للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات نقدية

المخاض.. وأنة شوق

قراءة في نصيين شعريين

بقلم: د.حسين علي محمد

قبل أن أبدأ في قراءة العددين (٩٣) و (٩٤) من مجلة (البيان) الزاهرة، عن

شهري جمادى الأولى، وجمادى الآخرة ١٤١٦هـ أحيى القائمين على أمر المجلة

وملفها الأدبي وأدعو لهم بالصمود والاستمرار على ثغر من ثغور الإسلام، لينشروا

لنا الإبداع الأدبي (النظيف) الذي لايسمم آبار الوجدان، بل يرقى بالنفس ويدفعها

إلى التسامى عن أوضار كثيرة ينشرها في الناس أدب يناهض وجدان الأمة ويقف

بالنشء على شفا هاوية لامنجاة منها إلا بالاعتصام بالله، ثم نشر الإبداع الإسلامي

الجاد رؤية وأداءً.

بعد هذه المقدمة أقول إنني سأكتفي بالوقوف أمام نصين هما: (المخاض)

للشاعر تركي المالكي، و (أنّة شوق) للشاعر محمد إدريس؛ لأن الوقفة قد تطول

مع النصين، فلا تتسع صفحات (الملحق الأدبي) للتناول النقدي لمواد (البيان) .

ونشير هنا بالتقدير إلى دراسة الأستاذ محمد حسن بريغش عن (نجيب الكيلاني)

رائد القصة الإسلامية المعاصرة) التي استمتعت بقراءتها، و (قراءة) الدكتور حسن

بن فهد الهويمل، وما أشد حاجة الساحة النقدية للأدب الإسلامي إلى نقد الأستاذين

الفاضلين، فبارك الله في جهدهما، وفي جهادهما في هذا المجال.

المخاض: لتركي المالكي:

(المخاض) هو وجع الولادة، وهو الطلق المبشّر بالميلاد. وهل هو ميلاد

جديد، أم ميلاد مثخن بالجراح؟ يقول تركي المالكي في مطلع نصّه:

أَمُورُ على نطع الأسئلهْ [١]

من البداية نرى أننا أمام شاعر تعذبه أسئلته وأطروحاته، ونعرف أنه يتعذب

من استخدامه لكلمتي (أَمِوُر) و (نطع) ففي (المنجد) : (مار يمور موراً البحر: إذا

ماج واضطرب، ومارَ الدم على الأرض: جرى فتردّد عرضا، ومار الشيء:

تحرك كثيراًً وبسرعة من جهة إلى أخرى، ومن هذه إلى تلك كالسهم إذا انتشب في

الشجرة) [٢] و (النطع) جمع أنطاع ونطوع: بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم

عليه بالعذاب أو بقطع الرأس) [٣] .

فما الذي يجعل شاعرنا يتعذب، ويضطرب؟ هل هي أسئلته التي يشير إليها، أو بتعبير آخر (خطابه الشعري) أو أطروحاته المغايرة للسائد؟

لو رجعنا إلى بعض مانشره في (البيان) من قَبْل (فهو ليس له ديوان مطبوع

حتى الآن) لوجدنا بعضاً من طرحه الشعري المغاير؛ فقد نشر قبل خمسة وعشرين

شهراً قصيدة بعنوان (نجمة الاعتصام) نرى فيها شاعراً غاضباً، يستعير قناع

(حكيم القبيلة) أو (حادي القافلة) ويسخر من المشهد المحيط بنا [٤] ، إنه يرى مشهد

قومه فيتأمله:

رَقَص الحبْلُ بالراقصين

بعد دبكتهمْ نصَف قرٍن علَيهْ

فانهمرْ ياسَلاَم

(عارضٌ ممطرٌ)

وانتثر ياشَرَرْ

ياسعادتهم بالمطرْ [٥]

لاتتعجب، فهذا الذي يرقصون عليه ليس سُلّما! وإنما هو (حَبْل) الحبل

مراوغ، والسلم أكثر ثباتاً منه! وهذا (السلام) الذي سينهمر كالمطر، هو في رؤية

شاعرنا (سلام مراوغ) كرقصة (الدبْكة) فوق الحبال! هو لو يعلمون شرر لنيران

تتأجج، وستحرق ولن تبقي ولن تَذَرْ.

ولاينسى الشاعر أنه سليل الفاتحين العظام الذين ينتمون للطهر، والورود،

والجمر، وشمس النهار، وأفق الحياة، فيزرع فينا الأمل ويبعد عنا اليأس:

.. إني أرى رغم هذا الظلام!

في عروقي دَمَ الفاتحينْ

يتدفقّ بالطهر كالورد، كالجمرِ..

يَسْقي جذوعَ الكَلِمْ!

هو مابينها يضطرمْ!

وهي تمنحه نبضها

وتُهمّشُ فيه العدمْ

ثم تزرعُ من لونه الأرجوانيّ شمسَ النهارِ

وأفْقَ الحياة وشوقَ القممْ [٦]

ويجأر إلى الله في نهاية القصيدة أن يرزقه الشهادة، وأن يكون لظى تحرق

تاريخ فاقدي الوعي، المُدَجّنين، الذين يمدون يد الصداقة نحو ذابحيهم [٧] .

وفي النص الجديد (المخاض) نرى امتداداً لنص (نجمة الاعتصام) وكأنه

إكمال شعري له، إنه (يمور على نطع الأسئلة، يعذبه خطابه الشعري المخالف

للسائد. فهل تورده أسئلتُه موارد التهلكة؟ !

إنه لايتوقف أمام مايتهدده من عذاب، وإنما يكسر الصمت ومَنْ أسدله. من

(الكسر) نعرف عمق رغبته في التخطي والتجاوز، ومن (أسدله) نكتشف كيف كان

الصمت كاسراً، وكيف جرؤ النص على الكسر / لا التحطيم وها هو يحلم بـ

(أطايب الغيمة المثقلة) بالوعود الخضر، وسماء الرؤى المقبلة.. ويرى أن دمه هو

الذي يفتح أول الطريق.

وكأن نهاية القصيدة هنا تُكمل نهاية قصيدة (نجمة الاعتصام) وتُثْريها، فهو

هنا يقول:

ومن مهجتي أُوقد الشعرَ لَهْ

وأرقب دوري إلى المقصلةْ

ولكنّ جمرى الذي مَازَجَتْهُ المواجع..

إذْ أسرجتْهُ (البصائرُ) ..

يوماً سيحصُدُ من كَبّلَهْ [٨]

فقد تحدد الدرب أمام السالك، وأصبح المأمول حقيقة. فقد كان مطلبه في

نهاية (نجمة الاعتصام) :

فيارب لاتجعل حياتي مهينةً ... ولاميتتي بين النساء النوائحِ

ولكن شهيداً تدرجُ الطيرُ حوله ... وتأكلُ غربانُ الفلا من جوانحي

وياربّ لاتجعلْ من القيد معصماً ... أَجُرّ به خزيي! وتُطوى مطامحي!

ولكنْ لظىً يغلي ليدفنَ تحتهُ ... تواريخَ مَنْ مدّوا يداً نحوَ ذابحي [٩]

لقد تَحددّ الطلب، وأصبح المطلب الفردي رغبةً جماعية يُسرجها أهلُ

(البصائر) في هذا الظلام الدامس.

وهذه القصيدة (المخاض) أقرب إلى الرؤى الفكرية، التي تمور بالفكر، فهي

أقرب إلى الومضة الشعرية، أو الدفقة الشعرية الحارة التي تخاطب العقل كما كان

يخاطبه الكلاسيكيون وشعراء مدرسة (الديوان) بينما كانت قصيدته (نجمة

الاعتصام) متوهجة بالشعر الوجداني الخالص، الذي يكشف أغوار النفس،

ويضيء زواياها المعتمة، وقد أصاب الترهلُ والسقوطُ (الواقِعَ) باليأس من الجهاد

(إنه في القصيدة رقص وليس جهاداً) فهم هرولوا نحو العدو.

وعلى أية حال، فتجربة تركي المالكي من التجارب الثرية في الشعر

الإسلامي المعاصر، وتحتاج إلى المتابعة والنقد.

أَنّهُُ شوق: لمحمد إدريس:

قصيدة محمد إدريس (أنّةُ شوق) تطلعنا على شاعر مكتمل الأدوات، ينتظره

مستقبل في عالم الشعر، ومن مطلع قصيدته التي تقع في تسعة أبيات نعرف أن

شاعرنا مجدد يخوض تجربة جديدة في العروض العربي:

ربما الّصّمْتُ مناجاةُ غريبٍ وحبيبٍ لحبيبْ

أخرس البْيْنُ صداها، فتوارتْ في الفؤاد [١٠]

فهذا النص يتخذ من (بحر الرمل) إطاراً موسيقياً، لكنه يزيد تفعليةفمن

المعروف أن (بحر الرمل) ست تفعيلات.

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ... فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

لكن شاعرنا هنا يزيد تفعيلة كاملة، فيصير الوزن عنده:

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

ويصيب التفعيلة الأخيرة في الضرب والقافية بعض التغيرات.

كأن تصير فَعِلاتُ، أو فاعِلن، أو فَعِلن. هذا معروف في موسيقي بحر

الرمل [١١] لكن ما يؤخذ على شاعرنا محمد إدريس أن أعاريض [١٢] أبياته

لاتسير على وزن واحد فإذا أخذنا الأبيات الثلاثة نموذجاً وهي تقول:

ربما الصمتُ مناجاة حبيبٍ لحبيبْ ...

... ... ... ... أخرس البَينُ صداها، فتوارتْ في الفؤاد

رُبّما الشوقُ جراحات تنزّى في الحنايا

... ... ... ... أوهتِ الروح، فراحتْ تَتَلظّى في البعاد

لا تلمني ياخلي البال تلهو سادراً ...

... ... ... ... إن بدت مني دموع، وشرود في ازدياد

فأعاريض الأبيات الثلاثة تأتي على أوزان (فَعِلانْ فاعلاتن فاعلن (أما أضْرُبُهُ

فتسير على وزن (فاعلاتن) (ولا أدري لماذا لم يكسر الدال، فكل القصيدة تنتهي

بالدال المكسورة)

وهذه القصيدة تجربة تجديدية جيدة تحسب للشاعر، وترينا أن إمكانات

الموسيقى في الشعر العربي وافرة، وهي تنتظر من يكتشفها من خلال تجاربه

الشعورية والوجدانية ليُثري بها ديوان الشعر العربي.

والله من وراء القصد.


(١) تركي المالكي: المخاض، مجلة (البيان) العدد (٩٤) ، جمادى الآخرة ١٤١٦هـ، ص ٥٩.
(٢) المنجد، ط ٣٣، دار المشرق، بيروت ١٩٩٢، ص ٧٧٩.
(٣) السابق، ص ٨١٦.
(٤) السخرية نادرة في الشعرالعربي، فهل يقبض تركي على هذه الجمرة؟ وهل يتحمل القبض على الجمرتين: الشعر، والسخرية معا؟ .
(٥) تركي المالكي: نجمة الاعتصام، مجلة (البيان) العدد (٦٩) جمادى الأولى ١٤١٤هـ، ص ٣٨.
(٦) السابق، ص ٤١.
(٧) لنا دراسة نتناول فيها (نجمة الاعتصام) لما تنشر بعد.
(٨) تركي المالكي: المخاض، مصدر سابق، ص ٥٩.
(٩) تركي المالكي: نجمة الاعتصام، مصدر سابق.
(١٠) محمد إدريس: أنّة شوق، مجلة (البيان) العدد (٩٣) جمادى الأولى ١٤١٦هـ، ص ٥٨.
(١١) انظر مثلا كتاب د محمد علي الهاشمي: (العروض الواضح وعلم القافية) ط١، دار العلم دمشق ٢! ١٤هـ ١٩٩١، ص ٨٩فما بعدها.
(١٢) العروض: آخر تفعيلة من الصدر.