خاصّاً ومتميزاً، وله تاريخه الخاص والمتميز.

وهذه الحقائق التي أقر بها التنويريون الجدد وعلى رأسها: إقرارهم

بخصوصية المجتمع المسلم لم تفدهم في شيء؛ فهم لازالوا يتخبطون في مساراتهم

بين منجزات الفكر الغربي؛ بدليل اعترافهم بافتتانهم بالتيارات النقدية الغربية،

وإن أضافوا إليها بما اعتقدوا أنه منجزاتهم النقدية الخاصة ومنجزات شعوب

الثقافات الأخرى، ومن ثم: تظل تصوراتهم الفكرية عن الواقع الإسلامي للمجتمع

غير ناضجة، خاصة وأنها محاطة بسياج عدائي مسلح يمتلك كل سبل الضبط

والتأثير، وسياج عدائي آخر يمثله التنويريون أنفسهم الذين يرون في هذا الواقع

تهديداً لوجودهم وكيانهم ومراكزهم ومصالحهم وشهواتهم.

٤- إن ادعاء التنويريين الجدد بأنهم استفادوا من تفاعلهم بما يصفونه بـ

(الإيجابي والخلاق) ! مع محور الفكر النظري والبناء المنهجي للعلوم الاجتماعية

وللتيارات الفكرية النقدية في الغرب: ادعاء يفتقد إلى الصحة؛ فالتيار النقدي

الغربي أثبت أن العلوم الاجتماعية علوم أوروبية الصنع عجزت في بلادها عن

إثارة القضايا المتصلة بصميم وجود الإنسان، وأنها ليست أكثر من مجرد أفكار

فلسفية وقيم ومواقف أخلاقية تخص أصحابها ومجتمعاتهم، وأنها نادراً ما تعطي

تفسيراً صحيحاً للقضية التي تتعرض لها، وحتى هذا التفسير أو التناول متعدد

الألوان أكثر منه تفسيراً تحليليّاً، وفي أحد المؤتمرات التي عقدها العلماء

الاجتماعيون الغربيون قالوا ما نصه: (إن المشتغلين بهذه العلوم لم تكن لديهم القدرة

على متابعة الأحداث المهمة لا في مجتمعاتهم ولا عبر العالم، كما أن قلة العائد

الملموس من هذه العلوم لم يُمكن أصحابها من تدعيم مراكزهم أو إقناع حكوماتهم

بجدوى بحوثهم التي يشوبها الجدل والافتراضات والتعميمات الفضفاضة التي لا

تستند إلى أساس متين من الواقع، وقد أدى الشك في هذه العلوم إلى زيادة حدة

السخرية والتهكم اللاذع عليها باتهام علمائها بأنهم يقضون ربع قرن من حياتهم

للبرهنة على حقائق يعرفها الناس من أجل إعطائهم الصبغة العلمية) .

ومن ثم نقول: إن اقتناع التنويريين الجدد بضرورة الاهتداء بمنجزات هذه

العلوم أو حتى بتصوراتها يكشف عن قصور أو عدم فهم للتيارات النقدية الغربية

التي يدعون أنهم يتحاورون معها، أو أنه اقتناع كاذب يحركه فقط موقفهم العدائي

من منجزات الصحوة الإسلامية من ناحية، أو إدراكهم للدور الذي حدده أتباع (سان

سيمون) (أوجست كونت، وبازار، وإنفانتان) لهذه العلوم بأن تزيح الدين لتقبع هي

على قمته.

٥- وأهم من كل ما سبق، الآتي:

أولاً: إن المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها التنويريون العرب القدامى

والجدد، وإن كانت تحمل معرفة معينة، فإنها إذا جردت من أغطيتها الفنية،

وطبقاتها اللفظية التي تحتمي بها فلن تكون أكثر من مجموعة فارغة من الألفاظ

الكاذبة ذات الرطانات الغامضة التي لا تخدم أي قضية، ولا تفيد في أي تحليل.

ثانياً: ببساطة تامة ودون الدخول في ترسانات المصطلحات الغامضة التي

يحتمي بها هؤلاء التنويريون نجدهم يسعون إلى ما يلي:

أ- الاستمرار في جهود ضرب الصحوة الإسلامية، والعمل على الحيلولة من

أن تجد لها عمقاً في القرى والمدن البعيدة عن العاصمة، أو مراكز التنوير! التي

يسيطرون عليها.

ب- الاستمرار في الجهود التي تسمح لهم بوجود المناخ الذي يعطي لهم

الشجاعة والحرية في التعرض للقرآن والسنة والتشريعات المنبثقة منهما، إما

بالهجوم أو النقد مع القدرة على الحذف والتعديل والإضافة، وإما في الأساس الذي

يستند إليه المجتمع المسلم، أو في الكيان الثقافي والاجتماعي لهذا المجتمع، انطلاقاً

من نجاحات الأئمة والأساتذة الذين أشرنا إليهم.

ج- أن تكون لهم دائماً اليد العليا في توجيه حياة الناس وحركة المجتمع وفق

تصوراتهم الفكرية، وأن تكون عقولهم هي الحَكَم النهائي حتى في المسائل التي

حسمها الشرع.

د- الارتكاز في تحقيق هذه الأهداف على التحالف مع الفكر والمناهج الغربية

والفكر الناهض في دول أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص، وكذلك مختلف

الجهود والأنشطة المناوئة للإسلام بالداخل والخارج المحمية جميعها بالقوة المسلحة.

٦- بقي أن نقول: إن التنويريين الجدد لم يقدموا أي جديد، ولو قدموا جديداً

لما كان هناك إقدام على إعادة طبع ونشر جهود التنويريين القدامى لمواجهة الصحوة

الإسلامية، إنه الدور نفسه لإمامهم الكبير (رفاعة الطهطاوي!) الذي حدده (بي.

جي. فاتكيوتس) بوضوح في قوله: (لقد كان الطهطاوي أول من قدم بطريقة

منظمة وذكية المبادئ العامة للمؤسسات السياسية الأوروبية، قدم الطهطاوي أفكار

عصر التنوير والثورة الفرنسية وهما عماد هذه المؤسسات، كان الطهطاوي معجباً

بعقلية التنوير الأوروبي، ولهذا: فقد فتح الطريق لتابعيه للهجوم المكثف على كل

ما هو تقليدي ... أدخل الطهطاوي إلى قرائه وهو يصف الدستور الفرنسي

والمؤسسات السياسية الفرنسية فكرة (السلطة العلمانية) ومفهوم (القانون الوضعي)

المشتق من مصادر أخرى غير (المصادر الإلهية) .