للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية قرآنية

لا تحسبوه شراً لكم

بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل

تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مفهوم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً

لَّكُم] [النور: ١١] وأهمية ذلك المفهوم ضمن سياق سنن الله في التغيير، وبيّن

ثمرات هذه السنة، التي كان منها: تحقيق العبودية لله (عز وجل) ، وسلامة القلب

من الكثير من أمراضه، والصبر على البلايا والمصائب، ومحاسبة النفوس،

والتؤدة وعدم الاستعجال.. ويواصل الكاتب وقفاته حول معنى هذه الآية..

- البيان -

في هذا المبحث سأتعرض إن شاء الله (تعالى) لبعض المواقف من السيرة

المطهرة وغيرها، والتي ظهرت فيها حكمة الله (عز وجل) ورحمته، وأن ما

اختاره الله (عز وجل) لعباده خير مما اختاروه لأنفسهم.

من السيرة المطهرة:

الموقف الأول: غزوة بدر الكبرى: وهي أشهر من أن تذكر؛ فلقد كانت

فرقاناً بين الحق والباطل، ولكن المراد من الاستشهاد بها هنا: هو ما ظهر في هذه

الغزوة العظيمة من الفرق بين ما أراده المسلمون قبل الغزوة، وكراهيتهم للقاء

عدوهم، ورغبتهم في أن تكون في العير، وبين ما اختاره الله لهم من أن تكون في

النفير وفي ذات الشوكة؛ يقول الله (عز وجل) : [وَإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ

أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ

وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ]

[الأنفال: ٧، ٨] .

فأين الخير الذي علمه الله (عز وجل) وغاب عن المسلمين آنذاك فأرادوا غيره؟ إن الجواب في الآية نفسها؛ يعلق الأستاذ سيد قطب (رحمه الله تعالى) على هذه

الآية فيقول: (لقد أراد الله وله الفضل والمنة أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون

موقعة بين الحق والباطل؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد أن

يقطع دابر الكافرين؛ فيُقتل منهم من يقتل، ويُؤسر منهم من يؤسر، وتذل

كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكّن الله

للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض،

وتحطيم طاغوت الطواغيت، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن

جزاف تعالى الله عن الجزاف وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم

الواقع وفي ميدان القتال..

... وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته

العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها، بين ما حسبته خيراً لها وما قدره

الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين

يتضررون مما يريده الله لهم، مما قد يعرضهم لبعض الخطر، أو يصيبهم بشيء

من الأذى، بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال! .

فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي لو

كانت لهم غير ذات الشوكة قصة غنيمة، قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما

بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة، قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق

والباطل، قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح، المزودين بكل زاد،

والحق في قلة من العدد وضعف في الزاد والراحلة) [١] .

الموقف الثاني: غزوة أحد: وهذه الغزوة أيضاً من أشهر غزوات الرسول،

ومن أشدها على المسلمين؛ حيث استشهد سبعون صحابيّاً، وشُجّ وجه النبي الكريم، ومع ذلك كان فيها خير للمسلمين ورحمة؛ يدل على ذلك قوله (تعالى) : [وَمَا

أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمََ المُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَذِينَ نَافَقُوا

وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ

يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] [آل عمران: ١٦٦، ١٦٧] .

ولقد أحسن الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في ذكره لبعض الحِكَم والغايات

المحمودة التي كانت في وقعة أحد، أقتطف منها قوله:

١- فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية، والفشل، والتنازع، وأن الذي

أصابهم إنما هو بشؤم ذلك؛ كما قال (تعالى) : [وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم

بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم

مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ

ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] [آل عمران: ١٥٢] .

فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم وتنازعهم وفشلهم: كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة

وتحرزاً من أسباب الخذلان.

٢- ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب؛ فإن المسلمين لما

أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت: دخل معهم في الإسلام

ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله (عز وجل) أن سبّب لعباده

محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة،

وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر،

ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم؛ قال الله (تعالى) : [مَا

كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ

لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ] [ال عمران: ١٧٩] .

أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى

يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو (سبحانه)

يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً.

٣- ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما

يحبون وما يكرهون، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم

عبيده حقّاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.

٤- ومنها: أنه (سبحانه) لو نصرهم دائماً؛ لطغت نفوسهم، وشمخت،

وارتفعت؛ فلو بسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط

لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض

والبسط.

٥- ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً

وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار

الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته: قيّض لها من الابتلاء

والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك

البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ولو تركه لغلبته الأدواء

حتى يكون فيها هلاكه.

٦- ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، وهو (سبحانه) يحب

أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه

ومحابه على أنفسهم. ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية

إليها من تسليط العدو.

٧- ومنها: أن الله (سبحانه) إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم

الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم: بغيهم،

وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم؛

فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم

وهلاكهم. وقد ذكر (سبحانه وتعالى) ذلك في قوله: [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا

وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] [ال عمران: ١٤١] [٢] .

مواقف من السلف:

١- الموقف الأول: محنة الإمام أحمد ابن حنبل (رحمه الله تعالى) :

وما أظن أحداً من المسلمين يجهل المحنة التي تعرض لها أبو عبد الله أحمد

بن حنبل (رحمه الله تعالى) ؛ وذلك فيما يعرف بفتنة القول بخلق القرآن، وقد

تعرض هذا الإمام الجليل لمحنة وبلاء عظيم؛ تلك المحنة كانت مؤذية له (رحمه

الله) ، ومؤذية للمسلمين معه، ولكن الله (عز وجل) ثبّته في هذه المحنة العظيمة،

وحمى به عقيدة أهل السنة من الانحراف أو الاندثار، ولقد كانت هذه البليَّة لإمام

السنة خيراً له فيما بعد؛ فما كان لينال هذا الخير لولا هذا الابتلاء وما من الله به

عليه من الثبات والتضحية.

٢- شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه:

وكذلك لا أظن أحداً من أهل العلم يجهل هذا الرجل العظيم، وما ضحى به

في سبيل الله (عز وجل) بعلمه وجهاده وصبره وما لاقى في ذلك من السجن والإبعاد، ولكن كان في ذلك الابتلاء خير له ورفعة، كما يقول ذلك هو عن نفسه عندما

ورد المرسوم السلطاني بسجنه في قلعة دمشق: (أنا كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه

خير عظيم) [٣] .

وقال: (لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة) .

كما كان في الابتلاء الذي تعرض له خير للمسلمين في عصره وما تلاه من

العصور؛ وذلك بانتشار دعوته وعلمه؛ يقول (رحمه الله) : (ومن سنة الله: أنه إذا

أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل

فيدمغه فإذا هو زاهق ... ) [٤] .

احتراس وتنبيه:

وفي هذا المبحث أود التنبيه على قضية يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن

الرضا بقدر الله (عز وجل) وتفويض الأمور إليه؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر

إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله (عز وجل) ، والذي قد يؤدي

إلى التواكل، والعجز، والرضا بالفساد، والذلة، والمهانة، وترك الأخذ بالأسباب

والدعوة والجهاد؛ فنكون قد عالجنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر. من أجل ذلك

سأخص هذا المبحث بالحديث عن هذه القضية، وذلك احتراساً من الفهم الخاطئ

الذي قد ينشأ لو لم يحصل هذا التنبيه، فأقول وبالله التوفيق:

إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان: الفهم الصحيح لعقيدة القضاء

والقدر، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله (عز وجل) الحسنى وصفاته العلا،

والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء، وهذا (والحمد لله) هو سمة معتقد أهل

السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة، ومن ذلك: عقيدة القضاء والقدر، وتوحيد

الأسماء والصفات. ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس: فمنهم من

أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان، وتنقص المؤمنين به، ومنهم

من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل، وكلا الموقفين منحرف

ومجانب للصواب؛ فالإيمان بقضاء الله (عز وجل) وبعلمه وتقديره للأمور قبل

وقوعها، ثم مشيئته، وخلقه لها، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره،

وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده.. كل ذلك مما يجب الإيمان

به في باب القضاء والقدر، كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه (سبحانه) وصفاته،

ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة

والهوان وانتشار الفساد، كلا، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في

التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف

المطمئن عند حد الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخرها الله (سبحانه) ،

ومدافعة أقدار الله (عز وجل) بأقداره، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة؛ قال (تعالى) : [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى

العَالَمِينَ] [البقرة: ٢٥١] فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان:

فالواجب: الصبر والاستسلام لقضاء الله (عز وجل) ، واليقين بأن من وراء ذلك

خيراً ومصلحة ورحمة، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد

من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها؛ قال (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا

بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] .

ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) فيقول:

(ودفع القدر بالقدر نوعان:

أحدهما: دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ولمّا يقع بأسباب أخرى من القدر

تقابله، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.

الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر

المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر

الإحسان، فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة

والحيلة؛ فإنه عجز، والله (تعالى) يلوم على العجز. فإذا غُلب العبد، وضاقت به

الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي

الغاسل، يقلبه كيف يشاء) [٥] .

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه

قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير.

احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني

فعلت كان كذا وكذا.. الحديث) [٦] ، ويشرح الإمام النووي الحديث، فيقول:

(والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا

الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه،

وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل

ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله (تعالى) ، وأرغب في الصلاة، والصوم،

والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك.. وقوله-

صلى الله عليه وسلم- (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) معناه:

احرص على طاعة الله (تعالى) ، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله

(تعالى) على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب

الإعانة) [٧] .

ويتحدث الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) عن الفرق بين العجز والتوكل،

فيقول:

(والفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته: اعتماداً

على الله، وثقة به، والتجاءً إليه، وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه

بكفايته (سبحانه) ، وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور

بها، واجتهاده في تحصيلها؛ فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين، وكان يلبس

لأَمَتَه ودرعه، بل ظاهر يوم أحد بين درعين، واختفى في الغار ثلاثاً؛ فكان

متوكلاً في السبب لا على السبب.

وأما العجز: فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما: فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل! ولعمر الله إنه لعجز وتفريط، وإما أن يقوم بالسبب ناظراً

إليه، معتمداً عليه، غافلاً عن المسبّب، معرضاً عنه، وإن خطر بباله لم يثبت

معه ذلك الخاطر، ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً، بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع

السبب. فهذا توكله عجز، وعجزه توكل) [٨] .

ويقول الدكتور علي العلياني (وفقه الله تعالى) في حديثه عن أهل التصوف

وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله: إن من صفاتهم:

(الرضا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب، فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم،

زعماً منهم أن دفعها ينافي الرضا بالقدر، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون؛ لأن الله أراد ذلك! .. ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها: أن الفرنسيين

إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون معارضة شديدة من الناس؛ فتفاهم الفرنسيون

مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً

رأسه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه

قال لهم: لقد رأيت الخضر وسيدي أبا العباس الشاذلي وهما قابضان بحصان

جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس، يا جماعة هذا أمر الله، فما العمل؟

فقالوا له: إذا كان سيدي أبو العباس راضياً، ونحن نحارب في سبيله، فلا داعي

للحرب! ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة) إلى أن يقول: ( ... إن

عقيدة الصوفية المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر: جعلت نفوسهم راضية مطمئنة

ولو وطئ الكفار على رقابهم؛ فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضا

معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين، وسبي

ذراريهم. وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر! وغير متوكل على الله! فالذي

يسافر في البراري الخالية بغير زاد، هل يتصور منه أن يلبس لأَمَة الحرب ودروع

القتال؟ وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً! ! .. ولكن ما له

ولفرقعة السلاح، ولخرير الدماء؛ وحلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله

منزلة الصديقين على زعمه، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأي

فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا) [٩] .


(١) في ظلال القرآن، م٣، ص١٤٨١.
(٢) زاد المعاد، ج٣، ص٢١٨-٢٢٢ باختصار.
(٣) العقود الدرية، ص٣٢٩.
(٤) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج٢٨، ص٥٧.
(٥) مدارج السالكين، ج١، ص٢٠.
(٦) رواه مسلم: كتاب القدر، ح٢٦٦٤.
(٧) شرح صحيح مسلم للنووي، ج١٦، ص٢١٥.
(٨) الروح، ص٣٤٤.
(٩) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، باختصار، ص٢٨٨.