للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خواطر في الدعوة

[إحياء التراث.. كيف يكون؟]

محمد العبدة

ليس غريباً أن يهتم المسلمون اهتماماً بالغاً بتراثهم العلمي، فيحاولون

إخراجه بحلة جديدة مع التحقيق والتدقيق، بل هذا من الواجب المناط بهم؛ فإنه لا

نهضة ولا قوام لهم إلا بالاتصال بهذا التراث: فهماً ودراسة، وتأملاً وعبرة، وفي

الوقت نفسه: نقداً وتصفية لما علق به مما يخالف أصول الإسلام وثوابته ومفاهيمه، متأثراً بالظروف المكانية والزمانية.

إن الأمة المبتورة المنقطعة عن ماضيها لا خير فيها؛ فالتراث هو القاعدة

الأساسية للانطلاق، ولكن هل نكتفي من الإحياء بتحقيق النص وذكر اختلافات

النسخ ما بين (أ) و (ب) .. إلى غير ذلك من وسائل علم التحقيق وأدواته -

الذي تقدم له في هذه الأيام من لا يحسنه -؟ أم أن هناك إحياءً من نوع آخر،

يجب أن يترافق مع هذا التحقيق -إن لم يكن هو الأصل والأساس -؟ ، ذلك هو إحياء أصحاب التراث في أخلاقهم وعملهم وعقلهم، فإذا أحيينا تراث الإمام

أحمد (رحمه الله) ، فلماذا لا نحيي صموده في وجه البدعة التي أرادت الدولة فرضها بالقوة، ونحيي حرصه على جماهير الأمة ألا تقع ضحية هذه البدعة، وليس أمامها عالم تقتدي به، فصبر وصابر، وكانت العاقبة للمتقين.

وعندما نحقق ما جمعه المحدثون، كي نميز الصحيح من الضعيف، فلماذا لا

نحيي منهجهم في طلب العلم والرحلة إليه، وتحملهم المشاق العظيمة في ذلك، ولو

أن يسمع حديثاً واحداً، ومنهجهم في الضبط والتوثيق، والبصر في الروايات

والرواة؟ . ولماذا لا نحيي أدب الشافعي (رحمه الله) في الحوار واهتمامه بأمر

المسلمين عندما نجده يتأسف أن تكون مهنة شريفة كالطب بأيد ي اليهود والنصارى، واهتمامه باللغة العربية لما رأى أن المسلمين أهلكتهم العُجمة فابتعدوا عن فهم

كتاب الله؟ .

إن نقل علم ابن تيمية من المخطوطات إلى الورق الأبيض لهو شيء مهم

وضروري، ولكن.. لماذا لا نحيي فيه تلك العقلية العلمية الواسعة وذاك الإنصاف

والاعتدال في تقويم الرجال، وتلك الأخلاق العالية في الاعتذار لمن يغلب عليهم

اتباع الحق، ولكن تبدر منهم هفوات وزلات، ثم محاربته لأهل الإلحاد ودفاعه عن

حياض الإسلام؟ ، وإن الذي يحيي فقه ابن المسيب لجدير به أن يحيي صلابته في

الحق، والذي يكثر من ترديد (إحياء منهج السلف) لو أنه يتمثل بشجاعة ابن

المبارك، وكرم الليث بن سعد، ويحيي منهج السلف في العمل والبعد عن شهوات

الرئاسة العلمية والتصدر للناس، وأن يتمثل صفاء قلوبهم وكثرة عبادتهم وخشيتهم،

وبعدهم عن الخصومات الردّية والمردية.

هذا الإحياء للتراث هو الداء الشافي لموات هذه الأمة، حتى لا تكون كما قال

الشاعر:

خلي الغمد، ما في الكف مال ... وهذا الرف يهوي بالكتاب