للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات شرعية

المنهج العلمي للاستدلال

(منهج المبتدعة في التعامل مع النصوص الشرعية)

بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان

تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن منهج الاستدلال عند أهل السنة، ثم

تحدث في الحلقة الثانية عن منهج المبتدعة، وذكر أنه يعتمد على ثلاثة أصول؛

الأول: ردّ النصوص الثابتة والاعتراض عليها، والثاني: العبث في الأصول

الشرعية للاستدلال وتشويهها، وذكر تحت هذا الأصل سبع مسائل، وفي هذه

الحلقة الأخيرة: يتمم هذه المسائل، ويذكر الأصل الثالث في منهج المبتدعة مبيناً

فساده.

- البيان -

ثامناً: رد حديث الآحاد:

لعل أول من رد حديث الآحاد جملة في العقائد والأحكام هم: الخوارج، ثم

تبعهم المعتزلة، بحجة أنها أحاديث ظنية الثبوت لا تفيد العلم اليقيني! .

ثم تبنى هذا المذهب جمع من المتكلمين الذين اعتمدوا حديث الآحاد في

الأحكام وردوها في العقائد، وانتشر هذا المذهب انتشاراً واسعاً عند المتأخرين حتى

ظنه من لاتحقيق عنده من المعاصرين: أنه مذهب الأئمة الأربعة وجمهور

العلماء [١] .

وبسبب هذا رُدّت عقائد كثيرة جداً ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في

أحاديث صحيحة.

واستغل هذا المذهب قوم من أهل الأهواء والزنادقة في رد كثير من دلائل

النصوص الشرعية المحكمة؛ بحجة أنها لم ترد وروداً قطعياً، بل إن بعضهم رد

الأحاديث المتواترة القطعية بحجة أن تواترها لم يثبت عنده، حتى أصبح ذلك سلماً

للزنادقة والعابثين.

وقد رد هذه الفرية في وقت مبكر جمع من أهل العلم وأئمة السنة، وبينوا

مخالفتها للدلالة الشرعية والعقلية وإجماع الأمة. ولعل من أوائل من بسط الرد على

المبتدعة في هذا الباب: الإمام الشافعي في كتابه الجليل: (الرسالة) ، ثم تبعه جمع

من الأئمة على رأسهم الإمام البخاري حيث أفرد كتاباً مستقلاً في صحيحه سماه:

(أخبار الآحاد) ، ذكر فيه عدداً من الأحاديث التي تدل على وجوب العمل بحديث

الآحاد في العقائد والأحكام، وجعله بين يدي كتاب: (الاعتصام بالكتاب والسنة) ،

ثم تتابع العلماء في تفصيل هذه المسألة، ويلخص ابن عبد البر القرطبي مذهب

الأئمة أهل الفقه والأثر بقوله: (وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات،

ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، وعلى ذلك جماعة أهل

السنة) [٢] .

تاسعاً: القدح في الصحابة (رضي الله عنهم) :

تقدم في الحلقة الأولى بيان عظيم منزلة الصحابة (رضي الله عنهم) ، وأن فهم

دلائل الكتاب والسنة إنما يؤخذ عنهم، فهم أعلم الناس بمراد الله (تعالى) ، ومراد

رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكل علم من علوم الشرع يؤخذ من غير طريقهم،

أو بخلاف منهجهم فهو ضلال وانحراف، وصدق عمران بن حصين (رضي الله

عنه) إذ يقول: (ياقوم: خذوا عنا، فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلّنّ) [٣] .

وأكثر المبتدعة انحرفوا في شأن الصحابة انحرافاً واضحاً، ولم يعتمدوا

منهجهم ولم يسيروا سيرهم، ومنهم من قدح فيهم وكذبهم وافترى عليهم، ومنهم من

كفرهم واتهمهم بالنفاق والعياذ بالله! !

وأول من وقع في هذا الانحراف هم الخوارج والرافضة، ثم تبعهم المعتزلة

والجهمية، وسائر المبتدعة؛ ولهذا قال أبو حاتم الرازي: (علامة أهل البدع:

الوقيعة في أهل الأثر) [٤] .

ومن أمثلة جرأة المبتدعة ووقوعهم في الصحابة:

قال عمرو بن عبيد: (لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان، على

شراك نعل ما أجزتُ شهادتهم! !) [٥] .

ولما قال له يحيى: كيف حديث الحسن عن سمرة في السكتتين؟ فقال:

(ماتصنع بسمرة؟ قبح الله سمرة! !) [٦] .

وتتبع مخازي المبتدعة في هذا الباب أمر يطول ذكره، وأشدهم غلواً فيه

الرافضة، قال ابن تيمية: (ثم إن الرافضة أو أكثرهم لفرط جهلهم وضلالهم يقولون: إنهم يعني: أبا بكر وعمر ومن اتبعهم كانوا كفاراً مرتدين، وإن اليهود

والنصارى خير منهم؛ لأن الكافر الأصلي خير من المرتد! وقد رأيت هذا في عدة

من كتبهم، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراءً على أولياء الله المتقين، وحزب

الله المفلحين، وجند الله الغالبين) [٧] .

وقد بين السلف أن حقيقة الطعن في الصحابة هي: الطعن في الدين، ولهذا

قال أبو زرعة: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم أنه

زنديق؛ وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق، والقرآن حق، وإنما

أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) [٨] .

وقال ابن تيمية: (أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقاً وعلماً، وعملاً

وتبليغاً، فالطعن فيهم طعن في الدين، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين،

وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده: الصد عن سبيل

الله، وإبطال ماجاءت به الرسل عن الله) [٩] .

وهجر منهج الصحابة رضي الله عنهم وعدم الاهتداء بهديهم أدى إلى تخبط

المبتدعة تخبطاً شديداً، وكلما ابتعد المرء عن منهج الصحابة علماً وعملاً ازداد

انحرافه وجهله، وكثر ضلاله وبعده عن منهاج النبوة. ألم تر إلى الخوارج حينما

ضلوا وحاربوا المسلمين، ذهب إليهم عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما)

وناظرهم، ورد على شبهاتهم، رجع معه أكثر القوم وعصمهم الله من الفتنة، ومن

أعرض عنه، ولم يسمع مشورته ضل وانتكس، والعياذ بالله..؟ ! فالخير كل

الخير إنما هو في تتبع آثارهم والاقتداء بسننهم، فهم أعلم منا بكل صلاح.

عاشراً: اتباع المتشابهات:

وصف الله تعالى المبتدعة أهل الزيغ في قوله: -[هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ

الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ

فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ ... ] [آل عمران: ٧] .

روت عائشة (رضي الله عنها) : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا

هذه الآية، ثم قال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ماتشابه منه، فأولئك الذين سمى الله،

فاحذروهم) [١٠] .

وقال الطبري: (هذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من

أهل الشرك، فإنه معنيّ بها كل مبتدع في دين الله بدعة، فمال قلبه إليها، تأويلاً

منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاج به وجادل به أهل الحق، وعدل عن

الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادة منه بذلك: اللبس على أهل الحق من

المؤمنين، وطلباً لعلم تأويل ماتشابه عليه من ذلك كائناً من كان، وأي أصناف

البدعة كان، من أهل النصرانية كان، أو اليهودية، أو المجوسية، أو كان سبئياً،

أو حرورياً، أو قدرياً، أو جهمياً) [١١] .

وقال في تفسير المتشابه: (ماتشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه

التأويلات، ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ماهم عليه من الضلالة

والزيغ عن محجة الحق، تلبيساً منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل

ذلك، وتصاريف معانيه) [١٢] .

وقال السعدي: (فالذين في قلوبهم مرض وزيغ، وانحراف لسوء قصدهم:

يتبعون المتشابه منه؛ فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة طلباً

للفتنة، وتحريفاً لكتابه، وتأويلاً له على مشاربهم ومذاهبهم ليَضلوا ويُضلوا. وأما

أهل العلم الراسخون فيه الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم؛ فأثمر لهم العمل

والمعارف، فيعلمون أن القرآن كله من عند الله، وأنه كله حق محكمه ومتشابهه،

وأن الحق لايتناقض ولايختلف، فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة

والبيان يردون إليها المشتبه الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم وناقص المعرفة،

فيردون المتشابه إلى المحكم فيعود كله محكماً) [١٣] .

ولهذا كان المبتدعة يضربون النصوص بعضها ببعض، وزعموا أنها قد

تتعارض وتتخالف، وذكروا أمثلة كثيرة في هذا الباب. ولكن علماء السنة الأثبات

ردوا باطلهم وبينوا جهلهم وتناقضهم [١٤] ؛ وقد قال رسول الله: (إن هذا القرآن لم

ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وماتشابه فآمنوا به) [١٥] .

حادي عشر: جهلهم باللغة العربية:

تقدم في الحلقة الأولى بيان أهمية اللغة العربية، وأنها الأداة التي تفهم بها

دلائل الكتاب والسنة، وقد قصر المبتدعة في ذلك وأهملوا لغة القرآن، وغلبت

عليهم العجمة، فتأولوا القرآن على غير تأويله.

قال الشاطبي في بيان مأخذ المبتدعة في الاستدلال: (ومنها: تخرصهم على

الكلام في القرآن والسنة العربيين، مع العزوف عن علم العربية الذي يفهم به عن

الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا، ويدينون به ويخالفون الراسخين

في العلم، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم، واعتقادهم أنهم من

أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك) .

ثم ذكر بعض الأمثلة التي تدل على فرط جهلهم بالعربية، فقال: (كما حكي

عن بعضهم أنه سئل عن قول الله (تعالى) : [رِيحٍ فِيهَا صِرّ]

[آل عمران: ١١٧] ، فقال: هذا الصرصر، يعني صرار الليل. وعن النظام أنه كان يقول: إذا آلى المرء بغير اسم الله لم يكن مولياً، قال: لأن الإيلاء مشتق من اسم الله. وقال بعضهم في قوله (تعالى) : -[َوَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى]

[طه: ١٢١] لكثرة أكله من الشجرة، يذهبون إلى قول العرب غوى الفصيل: إذا أكثر من اللبن حتى بشم، ولايقال فيه غوى، وإنما غوى من الغي ... ) [١٦] .

والعجيب أن من كان عالماً باللغة من المبتدعة فإنه قد يحرف قواعد اللغة

وماتعارف عليه العرب، من أجل أن يوافق مذهبه الباطل، وإليك هذين المثالين:

المثال الأول: إنكار رؤية الله تعالى في الجنة:

في تفسير قول الله تعالى: [َولَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ

أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إلَى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي] [الأعراف: ١٤٣] ، زعم المعتزلة أن (لن) تفيد نفي المستقبل (بمعنى

المؤبد) [١٧] ، يعني: لن تراني في الدنيا ولن تراني في الآخرة! وهذا مخالف لقواعد اللغة، فلن لاتفيد النفي المؤبد، ودليل ذلك قول الله تعالى: [فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَاًذَنَ لِي أَبِي] [يوسف: ٨٠] . وقوله تعالى: [إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِياً] [مريم: ٢٦] . ولهذا قال ابن مالك:

ومن رأى النفي بلن مؤبداً ... فقوله اردد وسواه فاعضدا [١٨] .

المثال الثاني: تأويل الاستواء بالاستيلاء:

في تفسير قول الله (تعالى) : [الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى] [طه: ٥] زعم

بعض المبتدعة: أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وأولوا النصوص المتواترة في

إثبات علو الله تعالى على خلقه، وردوا إجماع الأمة، قال القاضي عبد الجبار:

(الاستواء ههنا بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة، وذلك مشهور في اللغة، قال

الشاعر:

قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق) [١٩] .

وقد رد أهل السنة هذا الافتراء وبينوا بطلانه ومخالفته لقواعد الشرع وقواعد

اللغة، وهو من قول شاعر ليس من العصور المحتج بها في اللغة، فضلاً عن كونه

نصرانياً [٢٠] .

الأصل الثالث: إحداث أصول بدعية

جديدة للاستدلال والتلقي:

بعد أن تجرأ المبتدعة في رد النصوص، وعبثوا في الأصول الشرعية

للاستدلال: وضعوا أصولاً بدعية جديدة للاستدلال، إما بديلة عن الأصول

الشرعية، وإما مزاحمة لها، ومن هذه الأصول:

أولاً: تقليد الأئمة والشيوخ:

تعظيم الآباء والشيوخ آفة قديمة اعترض بها المشركون على النبي -صلى الله

عليه وسلم- وزعموا أن أشياخهم وعظماءهم أولى بالوحي من النبي -صلى الله

عليه وسلم- قال الله (تعالى) : [وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ

عَظِيمٍ] [الزخرف: ٣١] . ولما عرض عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحق

بالحجة القاطعة والبرهان الساطع، اعترضوا عليه بآبائهم: [وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن

قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم

مُّقْتَدُونَ] [الزخرف: ٢٣] . فكان تعظيمهم لآبائهم مانعاً لهم من معرفة الحق ووزن

البراهين بالموازين المستقيمة.

وقد اقتبس المبتدعة من المشركين هذه الصفة في تعظيم الشيوخ، وغلا فيهم

بعضهم غلواً شديداً أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم، ومن أبرز من انحرف في

هذا الباب:

أ- الرافضة الإمامية:

الذين زعموا لأئمتهم العصمة المطلقة كعصمة النبي، ولهذا فهم: (لايعتمدون

على القرآن ولاعلى الحديث ولاعلى الإجماع إلا لكون المعصوم منهم، ولاعلى

القياس وإن كان واضحاً جلياً) [٢١] . و (صاروا لذلك لاينظرون في دليل

ولاتعليل) [٢٢] .

ب - الصوفية الباطنية:

الذين عظموا الأولياء والأقطاب، وسلموا لهم بكل مايقولون، بل زعم بعضهم

أن الأولياء أفضل من الرسل، وقال قائلهم:

مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي! !

ج - الفلاسفة الباطنية:

الذين عظموا فلاسفة اليونان كأرسطو وأمثاله، وقلدوهم في منطقهم،

وعارضوا الكتاب والسنة بأقوالهم، والعجيب أنهم ينهون العامة عن تقليد الرسل،

ومع ذلك فهم يقلدون رؤوسهم [٢٣] .

د - جهلة مقلدة الأئمة الأربعة:

الذين عظموا الأئمة المتبوعين، وجعلوا أقوالهم هي المعيار في القبول والرد، وقدموها على الكتاب والسنة، حتى قال الكرخي: (كل آية تخالف ماعليه

أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فمؤول أو منسوخ) [٢٤] .

وقد نهى السلف وأئمة السنة عن التقليد الأعمى مطلقاً، وذموا المقلدة الذين

يهجرون النصوص الشرعية، ويعارضونها بأقوال أئمتهم، ولهذا قال الشافعي:

(أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم

يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) [٢٥] . وشدد ابن تيمية على هذا بقوله:

(معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين

للرسل، بل هو جماع كل كفر) [٢٦] .

ثانياً: الكشف والإلهام:

زعم غلاة المتصوفة أن الأئمة يكشف لهم من معاني القرآن والسنة أمور

لايعلمها علماء الشريعة الذين سموهم بعلماء الظاهر! . وقد أصّل هذه العقيدة أبو

حامد الغزالي في عدد من كتبه، وأفرط فيها ابن عربي وغيره من أئمة التصوف.

قال الغزالي: (فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم

النور، لابالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبرّي من

علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها ... ) ثم يصف طريق ذلك فيقول: (أولاً:

بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها ... ثم يخلو بنفسه في زاوية مع

الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب، مجموع الهمّ، ولايفرق

فكره بقراءة القرآن، ولابالتأمل في تفسير، ولايكتب حديثاً ولاغيره (! !) ، بل

يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله (تعالى) ، فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة،

قائلاً بلسانه: الله.. الله.. على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة

يترك اللسان، ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه ... وليس له اختيار في

استجلاب رحمة الله (تعالى) ، بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله،

فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء

بهذه الطريقة..) [٢٧] .

ويقول في موضع آخر: (الخلوة لاتكون إلا في بيت مظلم، فإن لم يكن له

مكان مظلم فليق رأسه بجيبه، أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع

نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة النبوية!) [٢٨] .

وازداد غلو بعض أهل الرياضة والتصوف حتى زعموا أن الله يخاطبهم كما

خاطب موسى بن عمران (عليه الصلاة والسلام) وهؤلاء ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: زعموا أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به موسى، فهم

يدعون أنهم أعلى من الأنبياء!

الصنف الثاني: زعموا أن الله يكلمهم مثل كلام موسى، ويقولون: إن النبوة

مكتسبة!

الصنف الثالث: زعموا أن صاحب الرياضة قد يسمع الخطاب الذي سمعه

موسى، ولكن موسى مقصود بالتكليم دون هذا ... [٢٩] .

وقد رد أئمة الإسلام هذا الضلال، وبينوا بطلانه وزيغه، ومن ذلك: قول

ابن تيمية رداً على الغزالي الذي زعم أن ميزان قبول السمعيات موافقتها للكشف

والمشاهدة: (هذا الكلام مضمونه: أنه لايستفاد من خبر الرسول -صلى الله عليه

وسلم- شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من

المشاهدة والنور والمكاشفة، وهذان أصلان للإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة إن لم

يزنها بالكتاب والسنة، وإلا دخل في الضلالات..) [٣٠] .

ومنتهى هؤلاء القوم اتباع الظن وما تهوى الأنفس، بغير علم ولاهدى ولا

بصيرة، ولهذا عبثت فيهم الخرافة، وسيطر عليهم الدجالون.

ثالثاً: تعظيم العقل:

للعقل منزلة جليلة في دين الإسلام، فقد جعله الله (تعالى) أداة للفهم، ومناطاً

للتكليف، وأمر بحفظه ورعايته، وحرم كل ما يفسده أو يؤثر عليه، وحث الناس

على التدبر والتفكر والتعقل في آيات كثيرة جداً، كما ذم الله (تعالى) المشركين

الذين عطلوا حواسهم وعقولهم بقوله: [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ]

[البقرة: ١٧١] . ولهذا دل القرآن على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وكان الخطاب القرآني خطاباً برهانياً، وبين مايدل على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل مايقوله؛ ليظهر الحق بأدلته السمعية والعقلية، والرسول يخبر بالحق، ويقيم عليه الأدلة العقلية البرهانية الموصلة إلى معرفته [٣١] .

ومع هذه المنزلة الجليلة للعقل، إلا أن طريق النجاة من العذاب الأليم:

(الرواية والنقل، إذ لايكفي من ذلك مجرد العقل، بل كما أن نور العين لايرى إلا

مع ظهور نور قدامه، فكذلك نور العقل لايهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس

الرسالة) [٣٢] . وقيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، (ولاتحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين) [٣٣] . (ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش

والمعاد) [٣٤] .

وقد انحرف عن هذا السبيل الوسط فريقان من الناس:

الفريق الأول: المتصوفة الجهال، الذين ألغوا عقولهم، وقدسوا المجانين

والمجاذيب، و (كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم

أعظم) [٣٥] . وكانوا يقولون: (من أراد التحقيق: فليترك العقل ...

والشرع!) [٣٦] .

الفريق الثاني: المتكلمون والجهمية ومن ذهب مذهبهم، الذين قدسوا العقل

وجعلوه حاكماً على الشرع ومقدماً عليه، و (يجعلون العقل وحده أصل علمهم،

ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له) [٣٧] .

وهؤلاء المعظمون للعقل ينقسمون قسمين:

القسم الأول: المخالفون للنصوص النبوية، الذين يقولون: إن الأنبياء لم

يعرفوا الحق الذي عرفناه، أو يقولون عرفوه، ولم يبينوه للخلق كما بيناه، بل

تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم! ! .

القسم الثاني: المدعون للسنة والشريعة الذين يقولون: إن الأنبياء والسلف

الذين اتبعوا الأنبياء، لم يعرفوا معاني هذه النصوص التي قالوها والتي بلغوها عن

الأنبياء، أو أن الأنبياء عرفوا معانيها ولم يبينوا مرادهم للناس. وقد يقولون: نحن

عرفنا الحق بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على مايوافق مدلول

العقل..! [٣٨] .

ولهذا زعم هؤلاء القوم أن العقل قد يخالف النقل، وصالوا على النصوص

صولة المحاربين، وردوا الأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم،

ويدعون أنها مخالفة للمعقول، كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان،

ورؤية الله في الآخرة، وحديث الذباب وقتله، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر

دواء، وماأشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول [٣٩] .

واقتدى بهم: أفراخهم من المعاصرين الذين يسمون أنفسهم: بالعقلانيين،

وبزّوهم في الجرأة على النصوص بالتحريف والاعتراض والرد، فكما أن أؤلئك

انبهروا بالفكر اليوناني وراحوا يقلدونه، فقد انبهر هؤلاء بالفكر الغربي، وضعفوا

أمامه، وراحوا يلهثون في ركابه! !

وكم جرّ هذا المذهب من بلاء وشر على الأمة، حيث أصبح طريقاً للعبث في

النصوص، وسُلّماً للزنادقة والعلمانيين؟ !

وخلاصة اعتقاد أهل السنة في هذا الباب أن: (الأحوال الحاصلة مع عدم

العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن

دركه، لم تأت بما يعلم العقل امتناعه) [٤٠] . كما أن: (الأدلة العقلية الصريحة

توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لايناقض صحيح المنقول، وإنما

يقع التناقض بين ما يُدخل في السمع وليس منه، ومايدخل في العقل وليس

منه) [٤١] .

وختاماً: أسأل الله (عز وجل) أن يثبتنا على السنة، وأن يعيذنا من نزغات

الفتن.


(١) انظر مثلاً: الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت (ص٧٤ ٧٦) ، وأصول الفقه لبدران أبو العينين (ص ٨٧) .
(٢) التمهيد: ج ١، ص ٨.
(٣) الكفاية في علم الرواية: ص ١٥.
(٤) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: ج١، ص ١٧٩.
(٥) الاعتصام: ج ١، ص ١١٩.
(٦) المرجع السابق.
(٧) منهاج السنة النبوية: ج ٧، ص ٤٧٥.
(٨) الكفاية في علم الرواية: ص ٩٧.
(٩) منهاج السنة النبوية: ج ١، ص ١٨.
(١٠) أخرجه: البخاري في التفسير: ج ٨، ص ٢٠٩، ح (٤٥٤٧) ومسلم في العلم: ج ٤، ص ٢٠٥٣، ح (٢٦٦٥) .
(١١) تفسير الطبري: ج ٣، ص ١٨١.
(١٢) المرجع السابق: ج ٣، ص ١٧٦.
(١٣) تفسير السعدي: ج ١، ص ٣٥٧.
(١٤) انظر: كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص ٥٩ ومابعدها.
(١٥) عزاه ابن كثير لابن مردويه، وقال الوادعي: حسن تفسير القرآن العظيم: ج ٢، ص ١٤.
(١٦) الاعتصام: ج ١، ص ٢٣٧.
(١٧) انظر: الكشاف للزمخشري: ج ٢، ص ١٣٣.
(١٨) انظر: شرح الطحاوية: ص ٢٠٧ ٢٠٨.
(١٩) شرح الأصول الخمسة: ص ٢٢٦.
(٢٠) انظر مثلاً: مختصر الصواعق المرسلة: ص٣١٥ ٣٢٨.
(٢١) منهاج السنة النبوية: ج ١، ص ٦٩.
(٢٢) المرجع السابق: ج ٦، ص ٣٨١.
(٢٣) الفتاوى: ج ٥، ص ٢٨٩.
(٢٤) الرسالة في أصول الحنفية: ص ١٦٩ ١٧٠.
(٢٥) إعلام الموقعين: ج ٢، ص ٢٠١.
(٢٦) درء التعارض: ج ٥، ص ٢٠٤.
(٢٧) إحياء علوم الدين: ج ٣، ص ١٩ ٢٠.
(٢٨) المرجع السابق: ج ٢، ص ٦٦.
(٢٩) انظر: الفتاوى: ج ١١، ص ٦٠٦ ٦٠٧، وج ٢، ص ٣٩٩.
(٣٠) درء التعارض: ج ٥، ص ٣٤٨.
(٣١) انظر: درء التعارض: ج ١، ص ١٩٩ وج ٣، ص ٣٠٥ والفتاوى: ج ٢، ص ٤٦ ٤٧ وج ١٦، ص ٤٦٩.
(٣٢) مجموع الفتاوى: ج١، ص ٦.
(٣٣) الصارم المسلول: ص ٢٤٩.
(٣٤) الفتاوى: ج ١٩، ص ١٠٠.
(٣٥) المرجع السابق: ج ٢، ص ١٧٤.
(٣٦) المرجع السابق: ج ١١، ص ٢٤٣.
(٣٧) المرجع السابق: ج ٣، ص ٣٣٨ ٣٣٩.
(٣٨) انظر: درء التعارض: ج ١، ص ١٩.
(٣٩) انظر: الاعتصام: ج ١، ص ٢٣١ ٢٣٢.
(٤٠) الفتاوى: ج ٣، ص ٣٣٨ ٣٣٩.
(٤١) درء التعارض: ج ٢، ص ٣٦٤.