للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

السلام.. كما جاء في القرآن الكريم

بقلم: د. محمد بن عبد الله الشباني

ورد لفظ (السلام) ومشتقاته في عدد كبير من آيات القرآن الكريم، حيث عالج القرآن الكريم مفهوم السلام وفق معنى الإسلام الذي يقوم على ضرورة الخضوع التام والمطلق لخالق الإنسان، من حيث القبول والتسليم بما يُوجبه الله، وتكييف السلوك وفق مقتضيات ذلك.

إن أصل مادة (السلام) تأتي من الفعل الثلاثي (سَلَمَ) والمشتقات منه التي تأتي

لمعانٍ متعددة، لكنها جميعاً تدور حول مفهوم: الاستسلام، والطاعة، والخضوع،

والصلح، وترك الحرب والمنازعة، والسلم، والأمان، ولاستجلاء هذه المعاني

للفظة (السلام) كما جاء في القرآن الكريم فسوف أستعرض المعاني والدلالات التي

ورد فيها لفظ (السلام) على النحو التالي:

أولاً: في مجال الحياة الأسرية:

ورد أحد مشتقات كلمة (السلام) في سورة البقرة عند معالجة القرآن الكريم

لجانب من جوانب الحياة الأسرية، الذي يتعلق بحماية الطفولة وتحقيق الأمان عند

انفصام الروابط التي تجمع بين عنصري الأسرة (الأب، والأم) في قوله (تعالى) :

[وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى

المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نُفْسٌ إلاَّ وسْعَهَا.... . وَإنْ أَرَدْتُّمْ

أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُم إذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] [البقرة: ٢٣٣] في هذه الآية ورد لفظ (سَلّمتم) ، وهو أحد مشتقات كلمة (السلام) ، وقد جاء اللفظ ضمن سياق آيات نظّمت

وعالجت أموراً تتعلق بالنتائج التي تترتب على الخلاف الذي يقع بين الزوجين؛

مما قد يؤدي إلى الانفصال النهائي، وبالتالي: فقد تم تنظيم علاقة الأطفال الذين

نتجوا عن تلك العلاقة، ولقد استخدم القرآن الكريم لفظ (سَلّمْتُم) بدلاً من أي لفظ

آخر يفيد المنح والإعطاء؛ لنكتة بلاغية وتربوية، وهي: أن السلام في الحياة

الأسرية من أهم متطلبات الاستقرار النفسي لأفراد الأمة، ومن هنا وردت كلمة

(سَلّمتم) لتنظم العلاقة بين الزوجين المنفصلين؛ بإضفاء مفهوم الأمان، ويورد

الزمخشري (رحمه الله) عند تفسيره لهذه الآية معنًى جليلاً لمفهوم (السلام) في

الأسرة المسلمة، فيقول: (إذا سلمتم إلى المراضع ما آتيتم: ما أردتم إيتاءه، كقوله

(تعالى) [.. إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ..] [المائدة: ٦] وقرئ ما أتيتم من أتي إليه

إحساناً إذا فعله، ومنه قوله (تعالى) [.. إنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَاًتِياً] [مريم: ٦١] أي

مفعولاً، وروى شيبان عن عاصم: ما أوتيتم أي ما آتاكم الله، وأجركم عليه من

الأجرة ونحوه، وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو نَدْب إلى الأَولى،

ويجوز أن يكون نعتاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنأ ما يكون

لتكون طيبة النفس راضية؛ فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره،

فأمرنا بإتيانه ناجزاً يداً بيد، كأنه قيل إذا أديتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن

بالمعروف؛ مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما

أمكن؛ حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن) [١] ! .

ثانيا: في مجال الحرب والسلم:

جاء لفظ (السلام) في القرآن الكريم في مواضع عديدة، عندما تحدث القرآن

عن علاقة المجتمع المسلم مع بقية الجماعات الأخرى التي تدين بغير دين الإسلام،

وأوضح الإطار الذي يحدد مظاهر ونوعية علاقات السلم، والظروف التي يمكن

فيها قبول المهادنة والصلح مع العدو، ولهذا لابد من فهم هذه الآيات التي تحدثت

عن الحرب والسلم وورود لفظ (السلام) فيها كوحدة واحدة؛ لمعرفه كيفية بناء

العلاقات السلمية مع الجماعات والمجتمعات الأخرى على النحو التالي:

١- المناوأة والمضادة للمجتمع المسلم:

من أبرز الآيات التي يُسْتَشْهَدُ بها لإجازة السلام مع أعداء الأمة قوله (تعالى) :

[وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا..] [الأنفال: ٦١] وذلك بعد فصلها عن سياقها.

ولفهم هذه الآية لابدّ من فهم الآيات السابقة واللاحقة لها، فهذه الآية جاءت تعقيباً

بعد قوله (تعالى) : [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم..] [الأنفال: ٦٠] وجاء بعدها قوله

(تعالى) : [وَإن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ..] [الأنفال: ٦٢] ، وإذا أردنا فهم هذه

الآيات أو ربطها ببعضها، فلابد من الرجوع إلى ما قبلها من الآيات التي حددت

الظروف الحربية التي كانت سائدة في زمن الرسول، فقد وصف القرآن الكريم هذه

الظروف بقوله (تعالى) : [إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ..] [الأنفال: ٥٥] ، فقد وصفت هذه

الآيات حقيقة الكفر والكافرين فيما يتعلق بمدى التزامهم بمواثيقهم، ولقد أوضح ابن

كثير (رحمه الله) في تفسيره لهذه الآية: ماذا ينبغي أن تمارسه الأمة، يقول (رحمه

الله) : (أخبر (تعالى) أن شر مادة على وجه الأرض هم الذين كفروا، فهم لا

يؤمنون، وكلما عاهدوا عهداً نقضوه، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه، وهم لا يخافون

من الله في شيء ارتكبوه من الآثام، فإن تَغْلِبْهُم وتَظْفَرْ بهم في حرب فنكلْ بهم:

قاله ابن عباس، والحسن البصري، والضحاك، والسدي، وعطاء الخرساني،

وابن عيينة، ومعناه: غلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف مَن سواهم مِنْ الأعداء

من العرب وغيرهم، ويعتبروا أو يصيروا لهم عبرة [لعلهم يذكرون] ، وقال

السدي: يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيقع بهم مثل ذلك [٢] .

إن السلام لا يقوم بدوره لصالح المسلمين إلا عندما يدرك العدو أن المسلمين

يمتلكون القدرة على تأديب الأعداء عند عدم احترامهم للمعاهدات، لهذا لا يمكن

تحقيق السلام إلا إذا ذاق اليهود وأعوانهم الهزيمة المرة وأصبحوا تحت سيطرة

المسلمين، وبالتالي: سيوفون بالعهد خوفاً من أن يُنكل بهم، ولكنهم إذا عرفوا أنهم

إذ ينقضون المواثيق يحصلون على أوضاع أفضل مما حصلوا عليه؛ فإنهم لا

يمتنعون عن نقض تلك المواثيق، وما يحدث من نقض لمواثيق وعهود في البوسنة

والهرسك مثلاً لدليل معاصر يؤكد هذه الحقيقة.

إن قبول السلم والمهادنة مع الأعداء كما أوضحته الآية يرتبط بالالتزام من

قبل الأمة الإسلامية بما جاء في الآية التي سبقت آية [وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ..]

[الأنفال: ٦١] وهي قوله (تعالى) : [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم..] [الأنفال: ٦٠] ، فقد أعقب هذه الآية قوله (تعالى) : [وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ..] [الأنفال: ٦١]

فشرط قبول السلام أو المهادنة كما أوضحته الآية السابقة يتمثل في أمرين:

الأول: عدم جواز عقد الهدنة إلا إذا توفرت للأمة عناصر القوة، المتاحة

وفق ما يتوفر في كل عصر من العصور من أسباب القوة، وأن على الأمة العمل

على توفير هذه القوة بتنمية القدرات العسكرية بشكل مستمر ومتواصل حتى في

عهد السلم، وبالتالي: - فأي مهادنة من قبل أي حاكم مسلم لا تكون سارية إذا أخل

بهذا الشرط، وقد أشارت هذا الآية إلى حقيقة مهمة، وهي: عملية تنمية القوة

العسكرية واعتبار أنها الوسيلة الفعالة لتحقيق السلام الحقيقي، كما في قوله (تعالى) : [.. تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ..] [الأنفال: ٦٠] ، فالاستعداد لا يُقصد

به القيام بالحرب، وإنما هو التخويف به، أي: تحقيق الردع؛ ولهذا: وجّه الله

(تعالى) الأنظار إلى أن هذا الاستعداد يحتاج إلى الإنفاق، وأن على أفراد الأمة بذل

المال في هذا السبيل، وأن هذا الإنفاق لغرض تحقيق إرهاب العدو هو إنفاق في

سبيل الله، يجزي الله المنفقين على بذله، فلا يُبْخسون شيئاً مما أنفقوه في هذا

الوجه، كما أن الاستعداد وتنمية القدرات العسكرية يجب أن يكون بتنمية القدرة

على تصنيع هذا السلاح، والعمل على توفير المناخ الإداري والسياسي والمالي

لتوفير القدرة على ذلك، فشراء السلاح من الأعداء بدون العمل على توفير

الإمكانات لصنعه يعتبر تضييعاً لحق الأمة، وصرفاً لمفهوم قوله (تعالى) :

[وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم..] [الأنفال: ٦٠] .

الأمر الثاني: عدم قبول السلام أو المهادنة من موقف الضعف؛ فيجب إلغاء

أي معاهدة أو هدنة إذا اتضح أن الالتزام بها سوف يؤثر على مصالح الأمة،

وعندئذٍ، ووفق الأخلاق الإسلامية التي يأمر بها الله، فإن من الواجب إبلاغ

الطرف الذي تمت المعاهدة معه بإلغائها والاستمرار في مناصبة العدو الحرب إلا إذا

قبل العدو تعديل المهادنة وفق مصلحة الأمة، والامتناع عن طلب السلم معهم إلا إذا

طلبوا المسالمة وخضعوا لشروط المسلمين؛ أي إن السلام يكون مطلباً للعدو بعد أن

يدرك أن القوة للمسلمين، وليس أمامه إلا طلب السلام والقبول بما يفرضه

المسلمون من شروط، يقول ابن كثير (رحمه الله) في تفسير قوله (تعالى) [وَإن

جَنَحُوا لِلسَّلْمِ..] الآية: (فإذا خفت من قوم خيانة فانبذ لهم عهدهم على سواء،

فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، وإن جنحوا، أي: مالوا، للسلم، أي:

المسالمة والمصالحة والمهادنة، فاجنح لها، أي: فمل إليها واقبل منهم ذلك؛ ولهذا

لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، أجابهم إلى ذلك) [٣] . ...

وبجانب ما أشارت إليه هذه الآيات من سورة الأنفال من شروط لقبول السلام

والمهادنة مع الأعداء، فقد أوضحت سورة النساء أوضاعاً أخرى لقبول المهادنة

وتحقيق السلم مع الأعداء، وذلك في حالة أن يكون هناك ضعف داخلي في مجتمع

المسلمين، وأعداء يتربصون بهم، يتحينون الفرص للانقضاض على الأمة، يقول

(تعالى) : [فمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا

مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا

فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِياً وَلا نَصِيراً (٨٩) إلاَّ الَذِينَ يَصِلُونَ

إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا

قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ

السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَاًمَنُوكُمْ

وَيَاًمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ

وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً] ... [النساء: ٨٨- ٩١] .

السلام الذي تتحدث عنه هذه الآيات، إنما هو سلم متعلق بوجود ظروف

توزع القوة بين معسكر الإسلام ومعسكر الكفر؛ أي إن القوة متكافئة بين المسلمين

والكفار، ولهذا تعمد فئة بالتظاهر بالإسلام أو بالوقوف على الحياد، وقد أوضحت

هذه الآيات نوع المهادنة والسلم، والأسلوب الذي يجب انتهاجه. وهذا التوجيه

الوارد في هذه الآيات يخص حالة قيام دولة مسلمة في مجتمعات إسلامية، وفي

حالة وقوع معارضة لولي أمر المسلمين من فئات تنازعه الأمر بادعاء شرعي

فتطلب المصالحة أو المهادنة، كما حدث من طلب معاوية (رضي الله عنه) الصلح

والتحكيم من علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) الذي كان أميراً للمؤمنين، ويؤكد

هذا المفهوم ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد بسنده إلى علي بن أبي طالب (رضي

الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: (إنه سيكون اختلاف أو

أمر، فإن استطعت أن يكون السلم فافعل) [٤] .

كما توضح الآيات طبيعة السلم والمهادنة في حالة التعامل مع المنافقين الذين

يدّعون الإسلام، أو في ظل مفهوم السلام العالمي، ويتمثل ذلك في الحقائق التالية:

١- إن طبيعة المنافقين هي خذلان الأمة في أشد المواقف خطورة حيث

يمارسون دور التثبيط وزعزعة ثقة الأمة بنفسها، فهم يعمدون إلى تخويف الأمة

من أعدائها؛ ليغرسوا فيها الوهن حتى لا تقاوم العدو فتستسلم له. وهذه الطبيعة

المتأصلة في نفوسهم إنما تعود إلى اتباعهم الباطل، ولذا: لا نجد فترة من فترات

التاريخ الإسلامي كان المنافقون أصحاب القوة والنفوذ في الأمة إلا ونجد أن الأمة

وقعت في قبضة الأعداء، وإن مجانبة هذا الأمر تكون بمنع المنافقين أن يُوَلّوْا قيادة

الأمة، وعدم موالاتهم أو الاستعانة بهم وطلب النصرة منهم.

٢- حددت الآيات نوعية نفاق الجماعات سواء داخل المجتمع المسلم أو

خارجه، وتتمثل هذه الجماعات في دول كافرة، سواء أكان كفرها متمثلاً في تبني

العلمانية منهاجاً يقوم عليه نظام الدولة، أو دول أو مجموعات بشرية تتظاهر

بانتمائها للإسلام ولكن الكفر هو حقيقة هذه الجماعات أو الدول.

لقد أوضحت هذه الآيات كيفية التعامل مع هذه النوعية من الدول أو التجمعات

البشرية؛ وذلك بتصنيف علاقة السلم والحرب إلى نوعين من التعامل: النوع

الأول: مسالمة هذه الجماعات أو الدول التي ترتبط مع دول أو مجموعات بينها

وبين الدولة الإسلامية مهادنة وترغب أن تقف على الحياد، وهذا ما فعله رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- مع بني مدلج، فقد أورد ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:

عن سراقة بن مالك المدلجي (رضي الله عنه) أنه حدثهم، قال: (لما ظهر النبي -

صلى الله عليه وسلم- على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني

أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته، فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: مه، فقال النبي: دعوه، ما تريد؟ قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى

قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم

يسلموا لم تخشن لقلوب قومي عليهم، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد

خالد بن الوليد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا

على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم) [٥] .

الثاني: يشبهون النوع الأول في الصورة الظاهرة، ولكن يختلفون في أن نية

هؤلاء غير نية النوع الأول، فهم لا يظهرون المناجزة والمساندة في الظاهر حتى

ينالوا المنفعة من المجتمع المسلم، ولكنهم في الحقيقة مع الأعداء، يتآمرون ضد

مصلحة المسلمين، بل إنهم يعمدون إلى المخادعة والتضليل، وقد ذكر ابن كثير

عن ابن جرير عن مجاهد أن قوله (تعالى) : [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَاًمَنُوكُمْ

وَيَاًمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ

وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ..] [النساء: ٩١] قد نزل في قوم

من أهل مكة، كانوا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسلمون رياءً، ثم

يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، ويبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا،

فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا) [٦] .

إن هذا النوع لا يقتصر على الأفراد المذبذبين، بل يتعدى ذلك إلى الدول

والجماعات التي تمارس الخداع والتضليل؛ إما من أجل تخدير المجتمع المسلم

ونزع روح المبادرة، أو من أجل نهب خيراته من خلال إظهار مناصرة قضاياه

وحمايته من أعدائه بقصد ترويض المجتمع المسلم، ولهذا: فإن على المجتمع

المسلم ألا يسمح لهذا النوع من النفاق الكافر بالوجود، والعمل على قتالهم، وإن

المهادنة معهم لا يجوز عقدها إلا إذا التزموا بكف الأذى وعدم التدخل في أمور

المجتمع المسلم.

لقد أوضح القرآن الكريم أن المهادنة وعقد السلام كما جاء في القرآن الكريم لا

يجوز إلا عندما يتم تحقيق ما جاء في آيات سورة محمد، حيث قال (تعالى) : [إنَّ

الَذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا

تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ]

[محمد: ٣٤، ٣٥] . فقد حددت هذه الآية عدم جواز بدء طلب السلم أو المهادنة إلا إذا تحقق ما يريده الله: من أن المسلمين يكونون هم الأعلون، وبالتالي: فإنهم لا يطلبون السلام، ولكن يمنحونه لغيرهم إذا طلبه العدو، لما فيه من مصلحة الناس؛ من حيث تمكينهم من سماع كلمة الله حتى تقوم الحجة على الناس، فلا يكون للناس حجة بعد الرسل؛ ولهذا: جاء الإسلام ووضع أحكاماً لأهل الذمة من أجل أن يتحقق المبدأ الأساس في الإسلام، الذي أشار إليه قوله (تعالى) : [لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِ] [البقرة: ٢٥٦] .

ثالثاً: جاء لفظ (السلام) بمعنى الخضوع والاستسلام لله، الذي هو المفهوم

الحقيقي لدين الإسلام، فقد ورد لفظ (السلام) ومشتقاته للدلالة على الإسلام، الذي

يعني كمال الخضوع والذلة والاستسلام لله بما شرعه وأمر به، فقد ورد لفظ (السّلم)

بهذا المعنى في قوله (تعالى) : [يا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا

خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ..] [البقرة: ٢٠٨] ، فإذا جاء من يعرف معنى هذه الآية،

ويستشهد بأنها دليل على أن الإسلام يأمر بعقد السلام مع أعداء الله الذين نهبوا

الأرض وأخرجوا المسلمين من بلادهم، وشردوهم في الأرض، فقد صرف معنى

الآية عن مفهومها الذي نزلت به إلى معنى آخر مغاير لما نزلت من أجله.

إن المعنى الحقيقي لهذه الآية كما فسرها علماء المسلمين من المفسرين: هو

الأمر بالدخول في الإسلام، وقبول شريعة الإسلام، يقول الزمخشري: (السّلم

بكسر السين وفتحها وقرأ الأعمش بفتح السين واللام هو الاستسلام والطاعة، أي:

استسلموا لله وأطيعوه (كافة) لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته، وقيل هو الإسلام،

والخطاب لأهل الكتاب، لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، وللمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون (كافة) حالاً من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ... على

أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها، وأن لا يدخلوا في طاعة دون

طاعة، بل شُعَب الإسلام وشرائعه كلها، وأن لا يتركوا شيئاً منها، وعن عبد الله

بن سلام أنه استأذن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقيم على السبت وأن

يقرأ من التوراة في صلاته من الليل. [فإن زللتم] عن الدخول في السلم من بعد

ما جاءتكم البينات، أي: الحجج والشواهد على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو

الحق، فاعلموا أن الله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام منكم) [٧] .

ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يقول الله (تعالى) آمراً عباده

المؤمنين به المصدقين برسوله: أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل

بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك، فقال العوفي عن ابن

عباس ومجاهد وطاووس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله

[ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ..] يعني: الإسلام، وقال الضحاك عن ابن عباس، وأبو العالية، والربيع، عن أنس [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ..] يعني: الطاعة، ومن المفسرين من

يجعل قوله [كَافَّةً] حالاً من الداخلين في الإسلام: كلكم، والصحيح الأول، وهو: أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جدّاً ما

استطاعوا منها، كما روى ابن أبي حاتم ... عن ابن عباس [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] كذا قرأه بالنصب، يعني: مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله

مستمسكين ببعض أمور التوارة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله: [ادْخُلُوا فِي

السِّلْمِ كَافَّةً] يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا تَدَعُوا

منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها، وقوله: [فَإن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا

جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ] أي: عدلتم عن الحق بعدما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله

عزيز، أي: في انتقامه، ولا يفوته هارب) [٨] .

والآيات التي ورد فيها لفظ (السلم) ضمن مفهوم الإسلام المتضمن لمعاني

الخضوع والاستسلام مثل قوله (تعالى) : [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ

أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ..] [البقرة: ١١٢] ، وقوله (تعالى) : [أفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ

أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً..] [آل عمران: ٨٣] .

رابعاً: لقد ورد لفظ (السلام) في القرآن بما يفيد ضرورة استخدامه كتحية

يتخذها الأفراد، بقصد بث الأمان النفسي والمادي في المجتمع المسلم، وقد ورد

هذا المعنى في صور ومواقف متعددة، كحكاية عن واقع لما سيحدث في الدار

الأخرى، ولطمأنة أفراد المجتمع بعضهم لبعض في تعاملهم، ومن ذلك: ما ورد

في سورة هود، في قوله (تعالى) : [وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا

سَلاماً قَالَ سَلامٌ..] [هود: ٦٩] ، وقوله (تعالى) : [إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً

قَالَ سَلامٌ..] [الذاريات: ٢٥] ، وقوله (تعالى) : [.. قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ

وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى] [طه: ٤٧] ، وقوله (تعالى) : [.. لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً

غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَاًنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا..] [النور: ٢٧] ، وقوله (تعالى) : [.. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً..] [النساء: ٩٤] ، وغير

ذلك من الآيات التي تدور حول مفهوم السلام الذي يعطي الأمان ويبث الاطمئنان في

النفوس ويزيل عنها الخوف والوجل.

فهذه الآيات جميعها تشير إلى أن السلام هو الأمان النفسي والمادي؛ ولهذا

يأمر الله عباده المؤمنين أن يمارسوا قول السلام وفعله في الدنيا لتحقيق السلام

الاجتماعي، الذي يمثل الغاية التي يسعى إليها الإسلام، فالسلام بمختلف معانيه

يقود إلى الأمان الذي هو غاية كل إنسان.

خامساً: ومن المعاني التي ورد فيها لفظ (السلام) أنها اسم من أسماء الجنة،

باعتبار أن السلام الحقيقي الدائم والمستمر هو ما يتحقق في الجنة، حيث يتحقق

للإنسان الأمان النفسي والمادي والخلود الأبدي، فهو السلام الذي يطمح إليه الإنسان، يقول الله (تعالى) مخبراً عن ذلك: [لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا

كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأنعام: ١٢٧] ، ولأن مانح السلام الحقيقي في الدنيا والآخرة هو

الله (سبحانه) ، ولأهمية السلام وعظيم شأنه فقد سمى نفسه بذلك، فمن أسمائه

الحسنى: (السلام) كما جاء في قوله (تعالى) : [هُوَ اللَّهُ الَذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ

القُدُّوسُ السَّلامُ..] [الحشر: ٢٣] .


(١) الكشاف، للزمخشري، ج١ ص ٣٧١ ٣٧٢.
(٢) تفسير ابن كثير، ج٢ ص ٣٢٠.
(٣) السابق، ج٢ ص ٣٢٢.
(٤) السابق.
(٥) المصدر نفسه، ج١ ص ٥٣٣.
(٦) السابق.
(٧) الكشاف، ج١ ص ٣٥٣.
(٨) تفسير ابن كثير، ج١ ص ٣٤٧.